أماكن مار مارون في سوريا

روما، الأربعاء 3 يونيو 2009 (Zenit.org)

ننشر في ما يلي القسم الأول مما كتبه المطران يوسف أنيس أبي عاد رئيس اساقفة حلب للموارنة عن أماكن مار مارون وماتعنيه للأبرشية

فوجئ الناس جميعهم باكتشاف أماكن مار مارون يوم زارنا دولة العماد ميشال عون في الفترة 3-7 كانون الأوّل 2008، حاجّاً إلى مدفن مار مارون في بلدة براد السوريَّة، التي تبعد زهاء 40 كم عن مدينة حلب. فأُقيم لدولته استقبال حافل تكلّل بالحفاوة التي عبّرت عن مشاعر الرضى والارتياح الرسميَّة والشعبيَّة. كما زار دولته مرحَّباً به عدداً من المقارّ البطريركيَّة والكنائس والصروح المسيحيَّة في دمشق وحمص وحلب، مجتمعاً بشتّى الفعّاليّات الروحيَّة والمدنيَّة والثقافيَّة والاقتصاديَّة… ملاحظاً اللُحمة بين أبناء الشعب الواحد، والتطلّع الأسمى إلى ما فيه خير البلدين الشقيقين سورية ولبنان.

في حلب كانت زيارة دار مطرانيّتنا القديمة وكاتدرائيّتنا العريقة التي تطلّ على ساحة العلاّمة المارونيّ المطران جرمانُس فرحات حيث نصبه. أمّا القدّاس الإلهيّ الذي أقمناه إلى جوار مدفن مار مارون فكان الغاية الأهمّ في الزيارة، إذ جاء مرتّباً مؤثّراً، رُفعت فيه أجمل الصلوات والألحان من الطقس المارونيّ. وتلا ذلك، في المكان نَفْسه، كلمة للعماد عون أشار فيها إلى قصر المسافة بين براد وجبل لبنان، وإلى دعوة الرئيس الأسد إلى إعادة إحياء موقع مار مارون ووعده بتقديم الأرض المناسبة لذلك.

هذا وقد صار بالمناسبة إعلام كثيف عبر التلفزيون السوريّ، الذي نقل الأحداث نقلاً مباشراً إلى العديد من المحطّات التلفزيونيَّة في لبنان والعالَم.

اكتشاف هذه الأماكن، حيث عاش مار مارون ودُفن، لم يكن وليد الساعة، بل كان مشروعاً صارت له تحضيرات مكثّفة وترتيبات شتّى لسنوات خلت.

وفي ما يلي نوضح في القسم الأوّل، وبطريقة مقتضبة، أصل هذا المشروع والمراحل التي مرّ بها. ثمّ نأتي، في القسم الثاني، إلى ما يعنيه اكتشاف هذه الأماكن بالنسبة إلينا.

 
مشروع إحياء أماكن مار مارون

1- نشأة فكرة تعرّف أماكن مار مارون وإحيائها

1. في العام 1999، جاءنا وفدان من الولايات المتّحدة الأميركيَّة، على دفعتين، يقولان إنّ هناك مجموعات مارونيَّة ستأتي إلينا لمناسبة اليوبيل الألفين لميلاد السيّد المسيح، ويهمّها أن تزور قبر مار مارون في بلدة براد القريبة من حلب.

2. ثمّ كان هناك تحضير للمؤتمر البطريركيّ المارونيّ، الذي شاركت أبرشيّتنا فيه. وكان أوّل موضوعاته: الهُويَّة المارونيَّة، وكيف تكوّنت هذه الهُويَّة عبر التاريخ والتراث واللاهوت والروحانيَّة. ولمّا كنّا نحن الأقرب إلى الأماكن – الجذور، آلينا على نَفْسنا أن يكون لنا دَور في البحث والتدقيق في هذه الأماكن، بغية إبراز هذه المعالم، وحملها إلى العالَم المارونيّ والسريانيّ، وإلى الكنيسة الجامعة والعالَم.

3. وقد شجّعنا على ذلك الكثير من أهالي حلب وغيرهم، الذين رغبوا في إزاحة الستار عن هذه البقعة التي تسمّى، إلى الآن، منطقة المدن "المَنْسيَّة" أو "الميتة". وهي بقعة تمتدّ مساحتها على 5500كم2، كان عليها أكثر من 800 بلدة وقرية، وفيها آثار لأكثر من 2000 كنيسة ودير، إلى أبراج عديدة للنسّاك وأعمدة للعموديّين. ففي بلدة براد وحدها آثار لثلاث كنائس ودير وبرج وعمود.

2- لماذا اليوم بالذات؟

– لسببين: أوّلاً، ظهور الدراسات العلميَّة. وثانياً، التشجيع من قِبل السُلطات الرسميَّة، وعلى رأسها رئيس البلاد بالذات.

1. الدراسات العلميَّة:

ابتدأت منذ العام 1970 مع صدور كتاب "تاريخ الموارنة" للخوري بطرس ضو. فلم يكن من الممكن التكلّم بطريقة علميَّة محدّدة على هذا الموضوع قبل هذا التاريخ.

لقد تتالت المؤلَّفات بعد هذا التاريخ. وسنأتي على ذِكر عدد منها في السياق.

2. التشجيع من قِبل السُلطات الرسميَّة وعلى رأسها رئيس البلاد بالذات:

– بعد زيارة الوفدين الأميركيّين المارونيّين، لاحظنا أن لا طريق سالكة إلى بلدة براد حيث قبر مار مارون. فتوجّهنا مع رئيس جمعيَّة العاديّات الأستاذ محمّد قجّة ومستشار الجمعيَّة المهندس عبد الله حجّار إلى محافظ حلب آنذاك الدكتور محمّد مصطفى ميرو، وعرضنا عليه الوضع، فوعدنا خيراً.

وما إن أصبح الدكتور ميرو رئيساً للوزراء بعد شهرين، من هذا التاريخ، والتقيناه لنهنّئه، حتّى زفّ إلينا البُشرى بأنّ طريق براد قد لُزّمت. وسينتهي العمل فيها في غضون شهرين أو ثلاثة. وهكذا كان.

شُقَّت طريق بطول 17.5كم، وعُبّدت… وهي كناية عن طريقين أُصلحتا كلّيّاً، واحدة تصعد من "الباسوطة" وأُخرى تأتي من بلدة "زيارة"، وتلتقي الطريقان في بلدة "كيمار" الأثريَّة… حيث تؤلّفان طريقاً واحدة تصل إلى بلدة براد.

وشجّعنا سيادة الرئيس الدكتور بشّار الأسد بالذات، بعد أن التقيناه في عيد الفطر في 5/11/2002، إذ قال لنا: "قدّموا لنا مشاريعكم، ونحن جاهزون لتلبية طلبكم".

وقد منحنا سيادته مزيداً من التشجيع، في أثناء استقباله لنا مؤخّراً في دمشق في 16/12/2008، مؤكّداً دعمه الكامل في ما سعينا إليه، وحرصه على المحافظة على روحانيَّة هذه المنطقة بما فيها من معالم تاريخيَّة وصروح قدسيَّة. 

3- تأليف لجنة رسميَّة

في 19 آب 2003، تمّ تأليف لجنة رسميَّة بمرسوم صدر عن وزير السياحة الدكتور سعد الله آغا القلعة، وهو من حلب. وفي المرسوم أنّ مهمّة هذه اللجنة هي "دراسة واقع موقعَي براد وكيمار (والأصحّ قلعة كالوته) ولا سيّما الأماكن التي عاش فيها ودُفن مار مارون أبو الطائفة المارونيَّة، وتقديم المقترحات بشأن تقديم الخدمات الأساسيَّة والسياحيَّة لها".

وكان في هذه اللجنة ممثّلون عن وزارة السياحة، ومديريَّة الخدمات، ومديريَّة الآثار، إلى جانب ممثّلين عن مطرانيَّة حلب المارونيَّة .

اضطلعت هذه اللجنة بمهامّها، وفي 16 آذار من هذا العام 2009 تمّ تعديل في تكوين اللجنة. فأصبحت تضمّ ثمانية أعضاء يمثّلون الهيئات الرسميَّة المختصّة في حلب، وعلى رأسهم المهندسة علياء الحسين، بالإضافة إلى ممثّلين من المطرانيَّة المارونيَّة.

 

4- إصدار كتيّب تحت عنوان مار مارون

1- فبعد هذا كلّه، أصبح لزاماً علينا أن نقوم بدراسة معمَّقة، كي نُقنع ذاتنا أوّلاً، ومن ثمّ الكنيسة المارونيَّة، والدولة السوريَّة، بجدّيَّة هذا الأمر. فكان الكتيّب الذي أصدرناه العام 2004. وهو يرتكز على كتابات الأب هنري لامنس اليسوعيّ H. Lammens، والخوري بطرس ضو، وكتب الآباء الفرنسيسكان الثلاثة: إيناسيو بانيا I. PEÑA وبسكال كستلاّنا P. Castellana وروموالدو فرنانديز R. Fernandez، والأستاذ عبد الله حجّار، الذين تطرّقوا إلى ذِكر مار مارون، بالإضافة إلى الكتب الإحدى والعشرين المذكورة في حواشي هذا الكتيّب. ولقد وجدنا ثمانية براهين توافقيَّة، وثلاث شهادات. واحدة من حلب واثنتان من أهالي براد بالذات. تدلّ على إقامة مار مارون ودفنه في هذه الأماكن. وأُرسلت مسوّدة هذا الكتيّب إلى نحو من خمسين من البحّاثة والمهتمّين بالأمور التاريخيَّة. فجاءتنا معلومات أضفناها إلى عملنا هذا، وملاحظات نقّحناه بها…

2- طُبع هذا الكتيّب بعنوان: "مار مارون، أضواء على حياته ومنسكه ودفنه" (64ص، قطع وسط)، في بدء خريف العام 2004. وقُدّمت طباعته هديَّةً إلينا من قسم الفنّ الكنسيّ ورئيسه حضرة الأب عبدو بدوي، وبمباركة قدس الأب العامّ للرهبانيَّة المارونيَّة بلبنان الأبّاتي الياس خليفة، وإسهام الأبّاتي بولس نعمان… ونستهلّها مناسبة كي نقدّم لهم الشكر الجزيل على كلّ ما قاموا به من عمل مجدّ على الأرض، ومن مبادرات مع العديد من آباء جامعة الروح القُدُس – الكسليك، وأساتذتها وطلاّبها، وعلى رأسهم المهندس إيلي طعمة الذي أعدّ المخطّطات لمركز سياحيّ دينيّ في الهواء الطلق، نالت إعجاب وزارة السياحة ومديريَّة الآثار السوريّتين.

3- وفي أثناء انعقاد الدورة الثانية للمجمع البطريركيّ المارونيّ، في تشرين الأوّل 2004، عرضنا هذا الكتيّب مع عدد من الشرائح المصوَّرة والمعلومات التي في حوزتنا. وكان ذلك بحضور غبطة أبينا البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، والسادة الأساقفة الموارنة والوفود الآتية معهم من بلدان النطاق البطريركيّ وبلدان الانتشار، وأمام خبراء المجمع والمستمعين (وكان عددهم الأصليّ 313 شخصاً)، فلقينا كلّ تشجيع واهتمام. وطُلب إلينا أن ننقل الكتيّب إلى اللغات المحكيَّة في بلدان الانتشار.

5- محتوى الكتيّب:

يضمّ الكتيّب مقدّمة وثلاثة فصول، تليها ثلاثة ملحقات.

1. المقدّمة: الوجود التاريخيّ لمار مارون – ونبذة عن تيودوريطُس أسقف قورش الذي كتب عنه.

2. الفصل الأوّل: حياة مار مارون.

سيرة مار مارون، كما هي واردة في كتاب "تاريخ أصفياء الله" لتيودوريطُس أسقف قورش – ما الذي جمعه مع غيره من نسّاك المنطقة وما الذي يميّزه – هل كان مار مارون كاهناً؟ – ما الذي نعرفه عن تاريخ مولده ووفاته؟

3. الفصل الثاني: المكان الذي عاش فيه مار مارون.

1- تساءلنا: هل عاش في أبرشيَّة قورش بالتحديد؟ – الجواب: لا، لم يعش في أبرشيَّة قورش، بل في حدودها.

2- هل عاش في جوار أفاميا – قلعة المضيق اليوم؟ – الجواب: لا.

3- هل عاش في "مغارة مار مارون" على منبع نهر العاصي في لبنان؟ – الجواب: لا.

4- هل عاش في قرية كفر نبو؟ – الجواب: لا.

5- أين عاش إذاً؟ – الجواب: في قلعة كـالوته، التي تبعد عن براد زهاء 3 كم بالخطّ المستقيم، و6 كم من خلال الطريق التي شُقّت حديثاً بين قلعة كالوته وبلدة براد.

4. الفصل الثالث: تكريم جثمان مار مارون والمدفن الذي وُضع فيه.

– كيفيَّة تكريم الشهداء في هذه المنطقة من سورية الشماليَّة.

– انتقال طريقة تكريم الشهداء إلى تكريم القدِّيسين مع مار مارون بالذات.

– دفن مار مارون في بلدة براد، التي تبعد الآن نحو 40كم عن حلب.

– لماذا بلدة براد؟

لأنّها تتوافق مع ما أخبره تيودوريطُس عن المكان الذي فيه دُفن مار مارون، الذي قال: "إنّه بعد أن مات مار مارون قامت معركة عنيفة بين السكّان المجاورين للاستيلاء على جثمانه. وكانت الغلبة لبلدة متاخمة مكتظّة بالسكّان". (تيودوريطُس أسقف قورش، تاريخ أصفياء الله، نقله عن اليونانيَّة الأرشمندريت أدريانوس شكّور ق. ب، المطبعة البولسيَّة، جونيه – لبنان، 1987، الفصل 16).

– فبلدة براد هي متاخمة لقلعة كالوته.

– وكانت مكتظّة بالسكّان في ذلك العهد.

– وكانت مركزاً إداريّاً ودينيّاً منذ القرن الرابع: وصار فيها تباعاً، كما ذكرنا سابقاً، كنيسة كبرى بُنيت بين 399-402، وكنيستان أُخريان، ودير، وبرج، وعمود.

– وكان للكنيسة الكبرى، كنيسة صُغرى ملتصقة بها، بُنيت بعد العام 402 بقليل (حوالى 410-420) أي على أثر موت مارون.

5. الملاحق الثلاثة:

– الملحق الأوّل: رسالة الأبّاتي بولس نعمان إلينا بتاريخ 10 آب 2003، وهي تشجّع على الاهتمام بهذين المكانين المذكورين: قلعة كالوته، وقبر مار مارون في براد.

– الملحق الثاني: كتاب الأب بسكال كستلاّنا إلى غبطة البطريرك صفير بتاريخ 6/5/2003، يتكلّم فيه على تنسّك مار مارون في قلعة كالوته.

– الملحق الثالث: نبذة عن مؤلَّفات الآباء الفرنسيسكان الثلاثة: كستلاّنا وفرنانديز وبانيا. ولهم 13مؤلَّفاً كبيراً، ما عدا المنشورات والمقالات العديدة في وصف الآثار الدينيَّة لهذه المنطقة، ومنها أماكن مار مارون.

وختاماً، ننقل إليكم المقطع الأخير من هذا الكتيّب، وهو مأخوذ عن البحّاثة الأب إيناسيو بانيا:

"يعود إلى الكنيسة السوريَّة شرف بدء الاحتفال بموت نسّاكها المتوفَّين برائحة القداسة، فالقدِّيس مارون كُرِّم في سورية الشماليَّة، منذ بداية القرن الخامس، بعبادة علنيَّة".

ماذا تعني لنا أماكن مار مارون؟

أوّلاً: العودة إلى الجذور

ورد في المجمع البطريركيّ المارونيّ ما يلي([1]):

"ولا يسعنا إلاّ أن نذكّر بأنّ اسم الموارنة يرجع إلى اسم القدِّيس مارون المتوفّى حوالى 410، وإلى الدير الذي بُني على اسمه بُعيد مجمع خلقيدونيا 451، في منطقة أفاميا الكائنة في سورية الثانية".

"أمّا القدِّيس مارون، شفيع كنيستنا التي تعيّد له في التاسع من شباط، فقد ابتكر طريقة نسكيَّة فريدة من نوعها على جبل قورش في سورية الأُولى، قوامها العيش في العراء، وقد كتب سيرة حياته وحياة تلاميذه في النسك، تيودوريطُس القورشيّ (459)، في كتابه الشهير عن رهبان سورية ونسّاكها، وذلك بين مطلع القرن الرابع ومنتصف القرن الخامس".

سيرة مار مارون حسبما تسلّمناها من مؤرّخ حياته الوحيد الأسقف تيودوريطُس القورشيّ، تقول إنّ القدِّيس مارون عاش في حدود هذه المنطقة القورشيَّة ودُفن فيها.

وقد أشرنا إلى ذلك في الكتيّب الوارد ذِكره أعلاه. حيث أثبتنا أنّ الموقع الذي تنسّك فيه مار مارون هو قلعة كالوته بالذات، أمّا مدفنه فكان في بلدة براد في كنيسة جوليانُس.

وفي إطار العودة إلى الجوهر نتوقّف عند وجهين اثنين، هما: الطابع الكنسيّ والرهبانيّ لكنيستنا المارونيَّة، وأهمّيَّة هذه الأماكن في إبراز هذا الطابع.

1) الطابع الكنسيّ والرهبانيّ لكنيستنا المارونيَّة

أ- في كلامه عن الهُويَّة المارونيَّة يقول المجمع البطريركيّ المارونيّ ما يلي:

"لا ريب في أنّ أساس البطريركيَّة المارونيَّة النسكيّ والرهبانيّ جعل من الكنيسة المارونيَّة عبر تاريخها الطويل، جماعة ديريَّة كبيرة هي "رعيَّة البطريرك"، رعيَّة تمحورت حول دير الكرسيّ البطريركيّ، ورأت في الجالس على هذا الكرسيّ "الأب والرئيس" والحافظ لوحدتها"([2]).

ب- أمّا هذا التاريخ، فما يقول؟

"ومنذ القرن الرابع، برزت الحياة الرهبانيَّة بصورة فرديَّة، على يد نسّاك متوحّدين، رفضوا التراخي المنتشر بُعيد السلام القسطنطينيّ، فعاشوا وحيدين في القفر والمناسك، وازدهرت حياتهم القشفة والمتزهّدة. من هؤلاء النسّاك عرفنا الناسك الأوّل يعقوب النصيبينيّ ويوليانُس الملقَّب بسابا، أي الشيخ (367). وكان مارون من أبرز العائشين في العراء، وصاحب فضل في تأسيس الحياة النسكيَّة في العراء في منطقة قورش. فتتلمذ على يده الكثيرون، رجالاً ونساء. من تلاميذه: حوشب القورشيّ ويوحنّا وبردات ويعقوب، ومن تلميذاته: مارانا وكيرا ودومنينا"([3]).

ج- ولهذا الطابع قيمة كبرى، كانت ولا تزال، تُغذّي حياتنا الإيمانيَّة:

"فإذا كانت الحياة الرهبانيَّة هي "روح الكنائس الشرقيَّة"، حسب قول قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني، فهي بالنسبة إلينا بمثابة موهبة "كاريسما" إنجيليَّة مؤسِّسة كوّنت كنيستنا الأنطاكيَّة وطبعتها عبر تاريخها الطويل. وهذا يدعونا بإلحاح، إكليروساً ورهباناً وعلمانيّين، إلى استجلاء معنى هذه الموهبة المؤسّسة ومقتضياتها. فهذه كانت ولم تزل إنجيليَّة بامتياز في كونها تدفع بالمؤمنين إلى أن يأخذوا على محمل الجدّ كلّ متطلّبات السير وراء المسيح، كما هي واردة في الإنجيل: "وقال للناس أجمعين: مَن أراد أن يتبعني، فليزهد بنَفْسه ويحمل صليبه كلّ يوم ويتبعني" (لو 9/23). وتتجسّد تلك الموهبة بالصلاة المستمرّة والهذيذ بكلمة الله، وبالتوبة الصادقة من أجل الملكوت، وببَساطة العيش والتعاضد الأخويّ شهادةً على المحبّة. وأبهى ما في هذه الموهبة هو التشديد على حالة السهر، بقوّة الرجاء الذي لا يخيّب (روم 5/5)، ورهبة الدينونة لانتظار السيّد المسيح عند مجيئه الثاني ليدين الأحياء والأموات (قانون الإيمان النيقاويّ – القسطنطينيّ)، ويرفع الكلّ إلى أبيه "ليكون الله كلّ شيء في كلّ شيء" (1قور 15/28)"([4]).

2) أهمّيَّة هذه الأماكن في إنجاز هذا الطابع

هذه المقاطع التي ذكرناها في إسهاب، ما كانت إلاّ لتدلّنا إلى تعرّف تراثنا الروحيّ العميق، الذي يظهر، في ما يظهر، بوجود هذه الأماكن التي تقدّست بحياة مار مارون ورفاقه الزُهّاد، والتي ما زالت شاهدةً، اليوم كما في الماضي، لروحيَّةٍ ديمومتها من ديمومة روح الإنجيل التي أنبَتَتْها.

فإنّه لا يخفى ما لهذه الأماكن من أهمّيَّة، إذ إنّها توحي لنا الكثير عن الإطار الجغرافيّ والإنسانيّ والروحيّ الذي عاش فيه مار مارون. فآثار أبنتيها القديمة، وكنائسها وأديارها، التي جاوز عددها الألفين ما بين معبد وكنيسة، كلّها في رحاب واسعة موزّعة على خمسة جبال من الكتلة الكلسيَّة في سورية الشماليَّة، وقد أقام فيها المسيحيّون حول أديار الرهبان وصوامع النسّاك زهاء 500 سنة، فسُمّيت هذه البقاع بعد أن هجرها المسيحيّون بدءاً من القرن الثامن بالمدن المَنْسيَّة، كما سبق وأشرنا.

إنّ الكنائس والأديار والأبراج وأعمدة النسّاك العموديّين ذات أشكال هندسيَّة مميّزة. وقد تطوّرت عبر العصور الخمسة المتتالية، وكذلك الرموز المنقوشة على جدرانها وحجارتها… ولعلّ ذلك كلّه يشدّك إلى التأمّل والتأثّر ويعطيك صورة حيَّة عن نوعيَّة النسك والتعبّد والصلاة التي ألفها مار مارون وتلاميذه ورفاقه الكثيرون.

هذا علاوة على مرأى الهضاب والجبال والأودية، وأتربتها ونباتاتها وزهورها وأعشابها وأشجارها… ولقد حوّل المتوحّدون والرهبان والأهالي هذه الأرض القشفة إلى جنّات خصيبة. وأوجدوا المحترفات على أنواعها كي يجعلوا محاصيل أرضهم أكثر جودة. فصارت ثمار أشجارها مشهورة في البقاع السوريَّة كلّها. وسُوّق المنتوج الأكبر إلى الخارج. وأصبحت طيبة مذاقه معروفة في أصقاع الإمبراطوريَّة الرومانيَّة برمّتها، ممّا جعل هذه البقعة حافلة بالنموّ والازدهار والبحبوحة. ولا عجبَ في ذلك إذ إنّ الموارنة، كما يقول مجمعنا البطريركيّ "قَدَّسوا الأرض وتَقَدَّسوا بها"([5]).

لكنّ هذا الغنى، وما تبعه من حياة الترف، كان من بين الأسباب التي حدت ببعضهم إلى أن يتركوا المدن والقُرى، ناشدين العزلة والصمت والتعبّد، كي لا تجرفهم غناوات حياة الرخاء التي نعموا بها، بعد أن حرّرهم منشور ميلانو، السنة 313، من العيش في الخفاء ورفع عنهم كابوس الاضطهادات. فاختاروا أن يعيشوا جذريَّة الحياة الإنجيليَّة فيتمرّسوا فيها ويقدّموها بكلّ حميَّة واندفاع ومحبّة إلى بني قومهم فيتعرّفوها ويعيشوا ببَرَكتها.

ثانياً: التأمّل في حياة مار مارون

الأماكن تنطق من تلقاء ذاتها. فعلى "قمّة عالية عاش مار مارون". وها هي قلعة كالوته جاثمة أمامك تذكّرك كيف كان مار مارون يقضي الأيّام والليالي في الهواء الطلق، ما بين أنقاض هيكل أُعيد بناؤه أكثر من مرّة، إلى أن سمّاه الرومان "هيكل الأسلاف الأقدمين"… وكيف، في هذا المكان المرتفع الذي يعلو 560 متراً عن سطح البحر، كان قدِّيسنا يمارس أعمال النسك، ولا يكتفي بالعاديَّة منها، بل "يُضيف إليها أعمالاً أُخرى، مكدِّساً في ذلك ثروات الفلسفة"، على حدّ قول تيودوريطُس.

وهناك، لم يكن ليشفي الأجساد السقيمة فحسب، بل يهتمّ بالأنفس أيضاً… فإذا كنت مريضاً بالجسد فإنّك تلتقيه وتسأله ما العمل وكيفيَّة عيش الألم إن لم تهبط عليك نعمة الشفاء. وتطلب موهبة الرويَّة والتبصّر. وإذا ساورتك الأهواء على أنواعها، وتأثّرت بأشكال الظلم والإجحاف، أو انتابك ميل إلى الكسل أو إلى شتّى الانحرافات، فإنّك أمام آذان صاغية تقدّم لك علاجاً أكيداً، دواؤه لا من حشائش طبّيَّة، بل من بَرَكة روحيَّة استجلبتها روح الصلاة.

وما دمت مأخوذاً في هذه الأجواء لا بُدّ لك من أن تتصوّر كيف أنّ الناس في الزمان الغابر تأثّروا بهذا القدِّيس، حتّى إنّه، يوم وفاته، أراد كلّ جمع منهم أن يحتفظ بجثمانه في بلدته، كي يتسنّى له أن يتبرّك به في كلّ آن.

فتذهب عندها إلى بلدة براد. وأوّل ما تراه على مرتفعها أنقاض كنيسة كبرى شُيّدت في عصره (399-402). ويمكن أنّه رآها تتشامخ على أنقاض هيكل وثنيّ فتتأثّر بجَمال هذا البناء الفخم، الأوّل من نوعه والأكبر في تلك المنطقة. وكان ذلك على يد معمار من هذه الأرض السوريَّة هو المعلّم جوليانُس.

ثمّ تجول بالنظر إلى ما تبقّى من كنيسة صغرى، لم يرها مارون. لأنّها بُنيت تكريماً له بُعيد وفاته، إذ إنّه لأوّل مرّة دُفن قدِّيس معترِف في قبر فخم لم يُبنَ مثله قبلاً، ولم يكرّم أحدٌ مثلما كُرّم. فعلى مثال الشهداء الكبار كان له هذا التكريم. وكان الناس يقيمون له في ذلك المكان أعياداً احتفاليَّة، ويأتون إليه، ليل نهار، كي يتابعوا، هم وأولادهم، على مدى العصور، ما كان يفعل الآباء لاستدرار البَرَكة وطلب الشفاء، والتمتّع بالهناءة واستنشاق القداسة.

فهناك، تلقاء المدفن المقدَّس، يمكنك أن تأخذ إنجيلك، وتقرأ، وتتأمّل، وتمتلئ من هذه الكلمة الربّانيَّة الحاملة الحكمة والبهجة والانشراح. وإذا أردت الدخول إلى الكنيسة والمشاركة في القدّاس الإلهيّ فلا بدّ من أن تتغذّى من ذبيحة الفداء، من هذه المائدة الممدودة باستمرار، كي تفيض الكلمة التي سَمعت، والجسد والدم اللذان تناولت، في كِيانك الداخليّ، ويتاح لك أن تشعر، ولو لوقت، وكأنّك أصبحت "مسيحاً آخَر"، ابناً عزيزاً كريماً، وأخاً لإخوة أنت مُرسَل إليهم كي تعيش البرارة وتزداد كياسةً من كياسة حياتهم.

وإذا أردت أن تنظر حواليك، فإنّك تجد رموزاً منقوشة على ما بقي من بعض الحجارة تجعلك تُفكّر على نحو ما كانوا يفكّر فيه أهلها، وتتبحّر بما كانوا يتبحّرون.

أمّا إذا أردت أن تعرف المزيد عمّا كانوا يتأمّلون في صلواتهم. فما عليك إلاّ أن تأخذ كتاباً لكبار القدِّيسين، من كتّاب ذلك العصر الذين عاشوا في القرن الرابع وأوائل القرن الخامس.

فإليك على سبيل المثال ما كتبه أفراهاط الفارسيّ (†345) إلى المتنسّكين في أيّامه. فهو يعطيك صورة عمّا كان النسّاك (ومارون منهم) يتأمّلونه.

– لنستيقظ من نومنا" (روم 13/11) في هذا الزمان ونرفع قلوبنا مع أيدينا نحو إله السماء لعلّ الربّ يأتي فجأةً، وحين يأتي يجدنا متيقّظين (متّى 24/42).

– نهيّئ الزيت لقناديلنا لنخرج إلى لقائه بالفرح (متّى 25/4).

– ونرمي ونترك عنّا كلّ نجاسة لنلبسَ ثياب العرس (متّى 22/12).

– نكون أُمناء في الصلاة لنعبر مكانَ الخوف.

– ننقّي قلوبنا من الإثم لنرى العليّ في المجد.

– نكون رحماء كما كُتب (متّى 5/7) كي يرحمنا الله.

– نعود ربَّنا في المرضى (متّى 25/36).

– نكون متواضعين وصابرين ليورثنا أرض الحياة (متّى 5/4)

– نقتبل من ربّنا القوّة كي ندوس الحيّات والعقارب.

– لا تخرج تجاديف من أفواهنا التي بها نصلّي إلى الله.

– نكون رائحة طيّبة (2قور 2/15) فنفوح على الذين يُحيطون بنا.

– نكون فقراء في العالَم فنُغني الكثيرين من تعليم ربّنا…([6]).

 

الرموز الدينيَّة

ويمكنك أيضاً أن تتبحّر في الرموز الدينيَّة وتتأمّل معانيها. فإنّها كثيرة جدّاً، فهي موجودة هنا وهناك في كنائس "المدن المَنْسيَّة" وأديارها وجوارها. منها النوافذ بشكل صليب، والأبواب المزخرفة بالصلبان المتعدّدة، والدائرة أو المربّع المحيطان بالصلبان، والشجرة بأشكال متنوّعة، والطيور كالحمامة والطاووس، والصليب المثلّث القرون، والصليب المحاطة أذرعه الثلاث العلويَّة بهالة دائريَّة، إلى ما هنالك من أشكال هندسيَّة لها معانيها الكتابيَّة والروحيَّة المميّزة.

لكنّنا نتوقّف عند ما نراه بكثرة في الموقعين التابعين لمار مارون، أي براد وقلعة كالوته، ألا وهو رمز الصليب ذي القرنين.

يقول في ذلك الأب روموالدو فرنانديز([7]):

"إنّ هذا الصليب ذو حجم صغير، وأذرع متساوية الطول. ينتهي كلّ ذراع بطرفين مفترقين. وهو معروف بالصليب ذي القرنين Croix Bicorne… شكله هو الأقدم. وقد ظهر مرتبطاً بإكرام القدِّيس سمعان العموديّ. وبشكل عامّ فإنّه الصليب الأكثر انتشاراً في الآثار المسيحيَّة السوريَّة، وفي سورية الشماليَّة بنوع خاصّ. وصار الموضوع المركزيّ تقريباً للوحات أماكن الحجّ المقدَّسة ورسومها، وبقي وجوده مستمرّاً حتّى أيّامنا هذه. شكل الصلبان هذا يدلّنا إلى ديناميَّة الصليب الفادي والمطهِّر، والذي استحقّ لنا الحياة. يرمز "القرن" في العالَم الساميّ إلى "القوّة"، ويرمز القرنان إلى الطريقين: طريق الخير وطريق الشرّ. والصليب كان الغالب الأكبر على الشرّ كلّه.

وفي الكتابات السوريَّة Graffiti كانت الصلبان هذه تدلّ على الملاكين: ميخائيل وجبرائيل. ورسالتهما كانت في أن يرافقا النفوس انطلاقاً من القبر حتّى منبر الله. ومن ثمّ رَمَزَ هذا الشكل من الصلبان إلى المسيح، الحافظ الأكبر للنفوس، والذي على شبه ملاك، يقودها عبر مسيرتها ما بعد القبر، ويوصلها بأمان إلى السعادة الأبديَّة".

ثالثاً: البُعد المسكونيّ

لهذه الأماكن بُعد مسكونيّ مميّز.

وبالرجوع إلى المجمع البطريركيّ المارونيّ نقرأ ما يلي:

"وتنتمي كنيستنا الأنطاكيَّة المارونيَّة إلى عائلة الكنائس ذات التراث السريانيّ في فرعيه "الغربيّ والشرقيّ". وبهذا التقسيم المتداول إشارة إلى السريان القاطنين في المناطق الواقعة غرب نهر الفرات وشرقه.

وقد أغنى هذا التُراث، في أبعاده اللاهوتيَّة والروحيَّة والليتورجيَّة، آباء سريان عبّروا عن إيمانهم المسيحيّ بلغة ساميَّة من لغة كتاب العهد القديم. وتمحور نشاطهم الفكريّ والكنسيّ حول مدارس أنطاكية والرها ونصيبين اللاهوتيَّة.

وقد تجلّى هذا التراث على الصعيد الليتورجيّ بالصلوات الشعريَّة التي نظمها لاهوتيّون شعراء أمثال أفرام (373) ويعقوب السروجيّ (521) وبالاي (المتوفّى بعد 432) وغيرهم.

وهي تظلّ اليوم المصدر الأساسيّ لنصوص الفرض المارونيّ في قسميه المخطوط والمطبوع، ما زلنا ننهل من روحانيّتها العميقة المشبعة بمراجع الكتاب المقدَّس في عهديه القديم والجديد…"([8]).

ما قلناه عن المباني الكنسيَّة والكتابات الروحيَّة والرموز على أنواعها يشكّل إرثاً مشترَكاً بين السريان جميعهم قبل أن يصبحوا كنائس متعدّدة وحتّى بعد أن انفصلوا.

والحال، فما إن تجد ذاتك في موقع ما من هذه الأرض المبارَكة، حتّى تتذكّر موقعاً آخَر… وكلّ موقع يشبه الآخَر، ولكلّ موقع ميزة أو ميزات خاصّة.

أضفْ إلى ذلك أنّك تشعر، وأنت تُوجد في أيّ موضع، وكأنّك في بيتك وفي كنيستك.. وفي أجوائك الخاصّة.

وإنّك تشعر أيضاً بحرارة الإيمان الأُولى التي، في زمن مار مارون، لم تكن قد ميّزت بين عقيدة وأُخرى، ومن ثمّ فرّقت بين كنيسة وأُخرى. فمارون لم يكن في البدء "مارونيّاً"، بل كان ينتمي إلى الكنيسة الجامعة، كنيسة ما قبل الانشقاقات الكبرى، وقد توطّدت خصوماتها ما بعد مجمع خلقيدونيا السنة 451.

فإذا كان أصل الموارنة يعود إلى مار مارون بالذات في بداية القرن الخامس، فإنّهم "برزوا جماعة كنسيَّة مستقلّة ضمن الكرسيّ الأنطاكيّ في نهايات القرن السابع والنصف الأوّل من القرن الثامن… إلى جانب كنيسة السريان الأرثوذكس من جهة وكنيسة الروم الأرثوذكس لاحقاً من جهة ثانية"([9]).

وحتّى بعد ذلك الحين بقي الكثير من المتوحّدين ينهل بعضهم من كتابات بعض ويتغذّون من جميعها بعيش الإيمان والمحبّة والقداسة.

ونحن اليوم نرجع إلى هذه الكتابات ونعتبرها تراثاً مشترَكاً أثّر فينا، في سجيّتنا، وفي كِياننا المؤمن المسيحيّ أبلغ تأثير.

وإذا ما درجت العادة في مدينة حلب أن تُقيم الكنائس، بكلّ طوائفها، احتفالات مشترَكة في ذكرى آباء الكنيسة الكبار الذين عاشوا وماتوا قبل الانفصال.

– فصار احتفال لسمعان العموديّ العام 1991 قرب عموده في جبل سمعان لمناسبة مرور 1500 سنة على بناء كنيسته وديره.

– وللقدِّيسين سرجيوس وباخوس العام 1998 في الرصافة لمناسبة مرور 1700 سنة على استشهادهما.

– ولمار أفرام وقد أُقيم له مؤتمر واحتفالات في حلب العام 2006، لمناسبة مرور 1700 سنة على ولادته.

– واحتُفل بيوبيل يوحنّا فم الذهب العام 2007، في ذكرى مرور 1600 سنة على رقاده.

فنحن نأمل أن يكون لنا في حلب، في السنة القادمة 2010، احتفال باليوبيل المئويّ السادس عشر لمار مارون، المتوفّى بحسب التقليد السنة 410.

جميع هذه الاحتفالات لا بدّ أنّها تناجينا وتقول:

هذا تراثكم، فعودوا إليه مجتمعين! هذا إيمانكم: فاعتزّوا به، واعبدوا المسيح، واشهدوا له في وحدتكم ومحبّتكم بعضكم لبعض وللناس أجمعين.

رابعاً: البُعد الحِواريّ

سكّان منطقة المدن التي فيها موقعا مار مارون هم، في أغلبيّتهم الساحقة، من الأكراد المعتنقين بأكثريّتهم الديانة الإسلاميَّة، وفيها أيضاً من السنّة والدروز، وفي جوارها يوجد أكبر تجمّع شيعيّ في سورية.

ولقد وُجدنا في طبيعة الحال مع سكّان طيّبين استقبلونا بحفاوة وترحاب. ونحن نودّ أن نعيش أخوّة صادقة معهم. فننعم بمعايشتهم ونحيا المودّة والتعاطف معهم ونحقّق الخدمات المتبادلة.

ولقد توجّهنا إليهم جميعاً في عيد مار مارون الفائت بكلام نابع من القلب:

"إنّنا لم نأتِ إليكم لكي نستأثر بهذه الربوع الغالية، بل جئنا إلى هذا المكان المقدَّس بغية أن نستنشق ما في أجوائه من قداسة، من حُبّ لله عزّ وجلّ، ومن حُبّ للإنسان. ولكي نتنسّم رائحة السيّد المسيح الطيّبة، كما تنسّمها مارون، ونغرف منه النقاء والصفاء، هذا الصفاء الروحيّ، الذي، متى دخل أعماق النَفْس، شدّها إلى عيش البرارة، وقادها إلى المصالحة مع الذات، أوّلاً، ووضع فيها التوق إلى عيش المصالحة مع الآخَرين، جاعلاً من صاحبها شخصاً ساعياً إلى السلام".

هذا وفي البيان الختاميّ للدورة الأُولى لمجمعنا البطريركيّ المارونيّ سمّت كنيستنا نَفْسها "خبيرة في العيش المشترَك"([10]).

ومن صُلب دعوة كنيستنا المارونيَّة أن تمارس لقاءها مع مسلمي العالَم العربيّ، في حضرة الله، بمعيَّة الكنائس الأنطاكية الشقيقة… وتعزّزه خدمةً للإنسان، لأنّ "الإنسان هو طريق الكنيسة"([11]).

ولا بدّ، من أجل بلوغ هذه الغاية، من إقامة حِوار صادق سليم. والحِوار، كما يذكر بطاركة الشرق الكاثوليك، هو "موقف روحيّ" قبل كلّ شيء([12]).

وقد عاشت الكنيسة المارونيَّة هذا الحِوار على مرّ السنين، كما يقول مجمعنا المارونيّ. "ففي هذا الشرق كان المسيحيّون إزاء المسلمين منذ أن كان الإسلام… كانوا حاضرين في كتاب الإسلام وأحاديثه النبويَّة، وفي شطحاته الصوفيَّة، وفي جدل حكّامه وفلاسفته وعلمائه.

كانوا حاضرين عند المجيء الأوّل للمسلمين، وفي بلاط الخلافتين الأمويَّة والعبّاسيَّة، وفي النهضة العربيَّة التي أطلقوها، وفي النـزعة التحرّريَّة التي دعوا إليها مع إخوانهم المسلمين للوقوف في وجه كلّ مستعمِر… ولذا، فإنّ حضورهم النوعيّ سيستمرّ رسوخاً وتألّقاً في الديار العربيَّة وسيبقون على أمانتهم لأرومتهم الشرقيَّة، رغم انتشار أبنائهم المتزايد في أربعة أقطار الأرض"([13]).

"وتطمح كنيستنا، عبر الحِوار الصادق والفطن والودود، إلى إرساء ثقافة جديدة في نفوس طرفَي الحِوار، ثقافة ركناها: الحرّيَّة والمحبّة"([14]).

"فالحِوار مع الإسلام والمسلمين هو زمن خيور روحيَّة جديدة لإثراء إيماننا المسيحيّ، لأنّ الحِوار ليس نتيجةً لإستراتيجيَّة أو لمصلحة، بل هو نشاط له حوافزه ومتطلّباته وكرامته الخاصّة"([15]).

"ترى كنيستنا، في أساس دعوتها، أن تلتزم تعزيز أشكال الحِوار الثلاثة، ألا وهي: حِوار الحياة وحِوار الأعمال وحِوار الاختبار الروحيّ،… وتستبصر إعادة إطلاق الحِوار اللاهوتيّ بين المسيحيَّة والإسلام"([16]).

وقد أبدت في النهاية "رغبتها العميقة في تصالح الإسلام مع المسيحيَّة، وتصالح المسيحيَّة مع نَفْسها في المسكونيَّة، لا سيّما في النطاق الأنطاكيّ، وتصالح الإسلام مع نَفْسه…"([17]). بإذنه تعالى.

نـداء

بعد أن عرضنا موضوع أماكن مار مارون وما تعنيه لنا، نطلق نداءنا إلى جميع أبناء الأبرشيَّة أوّلاً، ثمّ إلى المسيحيّين جميعاً، في حلب والبقاع السوريَّة كلّها، وإلى محبّي التعرّف بمار مارون والتأمّل في سيرته والتشفّع بنعماه، أن يأتوا إلى هذه الأماكن حاجّين مصلِّين… ويتعرّفوها بأجوائها المشبعة بروح العبادة ويتمتّعوا بالمناخ العليل الصافي. فمَن أراد أن يقوم برياضة روحيَّة، فهناك كاهن في منتصف النهار كي يستقبله. ومَن أراد أن يستفسر عن معالم هذه الديار وعن حياة النسّاك والمتوحّدين والرهبان الديريّين والراهبات، فسيكون باستقبالهم عن قريب دليل يوافيهم ببعض المعلومات اللازمة.

ونوجّه نداءنا أيضاً إلى المجموعات الروحيَّة، من كبار وصغار، وإلى الفرق الرسوليَّة من الشباب كي يزوروا هذه الأماكن ويتغذّوا من أجوائها، ويهدوا الكثيرين إليها، وإلى المعاني الإنسانيَّة والروحيَّة الكامنة فيها. ولا ننسى أنّ هذين الموقعين، إلى جانب دير مار سمعان، أصبحا، بفضله تعالى، وبلفتة كريمة من رئيسنا المحبوب الدكتور بشّار الأسد والجهات الرسميَّة، وبجهود أشخاص كثيرين من كهنة ومكرَّسين وعلمانيّين، بمنـزلة مفتاح لمنطقة "المدن المَنْسيَّة". وكلّ موقع فيها يمكن أن يحكي لزائريه عن أمر جديد ويحرّك مشاعر دفينة في قلوبهم. كما أنّ الكتب والكتابات، القديمة والحديثة، تذكي فيهم الإيمان وتنعشه، وتساعدهم في اكتشاف دعوتهم الخاصّة، أو في سماع نداءات حثيثة يهمس بها في آذانهم صوت الله، وهم في الصمت العميق.

وفي النهاية، فإنّنا بحاجة إليكم جميعاً، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، كي نسير قُدُماً في إتمام ما بدأناه، لا لشيء وإنّما لتلبية هذه النعمة التي انسكبت علينا، تمجيداً لاسمه القدُّوس، ومن أجل عيش الوحدة في الإيمان والانفتاح الأخويّ المحبّ على أهالي المنطقة وكلّ الزائرين.

  والربّ يهديكم إلى المزيد من الحماسة الروحيَّة والخدمة والعطاء.


[1] المجمع البطريركيّ المارونيّ (2003-2005)، نصّ (2/6).

[2] المجمع (2/22).

[3] المجمع (8/2).

[4] المجمع (2/27).

[5] المجمع (23/13).

[6] أفراهاط، الحكيم الفارسيّ – المقالات – نقلها إلى العربيَّة الخوري بولس الفغالي – دار المشرق، بيروت 1994، الصفحة 95-96.

[7] رموز مسيحيَّة في سورية القديمة، الكسليك – لبنان، 2004، الصفحة 72.

[8] المجمع البطريركيّ المارونيّ (2/12).

[9] المجمع (2/18).

[10] المجمع (3/62).

[11] يوحنّا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد (55/57).

[12] الحضور المسيحيّ في الشرق، عدد (47).

[13] المجمع البطريركيّ المارونيّ (3/62).

[14] المجمع (3/60).

[15] المجمع (3/61).

[16] المجمع (3/64-65).

[17] المجمع (3/70).