ديزموند توتو… وركب لم تجثو للبعل

إميل أمين- مصر

إيلاف

 

هل بات من الضروي على رجل الدين اي دين وكل دين ان يخرج من الثوب الميتافيزيقي الذي تكاد ان تنحصر الاديان في عباءته ليتدثر باكثر مشهد بالثوب السيسولوجي القريب من الناس والذي يشعر بهمومهم وامالهم والامهم والذي يدافع ويكافح في صبر وجلد على مصالحهم وحقوقهم حتى لو كلفه ذلك اخر قطرة من دمه؟

 

اغلب الظن ان ذلك اضحى امرا واجب الوجود سيما في زمن الازمات والملمات الجسام، على انه شان في حاجة الى ركب لم تجثو بعد لبعل القوى الاستعلائية الضاربة جذورها حول البسيطة، المرتكنة الى نيران مدافعها لا الى قدرة مبادئها او تاثير اخلاقياتها ومثلها العليا، ركب ترفض العولمة المتوحشة والاحتلال الاعمى، والبراجماتية المقيتة، ركب قادرة ان يعلو صوتها بالحق "ان كنت قد تكلمت بالردئ فاشهد بالردئ والا فلماذا تضربني؟".

 

وعلى الرغم من ان صوت الحق كثيرا ما يضيع بين ثنايا اصوات الباطل في السنوات الاخيرة الا انه ومن رحمة السماء لاتزال هناك اصوات تصدح بالحق والحقيقة مهما كانت الصعاب والعقبات لا تخشى من بطش المحتل ولاتهاب سطوة الاحتلال ذلك ان الحق احق ان يتبع وانه حبيب الله وعلى المدى البعيد يدرك هؤلاء ان دولة الظلم ساعة ودولة الحق الى قيام الساعة ومن هنا يجئ الحديث عن هذا المناضل الجنوب افريقي الاسقف ورجل الدين ديزموند توتو والذي اعتبر ان ما فعلته اسرائيل في بيت حانون ولاحقا في غزة مجزرة مروعة و امر من قبيل جرائم الحرب وانه عار على البشرية ان تلتزم الصمت امام افعال التنكيل الاسرائيلية بالشعب الفلسطيني صاحب الحق التاريخي الحقيقي لا المنحول في وطنه.

 

وسيرة ديزموند توتو في واقع الامر تتقاطع مع الكثير من القضايا التي علا فيها صوت الرجل ضد الباطل والمتمثل في مرة في الغزو الامريكي للعراق ومرات في امتهان حقوق الانسان في افريقيا وكثيرا من خلال الظلم البين الذي باتت منظومة العولمة المهترئة تمثله في اجحاف واضح ضد فقراء العالم ودولهم النامية.

 

ينكا ديزموند توتو مؤخرا جراح الاستعلاء الغربي العنصري ففي حوار معه نشرته صحيفة اللوس انجلوس تايمز الامريكية مؤخرا دعا توتو الولايات المتحدة واوربا الى التواضع مذكرا بانه لا يخول لهما اعطاء دروس للقارة الافريقية في الديمقراطية ومكافحة الفساد.

 

واكد على انه على العالم الغربي الا يضع نفسه في موقف استعلاء معنوي وبينما يشترط قادة دول وحكومات مجموعة الثماني دائما تنمية الديمقراطية في القارة الافريقية مقابل مساعدات مالية اراد توتو قبل قمة الدول الثماني الاخيرة تذكير القادة الاوروبيين بالمزيد من التواضع عندما قال "انكم انتم الذين تسببتم في حربين عالميتين وعليكم الا تنسوا ايضا ان اسبانيا والبرتغال كانتا منذ وقت ليس بالبعيد ديكتاتوريين".

 

وفي السياق ذاته كان توتو يتحدث عن اشكالية الحرب التي شنتها واشنطن على الارهاب والتي كانت ولا تزال في حقيقة الحال منطلقا للكثير من المسالب وتاصيل العداوات وتعزيز الكراهيات في النفوس بين الشرق والغرب وبين اتباع الاديان… ما الذي قاله رجل التصالح والتسامح والحقيقة في هذا الشان؟.

 

يقول توتو: انت لا يمكن ابدا ان تكسب الحرب المزعومة ضد الارهاب ما دام هناك اوضاع في العالم تجعل من اليأس لدى الشعوب مقيما دائما في النفوس وبالتبعية طالما وجد الفقر والمرض والجهل بات من المتعذر ان تخلو النفوس والضمائر من الاحقاد، ويضيف: ان التفاوت بين الاغنياء والفقراء في انحاء العالم لاسباب عدم الاستقرار وانعدام الامن تؤدي بدورها للقلق والاضطراب وانه لايمكنك الحصول على جيوب من الازدهار في جزء واحد من العالم والصحارى مليئة من الفقر والحرمان ويكمل اعتقد انه لا يمكن على هذا النحو ان يكون لديك عالم امن ومستقر.

 

ويرى توتو على الدوام ان ما جرى في جنوب افريقيا يمكن ان يكون انموذجا لدول اخرى تفتقد اليوم للحرية والكرامة وتعاني من التمييز العنصري مثل ما يجري في فلسطين وان الحل العسكري ليس هو الحل لانه يضر بمستقبل اطفالنا ويضر بالحقيقة التي تكون الضحية الاولى في الحروب.

 

ومعروف ان توتو كان من اولئك المحتجين على معتقل جوانتانامو اذ يقول: ان هذا المعتقل يضر بصورة امريكا كقوة عظمى ودولة ديمقراطية ويقول عن حجج مكافحة الارهاب: ان الحجج التي تستخدم لتبرير اجراءات مكافحة الارهاب هي نفس الحجج التي كان نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا يستخدمها ويتساءل: هل تستطيع ان تعوض هؤلاء الناس عن الوقت الذي حرموا فيه من حريتهم؟ اذا كنت تملك ادلة ضدهم فاظهرهم في المحكمة…

 

والحاصل ان توتو لم يكتف فقط بالاشارة الى المصالحات المدنية او العلمانية بين الانظمة والشعوب بل يتخطى الامر الى حقيقة مصالحاته ودفاعاته عن الاديان واتباعها وكرامتها وهذا ما تبدي واضحا عندما شبه احد الفاشيين الهولنديين الجدد القران الكريم بكتاب كفاحي لادولف هتلر… ماذا عن هذا؟

 

في تصريح له على هذا الفعل المشين اعتبر الاسقف توتو انه امر مثير للاشمئزاز ويكشف عن جهل مطبق بالاسلام فالنائب الهولندي "فيلدرز" الذي انتج فيلما يعد فيه بان يشرك الجماهير على نطاق واسع في ارائه القائمة على الكراهية هو جاهل بابجديات الايمان والحوار مع الاخر ويضيف: ان تشويه ويلدرز لقيم الاسلام الاساسية لا يسئ الى المسلمين فحسب وانما نحن كمسيحيين نشعر باننا متضررون من هذا الفيلم لانه بمهاجمته الاسلام كدين يؤذي من يشتركون في المبادئ العالمية لجميع الديانات وهي احترام الاخرين وروح الخير والتضامن الانساني.

 

ووقتها قال توتو ايضا: انا قلق غاية القلق من ادعائه بان الفيلم سيكشف بما لايدع مجالا للشك عن ان القران نص يولد العنف والكراهية في العالم فهذا التشويه للحقيقة ليس خبيثا فحسب وانما هو خطر ايضا ويضيف متسائلا: اليس القصد من اثارة الكراهية ضد القران هو في الواقع توليد العداوة لمن يؤمنون بان القران مقدس؟ او ليس القصد من وراء القدح في الاسلام هو توليد العداوة للمسلمين كطائفة؟

 

ويخلص الى القول: ينبغي لنا مجتمعين ان نقاوم اية محاولة للتشنيع على اي معتقد او دين ويجب علينا بدلا من ذلك ان نتعامل في حوار بناء وصادق لكي نفهم معتقدات بعضنا بعضا وبهذه العملية يرجح ان نكتشف ان ما يوحدنا اكثر كثيرا مما يفرقنا.

 

ومع حلول الازمة المالية العالمية الاخيرة لم يكن الرجل بعيدا عن الدعوة لرفع الضغوط عن الفقراء في العالم كله من خلال سياسات عادلة كيف ولا وهو الذي ذاق الام والفقر والسجن لكن المحبة كانت اقوى حتى وهو خلف القضبان اذ كان يشارك سجانه في وجبة الطعام التي تحضرها له زوجته من خارج الاسوار. ففي مقابلة له مؤخرا مع وكالة IPS ابرز التناقض القائم بين تدخل حكومات الدول الصناعية لانقاذ الاسواق والشركات ودعمها للقطاعات الانتاجية وسياساتها الحمائية وبين الشروط التي تفرضها على البلدان النامية لتحرير التجارة وعدم التدخل في الاسواق وكمثال قال "توتو" ان اوربا تقدم قدرا كبيرا من الدعم لقطاعها الزراعي تبلغ كلفته دولارين في اليوم مقابل كل بقرة فيما يعيش ملايين من الاشخاص على اقل من هذا كما انها تعرقل دخول منتجات الدول النامية الى اسواقها في وقت تشدد فيه على حتمية ان تحرر هذه البلدان النامية لتجارتها. واكد على الازمة ذاتها تكشف عن اخفاق في نظام "حرية الاسواق" ونادى باعادة النظر في اصول الراسمالية وناشد الحكومات الافريقية ان تتكتل لحماية مؤسساتها طالما يحمي العالم الغرب شركاته المالية.

 

والثابت ان توتو كان قد اطلق في اوائل ايار الماضي صيحة مدوية طالب فيها بالغاء ديون الشعوب الفقيرة وفي هذا الصدد قال"ان الديون المجحفة تخضع الدول النامية لرحمة البلدان الغنية فهل من المعقول ان نترك الاطفال في افريقيا واسيا يموتون بامراض يمكن علاجها وحرمانهم من التعليم والحد من فرص حصولهم على عمل فقط لتسديد اقساط الديون المرتفعة وغير المشروعة التي اورثتها لهم الاجيال السابقة"؟… هكذا يتساءل وفي جوابة يقول: الحقيقة انه عندما افكر في ازمة الديون العالمية والتي تستنزف موارد الدول وتحرمها من فرص التنمية استحضر ليسوتو البلد الفقير المجاور لجنوب افريقيا فالعديد من سكان ذلك البلد يعيشون ظروفا بالغة القسوة بسبب افتقارهم للمواد الغذائية الاساسية فضلا عن انتشار الايدز في صفوف مواطنيها وغياب الادوية الملائمة لتخفيف معاناتهم والواقع ان ازمة ليسوتو تظهر بوضوح الاثار السلبية للديون على الاطفال والتداعيات المدمرة على مستقبل البلاد بعدما ارتهن مصيرها لتسديد الديون العالية.

 

ولان رجل الدين لا يفصل بين المبادئ الاخلاقية والتنفيذ العملي لذا نراه يذكر مشجعا بالمبادرات التي تطلقها قوى عالمية يصفها بالحية في المجتمع الدولي والداعية الى محو ديون الدول الفقيرة.

 

وهنا نراه يصف تلك الخطط بانها تنسجم مع المبادئ الدينية التي تقول بان كل ما يوجد على هذه الارض هو ملك لله والبشر جميعا مدعوون لتقاسم الخيرات الارضية وان استمرار الظلم امر ترفضه الشرائع الالهية وتمجه النواميس الوضعية.

 

ديزموند توتو ينصح دائما وابدا من يقرا له او يستمع اياه بالقول "ليكن قلبك ارحب من مساحات العالم، اهدم في اعماق روحك جميع الحدود الجغرافية واللغوية والدينية والاجتماعية، التي شيدتها انانية البشر"… هل من يسمع من ولاة وحكام العالم الجديد؟ ام ان لهم اذان ولا يسمعون وعيون ولا يبصرون؟

emileamen@gmail.com

عن موقع ابونا