عظة البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير 15/03/09

بكركي،  الأحد، مارس 2009(Zenit.org).

ننشر في ما يلي العظة التي تلاها البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير أثناء القداس الاحتفالي الذي ترأسه في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي.

* * *

"هل أنت المسيح ابن الله المبارك؟"

نتابع الحديث عن "يسوع الناصري" لقداسة البابا بندكتس السادس عشر، وقد تحدث عن المسألة المتعلقة بالقديس يوحنا. منذ عهد ايريناوس الذي من ليون (في فرنسا) المتوفي في سنة 202 يعتبر تقليد الكنيسة بالاجماع ان ابن زبدى هو التلميذ المحبوب، ومؤلف الانجيل، وهذا مطابق لعناصر التطابق الموجودة في الانجيل، الذي، في كل حال، يحيلنا على رسول هو رفيق يسوع في العماد في الاردن، الى العشاء الاخير، والصليب، والقيامة.

صحيح ان هذه المطابقة، في العصر الحديث، كانت موضوع شك متزايد. هل من الممكن ان يكون هو صياد السمك في بحيرة جناشر، قد ألف هذا الانجيل الرفيع القدر، الذي من خلال رؤاه، يسبح في عمق سر الله؟ كيف ان هذا الصياد الجليلي، قد استطاع ان يكون في علاقة مع ارستقراطية القدس الكهنوتية، ومع لغتها، وطريقة تفكيرها، كما كان في الواقع، هذا الانجيلي. هل كان مقربا من عائلة الكاهن الاكبر، كما يشير اليه النص، من طرف خفي؟ بعد أبحاث جان كولسن، وجاك ويناندي، وماري – اميل بواسمارد، ان شارح الكتاب المقدس الفرنسي هنري كازيل، لدى درسه علم اجتماع كهنوت الهيكل، قبل هدمه، أظهر ان مثل هذا التطابق كان مقبولا. والطبقات الكهنوتية كانت تحتفل مداورة مرتين في السنة، بمعدل اسبوع لكل منها. وبعد ان يكون الكاهن قد أنهى خدمته، يعود الى بلده: وكان، بطريقة عادية، يمارس مهنة تسمح له بان يكتسب حياته. ويبدو من الانجيل ان زبدى لم يكن صيادا بسيطا، بل كان يستخدم عدة مياومين. ولهذا كان باستطاعه ابنائه ان يذهبوا. "كان بامكان زبدى ان يكون كاهنا، فيما كان يهتم بملكه في الجليل، حيث كان الصيد في البحيرة يساعده على اكتساب قوته. وكان له ولا شك موطىء قدم الى جانب ذلك، او في حي القدس التي كان يقطنها الاسينيون". "هذه المأدبة التي كان فيها احد التلاميذ ينحني على صدر يسوع، قد تمت في مكان كان، على ما يظهر، في حي من المدينة كان يسكنه أسينيون"- في "موطىء قدم" زبدى الكاهن الذي ترك الغرفة العليا ليسوع وللاثني عشر."وفي مساهمة كازيل" هناك ملاحظة اخرى تهمنا: بحسب عادة اليهود، كان رب البيت ، او كما جرى هنا، في غيابه، كان ابنه الاكبر" يجلس الى يمين المدعو، ورأسه منحن على صدر هذا الاخير.

اذا كانت حالة البحث الحالية تتيح لنا ان نرى في يوحنا، ابن زبدى، هذا الشاهد الذي يجيب باحتفال بشهادته العيانية بتماهيه هكذا مع مؤلف الانجيل الحقيقي، فيبقى ان تعقيد تأليف النص يثير اسئلة اخرى. في هذا الاطار، علينا ان نعتبر ما يقوله احد مؤرخي الكنيسة، وهو اوسابيوس القيصري، الذي مات حوالى سنة 338. وهذا يتكلم عن مؤلف من خمسة مجلدات للمطران بابياس الهيرابوليسي الذي توفي سنة 220، الذي كتب انه هو لم يكن قد عرف او رأى شخصيا الرسل القديسين، غير انه قبل عقيدة الايمان من اشخاص مقربين من الرسل. وهو يذكر أشخاصا آخرين لعلهم كانوا هم ايضا تلامذة الرب، وأورد أسمي اريستيون، ويوحنا الكاهن. وان ما يهم هو انه يميز بين الرسول والانجيلي يوحنا من جهة، وبين الكاهن يوحنا من جهة ثانية. وهو لا يبدو انه عرف شخصيا الاول، لكنه التقى شخصيا الثاني.

هذه المعلومة جديرة بالانتباه، وينتج منها، ومن سواها من المعلومات، انه كان في أفسس ما يسمى مدرسة يوحناوية كانت تدعي انها تخص تلميذ يسوع المحبوب، غير انه كان فيها كان اسمه "الكاهن يوحنا"، وكان السلطة الحاسمة. هذا"الكاهن"يوحنا، يظهر في كتاب القديس يوحنا الثاني (1,1) والثالث(1,1) كمرسل وواضع الكتاب، لكنه تحت عنوان بسيط هو "الكاهن" (القديم) دون ان يذكر اسم يوحنا. وهو، على ما يبدو، ليس مقربا جدا من الرسول، ولعله عرف يسوع بالذات. وبعد وفاة الرسول، كان معروفا بانه كان حامل ارثه. وانتهى الوجهان بان يختلطا في الذاكرة. وعلى كل حال، يمكننا ان نعزو الى "الكاهن يوحنا" وظيفة اساسية في تدبيج الانجيل نهائيا، وكان يعرف في اثنائها انه المؤتمن الامين على التقليد الذي نقله ابن زبدى.

اني أود ان أتقبل عن يقين الاستنتاج الذي استخلصه بيتر ستولماخر من العناصر التي عرضتها. وهو يرى ان "محتوى الانجيل يرقى الى التلميذ الذي كان يسوع يحبه(خاصة). والكاهن اعتبر نفسه محطة له، وناطقا باسمه" وفي منظور مشابه، يقول اوجين راكستول وبيتر دشولينغ:" ان مؤلف الانجيل بحسب يوحنا هو نوعا ما من أوصى له تلميذ يوحنا". وانا، وقد تحققنا من ذلك، لقد خطونا خطوة حاسمة في مسألة صحة الانجيل الرابع التاريخية. وراءه، هناك شاهد عيان. وأخيرا ان الكتابة الحسية قد وضعت في حلقة تلاميذه الحية، وبطريقة حاسمة على يد تلميذ كان قريبا منه. ودائما في هذا المنظور، كتب ستولماخر ان "في مدرسة يوحنا تتابعت العناية بأسلوب التفكير والتعليم اللذين كانا قبل الفصح قد تحددا بأحاديث يسوع التعليمية مع بطرس، ويعقوب ويوحنا، (ومع مجموعة الاثني عشر في مجملها) ان التقليد الازاني يرينا كيف ان الرسل والتلاميذ تحدثوا عن يسوع في تعليم الكنيسة الرسولي والجماعي، فيما ان في حلقة يوحنا، على أساس هذا التعليم وفي نطاقه، لقد دفعوا التفكير "بشرحهم" سر وحي كشف الله عينه" في الابن". ويجب هنا ان نلاحظ انه، وبحسب نص الانجيل عينه، انا امام محادثات يسوع التعليمية الداخلية، اكثر مما نحن في صراعه مع اريستقراطية الهيكل التي فيها تجري، مسبقا، وقائع محاكمته. ان القضية، في أشكال مختلفة، هي "هل انت المسيح، ابن الله المبارك"؟ وهي تشغل تدريجيا من باب الضرورة وسط كل هذا الصراع الذي يظهر فيه، ولا يزال يظهر، بطريقة دائما مأساوية، ادعاء يسوع بانه ابن الله.

انه لعجيب ان هنغل الذي أعلمنا الشيء الكثير عن رسوخ الانجيل التاريخي في اريستقراطية الكهنوت المقدسي، وبالتالي في اطار حياة يسوع الواقع، يبقى- وهذا غريب- شديد السلبية، لكيلا لا نقول اكثر، او حذرا كل الحذر في ما خص التشخيص الذي يحمله عن طابع النص التاريخي، فهو يقول:" ان الانجيل الرابع هو بقدر كبير، ولكن ليس بكامله، "عمل يسوع الشعري".. وهنا يقودنا الشك الاساسي الى الضلال، بمقدار الثقة البسيطة، ومن جهة، ان كل ما ليس بتاريخي فهو ليس حتما خياليا. ومن جهة ثانية، بالنسبة الى الانجيلي (ومدرسته) ان الكلمة الاخيرة ليست لذكرى الماضي "التاريخية" المبتذلة، بل للباراقليط الذي يترجم ويقود الى الحقيقة. ويظهر اذذاك السؤال: ما معنى هذه المعارضة؟ وما الذي يجعل الذكرى التاريخية مبتذلة؟ وهل حقيقة الذكرى تهمنا ام لا؟ وما هي الحقيقة التي يمكن ان يقودنا اليها الباراقليط، اذا كان يترك وراءه البعد التاريخي باعتباره اياه مبتذلا؟

ان طابع مثل هذه المقاومة المشكوك فيه يعود بطريقة جذرية الى تحليل الشارح الكاثوليكي انغو بروير: ان انجيل القديس يوحنا يقدم ذاته الينا على انه عمل أدبي يشهد للايمان ويريد ان يقوي الايمان، وليس كشهادة تاريخية". عن اي ايمان يؤدي "شهادة"، اذا كان يترك التاريخ هكذا وراءه؟ وكيف يقوي الايمان اذا كان يقدم نفسه، وذلك بالحاح، كشهادة تاريخية، دون ان يقوم بسرد تاريخي؟ اني افكر اننا نجدنا امام فكرة خاطئة عن البعد التاريخي، وامام فكرة خاطئة عن الايمان وعن الباراقليط عينه:وهو ايمان يتخلى هكذا عن البعد التاريخي، يصبح حقا "معرفة روحية". وهو يترك الجسد، والتجسد – التاريخ الحقيقي. واذا كنا نفهم "بالتاريخي" ان الخطب التي أوردها يسوع، يجب، اذا جاز التعبير، ان تحمل طابع محضر سجلته آلة تسجيل لكي يعترف به انه "تاريخيا" صحيح، اذذاك ان خطب انجيل يوحنا لا تكون "تاريخية". ولكن بما انها لا تدعي هذا النوع من الحرفية لا تعني على الاطلاق انها اعمال شعرية عن يسوع، قد قام بها أحدهم لاحقا، في حلقة مدرسة يوحنا، بادعائه بعدئذ ان الباراقليط هو من قاده. ان ادعاء الانجيل الصحيح هو انه أورد ايرادا صحيحا خطب يسوع، وشهادة يسوع عينه في مجادلات القدس الكبيرة، بحيث ان القارىء يلتقي حقا محتوى هذه الرسالة النهائي، ومن خلاها صورة يسوع الحقيقية.

اننا نقترب من عمق المشكلة، ويمكننا ان نحدد اي نوع من التاريخية تتعلق بالانجيل الرابع، اذا وجهنا انتباهنا الى علاقة مختلف العوامل المتبادلة التي يعتبرها هنغل جازمة لتأليف النص. بالنسبة اليه، في هذا الانجيل"الارادة اللاهوتية الخلاقة، وذكراه الشخصية"،و"التقليد الكنسي، وفي الوقت عينه الواقع التاريخي" الذي يقول هنغل بطريقة مفاجئة ان الانجيلي قد يكون "حرفه،وحتى لنقلها، انتهكه". وليست هذه، وقد قلنا ذلك سابقا، ذكرى ماض، بل البراقليط الذي يشرح ويقود الى الحقيقة.

ان انجيل القديس يوحنا، كما سبق لنا ان قلنا، هو انجيل لاهوتي بامتياز، لذلك يصعب فهمه، على الذين ليس لهم اختصاص في هذا المجال، لكن الجوهر يبقى ، وهو ان أقوى الايمان أبسطه. ولا سبيل الى فهم الله، بل نقترب منه، لنعيش عيشة ترضيه.
وينصرف اللبنانيون الآن الى التأهب لاجراء الانتخابات النيابية، وهو استحقاق سيكون له تأثيره الكبير على الحياة اليومية. ويجب ان يعرف الناخبون من يختارون للدفاع عن حقوقهم الاساسية، ويجب الا ينسوا ما أصبح قولا مأثورا، وهو:"من اشتراك باعك ". الانسان ليس بسلعة، بل هو مخلوق على صورة الله ومثاله، وقد حباه الله عقلا وقلبا وارادة ليستنير بها ويتصرف على اساسها.