المزمور السادس عشر: الرب كفايتي وفرحي

بقلم الأب/ بولس جرس

همسات الروح: تأمل في سفر المزامير

  أولاً: تقديم المزمور

مزمور دعاء ونشيد إيمان، يعبّر فيه المرنّم عن ثقته بالله الساكن في الهيكل، ويطلب منه "الميراث" الذي لا يزول ولا ينازعه فيه أحد من العالم، لا كما يطلب الابن الضال من أبيه ميراثه ليمضي بعيداً، فداود على العكس يريد البقاء بل ويشتهي أن يسكن بيت الرب إلى الأبد، نراه يحتمي بالهيكل مكان سكنى الرب بين البشر" موضع راحته"، معبراً عن إيمانه به ملكاً على أرضه وشعبه.. وبثقة الأبناء نسمعه يقدم في هذا المزمور العذب، صلاة إيمان وأنشودة رجاء تجعلنا نشعر معه وكأنه يتمتع بشبع  لا يوجد سوى في بيت الآب، ويتذوق ملء الفرح الذي يهبه الله وحده.

وإن كان بعض الدارسين يرى أن واضع المزمور ينبغي أن يكون أحد كهنة الهيكل أو اللاويين حيث يقول: "الرب هو نصيب ميراثي وكأسي"، مستندين في ذلك إلى أنهم يعيشون على العشور التي تُقدّم للهيكل، حيث لم يكن للكهنة واللاويين نصيب في الأرض، بل كان الرب هو ميراثهم؛ وحيث قد انتشرت عبادة الأوثان وتقديم الذبائح لها، فقد ضاق العيش بخدّام الهيكل الذين ظلوا أوفياء، فلم يعد لديهم حتى ما يسدون به رمقهم، ولكن المرنّم كخادم أمين، يفضّل الفقر مع الأمانة لله، على الغنى بخيانته للعهد المقدس.

نرد بإن لداود النبي كما لكل مؤمن حقيقي ذات الشعور، أنه لا نصيب ولا ميراث للمؤمن ولا حتى مدينة ثابتة على الأرض، بل الرب نفسه هو نصيبه، فيه يجد شبعه وارتواؤه. وبذا ينتقل من تذوق الملذات المادية إلى الاستمتاع بالسعادة الروحية، فاقتصرت كل ملذاته على التواجد في الهيكل حيث يُنشد للرب أجمل المدائح، وأن يظلّ أمنيناً للربّ، فلا يتبع عبادة الأصنام رغم تهافت الناس عليها، كما حدث في أيّام إيليّا النبيّ (1ملوك 18-19). ومما يؤكد المعنى الروحي لهذا المزمور أن المرنم قد ترك جانباً كلّ شكوى فرديّة ناظراً إلى حالة الضياع التي يعيشها شعب الله والناجمة عن تفشّي العبادات الوثنيّة.

ثانياً: نص المزمور وتقسيمه:

يتكوّن المزمور من إحدى عشرة آية، و ينقسم نظرياً إلى قسمين يتكلم الأول ( 1-6 ) عن أمانة  العبد بينما يحدثنا الثاني ( 7-11) عن أمانة الرب. ولكن لمزيد من لتوضيح نقسمه هنا إلى أربعة أقسام كالتالي:

القسم الأول: صلاة ثقة وفعل  إيمان: اللّهم احفظني، بك احتميت ( 1- 2):

1 – دعاء لداود: أحرسني يا الله فيك احتميت.

2- أقول للرب: "أنت سيدي،أنت وحدك سعادتي".

القسم الثاني: إعلان رفض عبادة الأوثان

 (3- 4):

3 – ما أعظم القديسين في الأرض، وكل سروري أن أكون معهم.

4 – كثرت أوجاع المتهافتين وراء آلهة أخرى. وأنا لاأسكب دم ذبائحها ولا أذكر أسماءها بشفتيّ.

القسم الثالث: نشيد للعهدَ الذي يربط أحبّاء الله بالرب، ورجاءهم في خيرات فريدة   (5-8):

5 – الرب منيتي وحظي ونصيبي وفي يديه ميراثي.

6- ما أحلى ما قسمت لي، ما أجمل ميراثي.

7- الرب يرشدني فأباركه، وقلبي في الليالي دليلي

8- الرب أمامي كل حين، وعن يميني فلا أتزعزع.

القسم الرابع: إعلان الثقة بمستقبل أفضل : الأبرار ينالون  من الله ملء الحياة.(9-11):

9- فيفرح قلبي ويبتهج كبدي، ويستريح قلبي في أمان.

10- لا تتركني في عالم الأموات يا الله لئلا يرى تقيك الفساد.

11- عرفني سبل الحياة، واملأني فرحاً بحضورك، فمن يمينك دوام النعم.

ثالثاً: تفسير المزمور:

القسم الأول: صلاة ثقة وفعل  إيمان: اللّهم احفظني، بك احتميت ( 1- 2):

1 -دعاء لداود، احرسني يا رب، فبك احتميت:

v   دعاء لداود: 

                   مما يثبت أن داود هو واضع هذا المزمور ما ورد في عنوانه؛ وما جاء على لسان القديس بطرس الرسول في يوم الخمسين بخصوص قيامة الرب إلهنا: " لأن  داود يقول فيه: رأيت الرب معي في كل حين…وجسدي يرقد على رجاء لأنك لا تترك نفسي في عالم الأموات ولا تدع قدوسك يرى الفساد" (أعمال 25:2-28) وفي الآية 31 يستكمل القديس بطرس كلامه: "رأى داود من قبل قيامة المسيح وتكلم عليها فقال: ما تركه الله في عالم الأموات ولا نال من جسده الفساد" (أعمال 2: 31)؛ وأيضاً ما أعلنه القديس بولس في حديثه إلى أهل أنطاكية: ولذلك قال في مزمور آخر في إشارة واضحة إلى هذا المزمور:" لن تترك قدوسك يرى الفساد. لكن داود، بعدما عمل بمشيئة الله رقد ودفن بجوار آبائه فرأى الفساد.وأما الذي أقامه الله فما رأى الفساد" (أعمال 13:35-37). وهكذا يؤكد هامتا الرسل أن المزمور لداود وأنه يتحدث عن الرب يسوع في نبؤة ميسانية واضحة المعالم جلية القسمات.

v   أُحرسني يا رب فبك احتميت:

          بداية جميلة، يطلب النبي فيها من الرب أن يكون حارساً له : حارساً لشفتيه، حارساً لقلبه، حارساً لحياته وحارساً لمملكته التي أسسها ويرعاها، فالملك يعاني من اضطراب متواصل في مملكته الواسعة التي تثير شهية الأعداء المتربصين، على الحدود وداخل البلاد، فيثيرون القلاقل في المملكة ويهزون الاستقرار بين الشعب، وكثيراً ما وصلوا إلى بلاط الملك فوجد داود نفسه مهدداً داخل قصره  وتعرض لمؤامرات للإطاحة به وكثيراً ما وجد نفسه طريداً فاراً أمام أطماع الطامعين وحقد الحاقدين لكنه واجه جميع هذه الأهوال بصبر وإيمان ورباطة جأش. لكن ما يرعبه اليوم حقاً هو كمّ الفساد الأخلاقي والضياع  الديني الذي استشرى بين أبناء شعبه، شعب الله االقدّوس، الذين خانوا عهده وهجروا هيكله وعبدوا الأصنام وقدّموا لها الذبائح…والنبي يطلب الحماية لا لنفسه فقط فهو واثق أن الله الذي اختاره من بين الناس وانتخبه من وسط إخوته ودعاه من المراعي ليقمه ملكاً على شعبه، يوم مسحه بالزيت المقدس على يد صموئيل النبي؛ كفيل بأن يحميه ويحرسه ويثبته على عرشه متى عمل بمشيئته ولجأ إليه بكل القلب… إنه يطلب أن يكون الرب حارس لشعبه أيضاً.

والنبي إذ يطلب الحراسة هنا يعلن:

o      أولاً: احتياجه الشخصي إلى عين لا تفارقه طوال الأربع وعشرين ساعة،

o      ثانياً: عجزه كبشر عن حماية نفسه وشعبه روحياً ومادياً.

2 –  أقول للرب أنت سيدي أنت وحدك سعادتي:

        إعلان تسليم مطلق لحياته ومملكته بين يدي الله، كم مرة نجد مثل هذا الإعلان الرائع المعاني في الكتاب المقدس في كلام الأنبياء وفي الإنجيل! فالسيد هو صاحب السيادة على حياة من يسوده، والرب هو صاحب الربوبية على من يعبدونه، والإله هو مانح الحياة لخلائقه. فأي إعلان أروع وأعظم من هذا! هكذا يعلن حرفياً تنازله عن الملك لله الملك الحقيقي: لست أنا الملك أنت الملك يا رب ، لست أنا السيد يا إلهي أنت السيد، لست أنا الحاكم يا رب أنت الكلي الحكم والحكمة والقدرة ، لن أقبل سواك سيداً ولن أسجد أمام أي وثن أو قوة ، ولن يسعد قلبي شيء سوى وجودك معي ووجودي في حضرتك يا سيدي وربي وإلهي.

v       أنت وحدك سعادتي :

                    من أجمل التعبيرات التي يستطيع المؤمن استخدامها في الصلاة . فسيادة الله على حياة داود ومملكته ليست انتقاصاً من قدرات داود وسلطانه وسيادته، وليست سبباً للتعاسته، حيث يقاسمه الحكم "آخر"؛ بل هي على العكس، مصدر سعادة شخصية عميقة.

القسم الثاني: إعلان رفض الأوثان (3- 4):

3 –  ما أعظم القديسين في الأرض وكل سروري أن أكون معهم :

o      يشعر داود الملك المحارب:بأهمية الجيش فيكرم قادته ويدعم صفوفه كقائد عسكري  محنّك،

o       يشعر الملك الشاعر: كفنان مرهف بأهمية الموسيقى والفن فيكرم الفنانين وينظم الألحان،

o      يشعر الملك والنبي: بأهمية الأنبياء فيخضع برقبته أمام ناثان النبي معترفاً "خطأت إلى الرب"

o   يشعر الملك الصديق الوفي: بأهمية الصداقة فيكرم مقام يوناثان ويبكيه بمرثاة تدمع لها عيون الجبابرة. ثم يكرم نسل صديقه فيجلسه مدى الحياة إلى مائدة الملك،

o      يشعر الملك الإنسان: بأهمية حياة الإنسان فيبكي إلى الغروب طفله الذي مات رضيعاً،

o      كما يشعر الملك بالكهنة فيجلهم ويحترمهم ويقدم الذبائح بين أيديهم،

o   واليوم نراه يعظم القديسين على الأرض:  مع أنه لم يعظم أحداً قط سوى الله العلي؛  لأن الله القدوس يطلب من أبنائه أن يكونوا قديسين مثله "كونوا قديسين …" ( تثنية ). والقديسون الذين يذكرهم داود هم أحباء الله السالكون حسب ناموسه، المحافظون على شريعته، الحافظون طرق بيته في قلوبهم. الذين عزّهم وفخّرهم وسعادتهم في الله وحده، هؤلاء هم الذين ُيجلّهم داود، ويتمنى أن يترك عرشه ليجالسهم، فكل فرحه وسروره في مجلسهم يلهج معهم بأعمال الرب وناموسه، وتلك هي سعادته وفرحه من المزمور الأول حتى نهاية حياته.

4 -كثرت أوجاع المتهافتين وراء آله أخرى وأنا لا أسكب دم ذبائحها ولا أذكر أسمائها بشفتي:

         يقدم المرنم مقارنة بين أحوال القديسين الذين يعيشون في نور الرب وبركته، كشجرة مغروسة على المياه، يانعة الخضرة دائمة الإثمار، يعبدون الله ويرفعون الصلاة ولا يكتفون بتقديم الذبائح في هيكله المقدس بل بقدمون له حياتهم ذاتها… وبين الأشرار الذين يسيرون متهافتين وراء الأوثان المنتشرة في عبادات الشعوب المحيطة بمملكة داود، ومن ثم تغلغلت عبادتها وطقوسها الوثنية تدريجياً وصارت آلهتها ووأصنامها منتشرة ومعروفة بين الشعب اليهودي، بل وأصبح من الطبيعي عند الكثير منهم، التوسل إليها والتشفع بها وتقديم الذبائح لاسترضاءها. وحيث أنها آلهة خرساء صماء لا تسمع، لا تتكلم ولا ترى ولا يمكن ان تستجيب؛" الذين صنعوا التماثيل كلهم باطل وما يبتهجون به لا خير فيه، وهم شهود عليها بأنها لا ترى ولا تعرف فيا لخزيهم! فمن يسبك تمثالاً في صورة إله لا خير من عبادته؟ ومن يعبده ألا يخزى؟ …، فالحداد يصنع التمثال من الحديد يقلّبه في الجمر ويهيئه بالمطارق والنجار يصنعه من الخشب ويسويه بالأزميل…وربما أحرق نصف الخشب بالنار ليشوي لحماً ويشبع ويتدفأ ويقول ما أهنأ أن أتدفأ وأرى ناراً، وأما نصفه الآخر فيصنع منه تمثال إله ويسجد له ويركع ويصلي ويقول " أنقذني فأنت إلهي." إشعياء 44: 9-19). النتيجة الحتمية لمن يلجأ إلى هذه الأصنام هي الخذلان والانتظار عبثا إلى جانب غضب الله الذي أُهمل عهده وهُجر إلى غيره، بالتالي تكثر أوجاع خونة العهد.

v   وأنا لا أسكب دم ذبائحها:

          يرفض داود وأتباعه القديسون، هذه الممارسات البشعة بل يرفضون حتى أن تنطق ألسنتهم بأسماء تلك الأصنام الملعونة، ويرون ما حل بمن اتبعها وتشفع بها من مصائب وكوارث "وفي اليوم التالي أقبل يهوذا ومن معه، كماهو مفروض، ليحملوا جثث القتلى ويدفنوهم في مقابر آبائهم. فوجدوا تحت ثياب كل جثة تماثيل صغيرة من أصنام آلهة يمنيَا مما تحرمه الشريعة على اليهود. فتبين للجميع أن ذلك كان سبب سقوطهم قتلى، فرفعوا كلهم آيات الحمد للرب الديان العادل الذي يكشف الخفايا." (2 مكابيين  12: 39-41).

القسم الثالث: نشيد لعهد الرب، ورجاء أحبّاء الله في خيرات فريدة   (5-8):

5 -الرب منيتي وحظي ونصيبي ، وفي يده مصيري:

         جميل رائع عذب لذيذ معز ومفرح ومشبع وفائق الطبيعة، ما أجمل اختياراتك يا داود، تعالوا نتأمل:

o      منية: هي أعز ما يملك الإنسان من أماني في الحياة، وأغلى ما يبتغي ويروم ويطلب ويحلم. والرب هو كذلك بالنسبة لداود والقديسين.

o      حظ: تعني فرصة خاصة سعيدة ومفرحة، قد تغير الحياة. والرب هو ذلك لداود والقديسين.

o      نصيب : أي ما يصيب الإنسان من الميراث أو الطعام أو الخير، وهو خاص به وحده، والرب هو كذلك لداود وكل من يؤمن به.

o      وفي يديه مصيري: إذا كانت الصفات الثلاثة السابقة تقدم فرح المرنم بما نال وامتلك فقد تحققت أمانيه وتفوّق حظه على الآخرين، وزاد نصيبه على أنصبتهم … إلا أن هذه الصفة الرابعة تعدل الأوضاع وتضع الأمور في مكانها الصحيح، فهي تعني:

§       لست أنا الذي امتلك الله بل الله يمتلكني؛

§       لست أنا الذي احدد خطواتي بل الله يقودني؛

§       لست أنا سيد حياتي بل في يد الله مصيري.

         العلاقة بالرب ليست فقط لامتلاك النصيب الصالح وتحقيق الأماني، أو  نوال الحظ؛ إنما هي أساساً تسليم الحياة إرادة ومصيراً بين يديه .

6 -ما أحلى ما قسمت لي، ما أجمل ميراثي:

        إذا ُبنت العلاقة مع الله على هذا الأساس من الثقة المطلقة والإيمان الكامل والسير مع المستقيمين ومجالستهم والرفض الراسخ لكل ممارسات الأشرار بالإضافة إلى الرضا وتسليم المصير لعمل الله واختياراته في الحياة؛ عندئذ يعيش الإنسان السعادة الكاملة والفرح الكامل والطوبى الحقيقية. داود الذي من سبط يهوذا لم ينشغل بالميراث الأرضي  لأن الله هو نصيبه، وأكد ذلك في مواضع أخرى (مزمور 119:26 ) كما أكد آساف نفس الأمر (مزمور 73 :26).

         كما يؤكد داود نفسه في العديد من مزاميره" كثيرة هي  مصائب الصديقين ومن جميعها ينجيهم الرب" ( مزمور )  إنه جوهرياً إنسان مؤمن بوجود الله سيداً وحارساً لحياته، لذا يسير معه مطمئناً حتى إذا عبر في وادي الظلام وظلال الموت، فهو يدرك أن الله معه يحفظه ويرعاه "إن سرت في الظلمة ووادي ظلال الموت فلا أخاف شراً لأنك معي" ( مزمور)   لذلك فهو يقبل من بين يدي الله كل شيء بفرح وثقة وإيمان وخضوع.

7 -الرب يرشدني فأباركه وقلبي في الليالي دليلي :

v       قلبي في الليالي دليلي :

         حيث أن القلب هو مركز العواطف وتعبير عما يجول في ضمير الإنسان وقد نُقشت فيه شريعة الله، فإنه إذا كان قلباً نقياً كطلب داود "قلباً نقياً أخلق فيّ يا الله وروحاً مستقيماً جدد في أحشائي" (مزمور 50)؛ فإنه يصير للإنسان دليلاً ومرشداً في مسيرته مع الله مهما كانت ظلمة الليالي، لأن نور الله ساكن في داخله. وهكذا يعبر داود بصدق عما في قلبه ويؤكد الرب من جهته "فتشت قلب داود (عبدي) فوجدته مثل قلبي" ما أجمل هذا التطابق وما أروع هذه العشره التي صبغت قلب المؤمن بقلب الله !!

8 -الرب أمامي كل حين وعن يميني فلا أتزعزع :

         صار الرب دليلاً ومرشداً وحامياً لدواد، وأصبحت صورته منقوشة في عمق كيان داود فامتلأ قلبه بالفرح والسلام، وتحول إلى دليل وبوصّلة تهديه في دروب الحياة وتحفظه سعيداً، فيسير واثق الخطى، لأن الرب أمامه لا تتعثر خطواته، وشريعته محفورة في قلبه تحفظه من كل خطيئة، ونور يقوده ضميره وعقله ، فلا يتزعزع…  فالرب قادر أن يزيل دلك كله بنظره من طرف عينه أو لمسة من يديه أو حتى نفخة من أنفه…إيمانه الراسخ هذا، لاسيما في زمن الضيق، هو علامة المؤمن الحقيقي.

القسم الرابع: إعلان الثقة بمستقبل أفضل : سينال  الأبرار من الله ملء الحياة.(9-11):

9 – فيفرح قلبي ويبتهج كبدي، ويستريح جسدي بأمان:

         تكلمنا عن القلب كثيراً ونعرف أنه يزداد دفقاً ويرتفع نبضه وقت الفرح فماذا عن الكبد!! يقدر العلماء في الأبحاث البيولوجية والفسيولوجية الحديثة أن الكبد مركز هام للإحساس، وهو يعيش مع الإنسان فرحه وضيقه، فتزداد إفرازاته أو تنقص، ينقبض وينكمش حسب ما يحتاج المرء من مشاعر، ولعل التعبيرات الشعبية المتوارثة في تراثنا الشرقي قد أدركت تماماً هذه الحقيقة، فالكبد يعيش دوما أحاسيس الحب والارتياح والمرارة… ونرى ارتياح المرنم العميق إزاء ما عاين وعاش خلال خبرته مع الرب.

10 – لأنك لا تتركني في عالم الأموات يا الله ولا تدع قدوسك يرى فساداً :

         عالم الأموات أو الشيئول مكان مخيف تخشاه النفس فهو مظلم رهيب، ولم يكن اليهود يعتقدون بحياة بعد الموت، بل تذهب النفوس إلى عالم الأموات أو الشيئول، وتطور هذا المفهوم حتى صار هناك إيمان بالحياة الأخرى ورجاء بالقيامة… تعتبر هذه الآية مسيانية، ترسم ما ينتظر مسيح الرب من آلام تعقبها قيامة، ويستخدمها الآباء والمفسرون كثيراً في  الحديث عن الرب يسوع، وتصلّيها الكنيسة في الاحتفالات الطقسية للقيامة. لكن هذا لا يعني أن المزمور يتحدّث عن القيامة بطريقة صريحة، ولكننا نستطيع القول إننا نجد في هذا المزمور وفي المزمورين 49: 16 و73: 24 ، حديثاً عن حياة لا يستطيع الموت أن يبتلعها. لكنها هنا تعني أن الرب لن يتخلى عن قديسيه بل سينزل معهم إلى أبواب الموت لينجيهم من الهلاك.

 

11 – عرفني سبل الحياة ، واملأني فرحاً بحضورك فمن يمينك دوام النعم :

         ورد تعبير "طرق الحياة" مرة واحدة في سفر المزامير، وتكرر ثلاث مرات في سفر الأمثال (2: 19؛ 5: 6؛ 15: 24)، وهو تعبير يقابل "الهاوية" و"الموت". لا يمكن فهمه إلا بأنه حياة معاشة في شركة مع الله، تستمر إلى ما بعد الموت.

         هكذا يختم المرنم مزموره العذب الملئ فرحاً بعمل الرب في حياته بإنقاذه من الموت والاننقال به  إلى حياة لا تعرف الفساد. وبهذا المعنى "يعرفه" سبل الحياة، والمعرفة في الكتاب المقدس هي اختبار محسوس وليس نظرياً فحسب، يطلب النبي في ختام تمجيده، هذا النوع من المعرفة حتى يعيش في حضرة الرب فرحاً.

رابعاً: تطبيق المزمور:

o     كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور؟

        نستطيع القول أن المزمور ينطبق على حياة الرب يسوع، ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المتحدث في هذا المزمور هو السيد المسيح، إذ يقول: مكتوب أن الرب قال للرب "أنت ربي"… هنا يشير إلى الأقانيم من ذات الجوهرفأننا لا نفهم وجود جوهرين مختلفين عن بعضهما البعض بل أقانيم، كلها من ذات الطبيعة.

   "احفظني يا رب فإني عليك توكلت": استهل داود صلاته بتوسل أن يحفظه الله ويهتم به، وهذه الصلاة تناسب داود النبي والسيد المسيح؛ فإن كان داود قد غلب جليات الجبار، ولم يكن له من يحفظه إلا الله ؛ قدم المسيح، أثناء تجسده صلوات وتوسلات بصراخ عظيم ودموع، إلى ذاك القادر أن يخلصه من الموت (عبرانيين 5: 7). وقد جاء في سفر إشعياء "هكذا قال الرب: في وقت القبول استجبتك وفي يوم الخلاص أعنتك، فأحفظك وأجعلك عهداً للشعب" (إشعياء49: 8).

   يسوع المسيح هو آدم الثاني: كعبد مطيع  وكنائب وممثل لنا، أصلح طبيعتنا التي فسدت بعصيان آدم الأول، ومن خلال طاعته دخل إلى براثن الموت، وهو القدوس الذي لم يعرف الخطيئة، لهذا لم يرَ فساداً في موته. إذ لم يتجسد السيد ولا مات ليعلن عطفه نحو الآب فهذا موجود وثابت منذ الأزل، إنما نحو الخطاة، كاشفاً حب الآب وابنه لهم، وكل ما قدمه الرب من خير، إنما لأجل الخاطئ ، إذ يقول: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا 13:6).

   لم يخضع المسيح للناموس البشري: موت يسوع وآلامه لم يكونا خضوعاً للناموس البشري، فهو لم يتألم ولا مات بسبب الخطيئة، بل بإرادته الحرة؛ لذا مات بالجسد ولم يمت بالروح، فقد اسلمها مباشرة في يد الآب، وبهذا لم تُترك نفسه في الجحيم ولم يرَ جسده فساداً، ويقول القديس أثناسيوس الرسولي: "بدا كأن الجسد قابل للفساد، لكنه لم يبق هكذا بطبيعته، فإنه إذ لبسه الكلمة بقى بلا فساد. فقد جاء في جسدنا وتشبه بحالنا". وإذ يتنبأ داود بهذا يتحدث عن قيامة المسيح، ويؤكد العلامة اوريجانس هذا  المعنى بقوله: "تعرّت نفس المسيح من جسدها، ونزلت إلى الجحيم لتتحدّث إلى النفوس المعرّاة من الجسد، وليردّ إلى الربطّ تلك المستعدّات. وليحتفظ يسوع في موته بحريّة التصرّف بنفسه فالمخلّص، وإن مات، فهو لم يمت كاللصين اللذين بينهما صُلب. فالموت لم يتغلّب عليه ولم يحتفظ به. وإن كان أخذ صورة العبد، وصار شبيهاً به، حتى جعل نفسه تحت سلطة المستبدّ، فلكي يجرّد الشيطان من قوّته وسلطانه، وينتزع منه الأسرى الذين يحتفظ بهم. بهذا الشكل تلاشى المسيح بإرادته وصار طائعاً حتى الموت على الصليب".

   قيامة المسيح:"لأنك لا تترك نفسي في الجحيم، ولا تدع صفيَّك يرى فساداً": يرى آباء الكنيسة أن هذه الآية تحقيق لما تم في حياة ربنا يسوع وحده ولا أحد سواه، فقد رقد في القبر لثلاثة أيام ولم يمسه الفساد، وصار لجميع الذين يؤمنون به رجاء لقيامة أكيدة (1 كورنثوس 15: 1-4؛ 20-23).

   انتصار السيد المسيح على الشيطان:  حين ظن إبليس أنه قادر أن يطغى على ابن الإنسان بوعده أن يعطيه كل ممالك العالم إن سجد له (مت  4: 8-9 )؛ رفض ابن الإنسان ذلك لأنه ما جاء ليملك على الأرض، بل على القلوب، مفضلاً أن يكون الآب نصيبه وميراثه وكأسهإذ قال "لتكن إرادتك لا إرادتي"، مع أنه واحد معه في ذات الإرادة الإلهية،  لكنه رفض أن يتسلم كأس المجد من يد العدو، مفضلاً كأس الصليب، ككأس الطاعة والحب للبشرية ، مطيعاً حتى الموت.

   "أبارك الرب الذي أفهمني: "تهلل يسوع بالروح وقال: أحمدك أيها الآب، رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال" (لوقا 10: 21). يتهلل لسان يسوع ويفرح قلبه ويتمتع بالمجد الداخلي، ها هو يعلن "طريق الحياة" طريق المجد الأبدي خلال الصعود، حيث نرى وجه الله فنمتلئ فرحاً، ونعيش مع المسيح عن يمينه أبدياً. لقد صعد الرب وجلس عن يمين الآب، فاتحاً طريق السماء والمجد لكنيسته لترتفع معه كملكة وتراه وتجلس عن يمينه.. بهذا تتحول أحزان الكنيسة الزمنية إلى علة مجد أبدي!.

   الحكمة أثمن ما يقدمه الله للإنسان، ويسوع كلمة الله المتجسد هو "الحكمة"، فلا عجب أن يتهلل بالروح مسبحاً الآب لتمتع البسطاء بالفهم الروحي السماوي الخافي عمَّن ظنوا أنفسهم حكماء.

   " يمين": تشير إلى القوة، لهذا قيل في صعود المسيح أنه جلس على يمين الآب، أي يحمل قوة الآب، بكونه واحداً معه، ولا يعني هذا أن للآب يمين ويسار بطريقة مادية مكانية. فالجلوس عن اليمين إذن لا يعني أن الآب عن اليساره؛ لكن كل ما هو يمين في الآب وثمين فهو للابن القائل: "كل ما للآب هو لي" (يوحنا 16: 15)؛ من ثم إذ يجلس الابن عن اليمين يُرى الآب أيضاً عن اليمين، فإنه إذ صار إنساناً يقول: "رأيت الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني كي لا أتزعزع". هذا أيضاً يكشف أن الابن في الآب، والآب في الابن، لأن الآب عن اليمين والابن أيضاً عن اليمين. وبينما يجلس الابن عن يمين الآب إذا بالآب في الابن.

o     كيف نعيش هذا المزمور ‏في حياتنا كمسيحيين في القرن الحادي والعشرين:

لا اختلاف على أن هذا المزمور هو أيضا تجسيد للطوبى التي يحياها المسيحي الحقيقي:

   "احفظني يا رب فإني عليك توكلت": يحفظ الله مؤمنيه، وقداستهل داود صلاته بتوسل أن يحفظه الله، فتحقق له ذلك، كما يظهر في صلاة السيد المسيح الوداعية إذ يقول: "أيها الآب القدوس، احفظهم في اسمك، الذين أعطيتني، ليكونوا واحداً كما نحن" (يوحنا 17:11). وإذ سُمع له من أجل بره الإلهي صرنا نحن محفوظين كأعضاء جسده.وهكذا حين يصلى المسيحي بإيمان ينال من الرب ما ناله داود النبي  وربنا يسوع.

   أنت سيدي أنت وحدك سعادتي: يختبر المؤمنون الحقيقيون عطية الخلاص ويشعرون بالسعادة لما يتمتعوا به مع الله. وما ينتظرهم في الدهر الآتي. بالإيمان يعاينون هنا السيد المسيح حالّ في قلوبهم، وهناك يرونه وجهاً لوجه. لذلك فالمسيحي الحقيقي "فرح دائماً" حتى في الضيقات " إني أفرح بالضيقات"  فهو يحيا من الآن أثناء جهاد الحياة اليومية ميراثاً أبدياً يفرح القلب وينعم بعربون المجد.

   الرب نصيبي وكأسي: ليختْر آخرون أنصبة لأنفسهم، أنصبة أرضية زائلة يتمتعون بها. أما نصيب القديسين فهو الرب، ليشرب آخرون من كأس المسرات المميته، أما نصيب قسمتي وكأسي فهو الرب.هكذا كانت حياة يسوع على الأرض  وهكذا يجب أن تكون حياة المسيحي كيسوع ينشد نشيد الثقة، بعد أن غمَرنا بأنواره. يقول القديس أغسطينوس "هكذا يكشف المخلص الرب أسرار قيامته في قلوب قديسيه ليتمتعوا به نصيباً وميراثاً، يُشبع نفوسهم، مقدساً حتى الأرض التي يسيرون عليها... وكأنه يهب قديسيه قيامته كحياة، ويأخذ أرضهم (أجسادهم) لينسبها له؛ فيدخل مع قديسيه في علاقة  حب متبادلة، يصير خلالها ما لنا له وما له لنا، بل نصير نحن أنفسنا له وهو لنا". عندئد يمنحنا الله ذاته كأساً ويكون لنا نصيباً...والإنسان المسيحي لا يقول للرب أنت الذي ترد إليّ ميراثي فقط، "بل أنت ميراثي"، لا تشغله ملذات العالم بل يتلذذ بالرب. لأنه يقف معه فلا يتزعزع لدا فهو واثق من عونه ومشورته وإرشاده.

         أما الأشرار: الذين كثرت أمراضهم، فإن الله يسمح بالأوجاع والأمراض لعلهم يدركون مرضهم الداخلي، ويبحثون بالتوبة عنه ويلجأ إلى المخلص، طبيب الأجساد والنفوس طالبين الشفاء!.عجيب! يسمح الله للأشرار بالضيق ليرحعوا إليه فيخلصون، ويسمح لقديسيه به لتزكيتهم ونموهم ومجدهم.

   "قلت للرب أنت ربي": إذ تلتقي النفس بالله مصدر حمايتها تدخل كما في عهد فتقول له "أنت ربي" وتعلن ثقتها فيه بكونه ربها، وأنها ليست ملكاً لذاتها ولا سيدة نفسها، بل سلمت حياتها له بكونه ربها وقائد حياتها. هكذا الإنسان الذي يعيش الشركة مع الله والتسليم الكامل له، لا يشعر أن سيادة الله وربوبيته تنقص من قدره أو تقلل من سعادته، بل تزيده سعادة واطمئناناً. وهكذا نستطيع أن تستوعب هذا الفرح الطوباوي للآباء القديسين الذين عاشوا في شركة كاملة مع الله وتحت سيطرة الرب وحراسته . إذ تثق به، يحفظها فيه كملجأ، ويتعامل معها كونها خاصته وهو خاص بها (ربي).

   "ما أعظم القديسين الذين في الأرض": تستمد كلمة "القديسين" معناها من أصلها، من مفهوم الله القدوس والشعب الذي أفرزهوقدسه له ودعاه ليُعلن قداسته ومجده للعالم من خلال شهادته له. يقول العلامة أوريجانوس: "إن المؤمنين الذين يسعون في طلب القداسة يُدعون "قديسين"، بسبب تَقدمهم في حياة القداسة وإن لم يدركوها تماماً في كمالها. إنهم يتمتعون بالحياة المقدسة خلال الشركة مع السيد المسيح القدوس، يغتسلون بدمه من خطاياهم وضعفاتهم، ويتسربلون ببره وقداسته، بعمل روحه القدوس فيهم". هؤلاء القديسون يعيشون في "أرضه"؛ أي يسلكون في ذات العالم الذي فيه يعيش الأشرار، كدلك يرى المسيحيون في العالم والمسكونة بصمات الله صانع المستحيلات لأجلهم، فيدركون أنهم إنما في أرض إلههم ،في بيت أبيهم، في كنيسته المقدسة "أرض المخلص"، فتستريح نفوسهم حتى ترتفع لتراه وجهاً لوجه.

   حبال تقسيم: يقول القديس جيروم: "أطع أمر الرب "اتبعني" وخذ رب العالم مِلكاً ونصيباً لك، لكي تُسبّح مع النبي: "الرب نصيبي"، وكلاويٍّ حقيقي لا تملك الآن ميراثاً أرضياً،  وكما كان الله هو مِلكْ الكهنة واللاويين ونصيبهم (عدد 18 :20) فإن من كان للرب نصيباً صار الرب نفسه نصيباً له، لايعود محتاجاً أن يملك مع الرب شيئا"ً.  يقول القديس امبروسيوس أيضاً "حين نحصل على لقب "لاوي"، الذي يعني "هو مِلكي" أو "هو لي"، تعظم كرامتنا، إذ يقول الله للإنسان: "أنت لي"، أو كما قيل لبطرس عن الخاتم الذي وجده في فم السمكة: "اعطهم عني وعنك" (متى 17: 27). حقاً ما أحوجنا أن ندرك أننا تحت مظلة مخلص  يقدس عالمنا وننعم بالسكنى في أرض الله كنيسته .

   يعلن الرب "عجائبه" في حياتنا، فيحوّل حتى شر الأشرار إلى نفعنا، يخرج من الآكل أُكلاً، ومن الجافي حلاوة إذا رجعنا إلى حياة داود والقديسين سنجد هذه المعادلة تتحقق كاملة رغم الآلام ، فهي لا تخلو من الألم وفي هذا يقول القديس فرنسيس الاسيزي "الفرح الكامل هو أن نتألم" ويقول بولس الرسول "فرحي وإكليلي … أن أكمل ما نقص من آلام المسيح في جسدي …" كما يؤكد داود نفسه في مزاميره" كثيرة هي  مصائب الصديقين ومن جميعها ينجيهم الرب" ( مزمور )   فالمؤمن الحقيقي ليس طفلاً يعلن فرحه بما نال من حظ وما تحقق له من أماني فحسب، إنه هو إنسان مؤمن بوجود الله سيداً وحارساً لحياته، لذا يسير معه مطمئناً حتى إذا عبر في وادي ظلال الموت، فهو يدرك أن الله معه يحفظه "إن سرت في الظلمة ووادي ظلال الموت فلا أخاف شراً لأنك معي" ( مزمور23: 4)   لذلك فهو يقبل من بين يدي الله كل شيء بفرح وثقة وإيمان وخضوع.

   "صنع فيهم كل مشيئته": القديسون الذين يعيشون في أرض الرب، يضعون رجاءهم في أرض الأحياء، يثبتون سيرتهم الروحية بمرساة الرجاء عندئذ يتعرفون على مشيئته ويعملون بها،محققين  مخطته الخلاصي لينعموا بشركة أمجاده، وما عجائب مشيئة الله في قديسيه إلا عمله الخلاصي يعلنه لهم ويحققه بهم وفيهم لينعموا بحياة جديدة، فتنسجم مشيئتهم الصالحة مع مشيئته المقدسةوإذا كان الصلب أمر عامّ عاينه اليهود والأمم؛ فالقيامة تُمنح هبة إلهية لمن يسعى إلى الحياة الأبدية، إذ يصبح المسيح القائم نصيباً وميراثاً له.

   "لا أجمع مجامعهم من الدماء، ولا أذكر أسماءهم بشفتيَّ": "لا تذكروا إسم آلهة أخرى ولا يُسمع من فمك" ( خروج 23: 13) "تقطعون تماثيل آلهتهم وتمحون إسمهم ( تثنية12: 3) . "وأنزع اسماء البعليم من فمها فلا تُذكر أيضاً باسمائها" ( هوشع 2: 17). كأن الله أراد لشعبه أن يتقدس تماماً فلا يدنس فمه بمجرد ذكر اسماء الآلهة الوثنية. ويضيف القديس كيرلس الكبير "إن كان الله يعلن أسراره لقديسيه، ويطلب عودة الأشرار إليه كطبيب يشفي جراحات نفوسهم، فإن القديسين من جانبهم يتحاشون مشاركة الأشرار في شرهم وعبادتهم.."هذه هي غبطة التمتع بالشركة مع الله؛ والكأس كانت تمر على الحضور في عيد الفصح وهي رمز للإفخارستيا وعربون نعمة الله الخلاصية. ك>لك على المسيحي الحقيقي ألا يشارك فيما يقدمه عالم اليوم من موضة وتقاليع، فكثير من عقائد وعبادات ومظاهر وعادات الشعوب والأديان حولنا تتسرب إلى حياتنا فتفصلنا عن روح الإنجيل الحقيقية.( القضاء والقدر- البخت والنصيب- التفاؤل والتشاؤم-الفهلوة- الرشوة- الوصولية- الدجل: قراءة الفنجان، المندل، السحر والأعمال…إلخ)

   "من أجل هذا فرح قلبي وتهلل لساني: عندما يصير الله كمصدر شبع للنفس البشرية يقدم لنا "التهليل" هبة من عنده لمن هم في شركة معه، فتمتلئ قلوب المسيحيين فرحاً وسعادة، إذ تشعر بالأمان بين ذراعيه. القلب في الداخل يفرح واللسان من الخارج يتهلل، وكأن كل كيان الإنسان  يتجاوب مع عمل نعمة الله. الجسد والنفس يمجدان الله؛ مع أن الجسد يمارس الأصوام والنسك وما يبدو من حرمان، لكنه فرح لأن دلك يؤول إلى الخلاص، ويدرك وسط الآلام أنه يعبر إلى القبر حيث يسكن على رجاء القيامة، ليقوم جسداً روحياً نورانياً ممجداً؛ وكدلك تدرك النفس عُرسها الأبدي مع مخلصها الذي يهبها الخلود الدائم.

      والله إذا سمح بهزيمة أحباءه أو حتى موتهم على أيدي الأشرار فليست هذه هي النهاية، إنها بداية لحياة لا تعرف الموت، لهذا يُحتفل بأعياد القديسين يوم موتهم أو استشهادهم فتلك هي البداية. فالله يطهر أبناءه عبر هذه الآلام ويقبلهم كشهداء كما أنه يعاقب المعتدين أشد العقاب "سيأتي عليكم كل دم بريء سفك على الأرض من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن براشيا الذي قتلموه بين الهيكل والمذبح" (متى 23: 35) ومن جهة أخرى  فعند الله القدرة أن يحفظ أحباءه ويقيمهم من الموت فلا يرون فساد القبر كما فعل مع ابن أرملة نائين وابنة يايروس ومع لعازر الذي كان قد أنتن فأقامهم ثم قام هو ليكون باكورة الراقدين وليؤكد معنى هذه الآية الذي يتحقق أولاً في شخصه ثم بعده في مريم العذراء التي صعدت إلى السماء بالنفس والجسد يليها القديسون ثم جميع المؤمنين به "الحق أقول لكم من آمن بي وإن مات فسيحيا" هذا ما يتنبأ داود به وكأنه قد سبق فرأى ما بعد مجيء الرب.

   "تقدمت فرأيت الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني كي لا أتزعزع": يمنحنا الله رؤيته الدائمة، فهو  إن كان يهب مؤمنيه المعرفة ليتمتعوا بحبه ويسلكوا حسب مشيئته، فإن غاية هذه المعرفة هي أن نراه هنا كعربون لرؤيته في الدهر الآتي. نراه في كل شيء، نهاراً وليلاً، نراه في كل ما نصنعه وفي كل ما نحتمله من آلام. فرؤية الله هي علامة على وجوده وقيادته لنا كما كان يقود شعبه في البرية كعمود نور؛ كدلك يراه المسيحي عن يمينه كسرّ قوة لا تتزعزع. لذلك يتمم كل عمل، صغيراً كان أم عظيماً  حسب مشيئة الله، بكل حرص ودقة، ويحفظ أفكاره في الذي وهبه العمل لكي يتممه.

   "وأيضاً إلى الليل أدَّبتني كليتاي": كما تنقي الكلية الدم هكذا تنقي التوبة النفس لتؤهلها للميراث الأبدي. فإننا بالتوبة نشعر بمرارة ظلمتنا ونتطلع برجاء إلى شمس البر ليشرق في أعماقنا ببهائه. ولعل الليل يشير إلى ظلمة الخطيئة، وإذ تتم التوبة في سكون الليل يرجع الإنسان إلى نفسه، يفحص ضميره ويكتشف خطاياه فيطلب الغفران قبل النوم مستودعاً نفسه وجسده بين يدي خالقه. وكما يجد الأشرار في الليل مجالاً للهو وممارسة الشر يجد القديسون في الليل بهدئته وسكونه مجالاً للصلاة والتأمل وانطلاق للنفس نحو السماويات.

   الرب أمامي كل حين وعن يميني فلا أتزعزع: صار الرب دليلاً ومرشداً، وأصبحت صورته منقوشة في عمق كيان المؤمن؛ لدلك يصير القلب عامراً بالفرح والسلام، ويتحول إلى بوصّلة تهدي المؤمن، فيسير واثقاً، شريعة الله محفورة في قلبه، وكلمته يقود ضميره ، هذا الثبات بالدات في زمن الضيق، هو علامة الإيمان الحقيقي، فما الإيمان نزهة بين حدائق الربيع المزهرة، إنما هو مسيرة، تتحمل تقلبات الخريف وزوابع الشتاء وقسوة الصيف دون أن تهتز أو تتزعزع ، فالرب قريب من الإنسان المؤمن لا يتخلى عنه ولو في وسط الأتون . .

خاتمة المزمور:

نحن أمام إنسان يعيش على المستوى المادي في وحدة قاتلة وفقر مدقع، ولكن على المستوى الروحي يكتشف أنه غنيّ ومحاط بحضور عميق. دخل الهيكل، آخر ملجأ للمؤمن، فوجد هناك حضرة الرب وحمايته. لم يعد قلبه مقسّماً، فالإله الحقيقيّ هو منتهى سعادته ولا شيء يزعزعه، فهو وإن كان لا يملك شيئاً في نظر البشر، ولكن له كل شيء لأن الرب معه ففي الرب غناه وميراثه وهدا هو إيمانه، لدا ينام مطمئناً قرير العين مستريح البال، علامة على حريّة النفس التي تحرّرت من الجسد فاستراحت. نظر المرنّم إلى الله وحده، جعل الربَّ نصب عينيه كلّ حين، فأحسّ بحضوره وعونه،عن يمينه كل حين فلا يتزعزع، ولن يخاف الموت بعد اليوم، لأنه أقوى من الجحيم والفساد، وهو يملأ قلبه فرحاً. والمرنّم داود حين يعلن أن حضور الرب ورؤيته هما سرّ الفرح الحقيقي، تصير صلاته هي صلاة كل إنسان تقي، ويحيا خبرته في شركة مع الرب، كل من يؤمن به، حيث يعطيه الأولوية المطلقة في حياته، وتصير كلماته وأمانته، حديث كل محب الرب على مدى الأجيال، وخبرة روحية تتعلم منها الشعوب جيلاً بعد جيل.

صلاة

افرح بخلاصك

أنت نصيبي وكأسيسرّ شبعي وتهليل نفسي

لذلك اخترتك واتبعتك،

وأنا عارف بضيق بابك ووعورة دربك وعثار صليبك.

عرفت، سبق وأعلمتنى، أني سأمر فى العالم بضيقات،

لكنك سبق أن علمتني ان  أؤمن انى بك غلبت العالم. لذلك قلت حين اخترتك… حين اخترتتني:

انت سيدى، انت امنيتى و حظى فيك أستريح ،

 الرب كفايتي وفرحي

هب لي أن أسرّ بشركة القديسين كما تُسر أنت بهم، اسمح لي ألا أشارك الاشرار مشوراتهم أو كلماتهم هبني عربون ميراثك، وادخلني إلى أمجادك الخفية! متعني برؤيتك الدائمة، ولتكن أنت قوتي ويميني

بهجتى باقوالك، سرورى بتأمل أعمالك، سعادتى حفظ ناموسك، طلبتي أن  أكون مع قديسيك، منيتية قلبي الوحيدة أن أسكن فى بيتك كل أيام حياتى.

اعطينى ربي ان اتذوق نعمتك وأحيا فى احساتك فيلهج قلبي دوما بمجدك ويترنم لساني بالتسبيح لجلاصك العظيم الذى اعددته ووعدت به جميع من يتبغونك بكل قلوبهم. ! اعلن حضورك الإلهي  في داخلي فلا أتزعزع!

ما أجملك وما أحلى العشرة معك،

اعرف أنك لن تتركنى، لن تنسانى، لن تغفل عيناك عنى، ولن تسلمنى الى الموت لذلك فرح قلبى بك، واطمأنت نفسى لخلاصك، انت ترشدني وترعانى وتعزينى، لذا لا اخاف وان سرت فى ظل الموت، لا اضطرب وان قام علىّ قتال، لا اجزع وان واجهتنى اهوال الجحيم،

امتلكتني بحبك وفى يديك استودع روحى أنت قائديأتكل عليك فتحفظني، علمني كيف أقتنيك، ولا أطلب معك شيئاً!

عرفني قوة قيامتك واحملني إلى سمواتك لأني مشتاق أن أرى وجهك فأسبح متهللاً مع ملائكتك أبدياً.

 آمين