تأمل في سفر المزامير : انتصار الملك بقدرة راكب الكاروب

همسات الروح

المؤلف: الأب/ بولس جرس

المزمور الثامن عشر

انتصار الملك بقدرة راكب الكاروب

أولاً: تقديم المزمور:

المزمور الثامن عشر مزمور ملوكي، يحتوي هذا المزمور على ذروة الشكر المسياني، يُنشده الملك بعدما منحه الله من انتصارات. وهو قريب جداً مما نقرأه في  صموئيل الثاني الفصل الثاني والعشرين، على لسان الملك داود بعد أن نجّاه الله من أعدائه. في هذا المزمور يتذكّر المؤمنون في الليتورجيا وجه الملك داود وغيره من الملوك، متطّلعين إلى الملك المخلّص في الأزمنة الآتية، نحو داود الجديد الذي سيكون بحسب قلب الرب فيسلك في طرقه ويعمل بوصاياه. وحيث يُصنَّف هذا المزمور كمزمور مسياني فقد اقتبس القديس بولس منه مرتين وقام بتطبيقه على السيد المسيح (رومية 15: 9؛ عبرانيين 2: 13). ويطبق بعض المفسرين المزمور كله على السيد المسيح إذ يرون أن ملك داود كان صورة ورمزاً لمملكة المسيح.

المزمور هو قصيدة انتصار سجلها داود في أواخر حياته بعد أن استراح من جميع أعدائه وعلى رأسهم شاول الذي برغم إخلاص داود في خدمته لم يكف عن تعقبه بلا شفقة. والنبي لا يترنم بانتصار عسكري تاريخي تمّ مرة واحدة، وإنما يترنم بحياة كاملة غنية باختبار محبة الله المترفقة وتدخلاته المملوءة رأفة. فعند كتابة هذا المزمور كان قد مرّ على موت شاول زمن طويل، ربما ثلاثون عاماً، ومع هذا يتحدث داود عن هذه الوقائع كأنها حدثت بالأمس القريب، وهكذا يليق بالمؤمن إلا ينسى مراحم الله معه بمرور الزمن.

يُعتبر هذا المزمور فرصة للتعرف على إحدى أشهر وأجمل القصائد الأصيلة لداود الملك، كما يمثل قطعة رئيسية من الصلوات الطقسية في الاحتفالات الخاصة  بالملوك، ومع أنه كُتب كنشيد شكر شخصي، فقد صار ملكية الجماعة تستخدمه في الصلاة والعبادة.

هكذا تحلّق هذه التسبحة الرائعة مرتفعة في السماء كالكاروبيم الذي عن بهاءه تتحدث، وتتسامى بكونها صلاة حمد وتمجيد لله مخلص عبيده في وقت الشدة، يرفعهم ليُعظّم بركات مَلِكه.

عرف شعب إسرائيل أساطير غريبة وتفاسير ميتولوجيّة عن كوارث طبيعية، وسمع بآلهة من العالم الفوقيّ والتحتيّ تتصارع دون هوادة، فقد كان الوثنيّون يعتبرون أن تلك المعركة تتكرّر كل عام بتوالي فصول السنة، فلا ينتصر إله إلاّ ليعود إلى الحرب؛ سمع بآلهة للخير وآلهة للشر، ولكنه عرف أن واحداً وحيداً يحقّ له اسم الله هو "يهوه" أما سائر ما في الكون فخلائق تخضع له، بذلك لم تعد هذه الحروب وتلك المجابهات تُخيف الإنسان المؤمن بالله. فالمؤمن الحقيقي لا يخاف قوى الطبيعة منظورة كانت أم غير منظورة فهي تضمحل وتتلاشى أمام ظهور قوّة الله، بل إن الله يستخدمها ويسخّرها كسلاح يدافع به عن المؤمنين به.

أما شعب الله فتعلم أن يؤمن أن انتصار "يهوه " مرّة واحدة وإلى الأبد، وإن احتفل شعبه بانتصار إلهه كل عام، يذكره في الأعياد ليبتهج به. وإذا يذكر بنو إسرائيل أعمال الله في تاريخهم حيث نصرهم على كل الشعوب التي تعبد آلهة باطلة؛ يعيش الشعب أعمال الله معهم في واقعهم التاريخيّ، مؤكدين دوماً أن  سبب انتصارهم والملك هو قدرة الله وعونه لا قوتهم أو صلاحهم أو استحقاقهم.

ثانياً: تقسيم المزمور:

يختلف العلماء في كيفية ومعايير تقسيم المزمور يُقسّمه بعض الدارسين إلى صلاتين مستقلتين، إذ يرون أن الجزء الأول (1-30) يتناول نجاة الملك من خطر هائل؛ بينما يبدو أن الجزء الثاني (31-50) يغطي فترة زمنية أطول ويذكّر بعدة أحداث لا بحدث واحد، وقد رفض آخرون هذا التقسيم.

على كل حال، لن نتبع تقسيم المزمور إلى صلاتين مستقلتين فمع أن لكل جزء سمته الخاصة به، لكنهما يقدمان شهادة متكاملة لقوة الله الحيّ وثقة المرنّم وإيمانه بعونه وبركته، إنهما أشبه بمنارتين لكنيسة واحدة، حيث يمثل القسمان الرئيسيان منهجاً واحداً وقد أُستخدم القياس ذاته فيهما.

القسم الأول: صلاة شكر وثقة بالرب: (2 – 4):

2- أحبك يا رب يا قوتي يا مخلصي.

3 – الرب صخرتي وحصني ومنقذي إلهي صخرتي وبه أحتمي، وترسي وحصن خلاصي وملجأي.

4 – دعوت إلى الرب له الحمد ، فخلصني من أعدائي.

القسم الثاني: أهوال الجحيم وعالم الموت (5-7):

5 – حبائل الموت اكتنفتني وباغتتني سيول الهلاك.

6 – حبائل الموت أحاطت بي، وشراك الموت نصبت قدّامي.

 7 – في ضيقي دعوت الرب وإلى إلهي صرخت، فسمع من هيكله صوتي وبلغ صراخه أذني.

القسم الثالث:  معركة الرب وتدخّله العجائبي: (8- 28):

8 – فارتجت الأرض وارتعشت وتزعزعت أسس الجبال ومادت من شدة غضبه.

9 –  تصاعد دخان من أنفه ونار آكلة من فمه وجمر متقد ولهيب.

10 –  أزاح السماوات ونزل منها، والضباب الكثيف تحت قدميه.

11 – ركب على كروب وطار وحلق على أجنحة الرياح.

12 –  جعل الظلمة والغيوم الداكنة ستراً حوله.

13 -من البريق أمامه تفجرت الغيوم برداً وجمر نار.

14 –  أرعد الرب من السماء واسمع العلي صوته برداً وجمر نار.

15 –  أرسل السهام فانتشرت والبروق فتطايرت بكثرة.

16 –  أعماق المياه ظهرت وانجلت أسس الكون من انتهارك يا رب، من هبوب ريح أنفك.

17 –  أرسل من علياءه وأخذني، وانتشلني من المياه الغامرة.

18 –  نجاني من عدو لدود ومن مبغض أقوى مني.

19 –  هاجموني في يوم بليتي وكان الرب سندي.

20 –          أخرجني إلى الآمان وخلصني لأنه رضي عني.

21 –  كافأني الرب لصدقي ولبراءة يدي جازاني خيراً.

22 – لازمت طريق الرب وما عصيت إلهي.

23 –  أحكامه كلها أمامي وحقوقه لا تبتعد عني.

24 –  كنت نزيهاً معه وحفظت نفسي من الإثم.

25 –  فجازاني خيراً لصدقي ولبراءة يدي أمامه.

26 –  رحيم أنت مع الرحماء وكامل أنت مع الكاملين.

27 –  ومع الصالحين تكون صالحاً ومع المحتالين تطهر هيئتك.

28 –  تخلص القوم الماكرين وتفض عيون المترفعين.

خاتمة القسم الأول: ختام نشيد الشكر الأول ومقدّمة لنشيد النصر. (29- 31):

29 –  الرب يضيء سراجي ، الرب إلهي ينير ظلمتي .

30 –  بعونه اقتحم الجيوش وبه أتسلق الأسوار.

31 –  الله طريقه كامل كلامه نقي وترس للمحتمين به.

القسم الرابع: نشيد الظفر والغلبة: يخلّص الله الملك فيُنشد مع شعبه نشيد النصر والخلاص لأن الله صنع رحمة لمليكه المسيح (32- 49)

32 – لا إله غير الرب ولا خالق سوى إلهنا.

33 –  الله يشد حيلي ويجعل طريقي آمناً.

34 –  كأرجل الوعل يجعل رجلي أثبت وأنا في الأعالي.

35 –  يعلم يدي القتال فتكون ذراعاي قوس النحاس.

36 –  تعطيني ترس الخلاص ويمينك يا رب تساعدني وعنايتك تزيدني قوة .

37 –  وتوسع تحت خطواتي فلا تزل قدماي.

38 –  أتبع أعدائي فألحقهم ولا أرتد حتى أفنيهم.

39 –  أضربهم فلا يقومون، يسقطون تحت قدمي.

40 –  تشدد حيلي للقتال وتصرع تحتي القائمين علىّ.

41 –  تسلمني رقاب أعدائي وأسكت الذين يبغضونني.

42 –  يستغيثون فلا من مغيث ويدعون الرب فلا يستجيب.

43 –  فاسحقهم كالذين في الريح واطرحهم كالوحل في الطرقات.

44 –  نحيتني من شعب مخاصم وجعلتني رئيساً للأمم :

45 –  الغرباء يتذللون لي وبأذان سامعة يسمعونني.

46 –  الغرباء تخور عزائمهم ويخرجون مرتعدين من حصونهم.

47 –  حيّ هو الرب ومبارك خالقي وتعالى الإله المخلص.

48 –  الله هو الذي ينتقم لي ويخضع الشعوب تحت قدمي.

49 –  ينجني من جميع أعدائي وينتشلني من بين القائمين علىّ.

خاتمة المزمور: شكر وحمد وتلميح إلى المسيا المنتظر (50- 51):

50 –  لذلك أحمدك يا ربّ، وأرتل لأسمك بين الأمم.

 51 – الرب يمنح الخلاص خلاصاً عظيماً ويظهر رحمته للملك الذي أحبه ، لداود وذريته للأبد.

ثالثاً: تفسير المزمور:

1 –  لإمام الغناء لعبد الرب داود على النجاز (التمام)، كلم الرب بكلام هذا النشيد يوم أنقذه الرب من أيدي جميع أعدائه ومن يد شاول فقال :

          درسنا في المزمور الحادي عشر ما مر به داود من قلاقل وآلام بسبب مضايقات شاول الملك وأتباعه ومطاردتهم إيّاه وحصارهم له من جميع النواحي وتصويب سهامهم إلى قلبه لدرجة أحس فيها الجميع بما فيهم أصدقاء داود الأوفياء القلائل الذين بقوا معه، بأن النهاية قد دنت وأنه لم يبق أمام داود، إذا حالفه الحظ، سوى أن يفر هارباً إلى الجبال كالعصفور. يومها رفض داود النصيحة واحتمى بالرب مختاراً كموسى أن يبقى بين شعبه على أن ينجو بحياته. واليوم وقد تحقق له ما هو مستحيل بشرياً، ينشد داود كلمات هذا النشيد العذبة والمعزيّة، ليشاركنا "نشيد حمد"، وليظل نشيده خالداً مدى الدهر، يردده كل فم ويسبح به كل لسان على الأرض عاش تجربة الألم وأختبر تعزية الرب ونصره.

v   "عبد الرب":

 يدعو داود نفسه" عبد الرب" فإنه إذ يتحدث عن "نعمة الملوكية"، وإذ ترفعه هذه النعمة إلى حضن ملك الملوك، فليس ذلك ليتشامخ أو يظهر سلطاناً، وإنما بالحري ليحمل روحه الوديع المتواضع إلى التسبيح والتغني والترنم بعمل الله في حياته كعبد منسحق، ومحتاج إلى العون الإلهي، لقد أقامه الرب ملكاً على شعبه ليعيش له عبداً يخدمه بروح الحب والرعاية.

v   على النجاز (التمام) لداود:

يتحدث عن تمام الخلاص الذي سيتحقق بنزول كلمة الله وصعوده وتقديم نعمة البنوة للأمم.

v   "كلم الرب":

 وضع داود هذه التسبحة لا لإرضاء الناس، أو للافتخار بانتصاراته الشخصية، وإنما كذبيحة شكر لله واهب النصر المستمر… إنها اعتراف إنسان مدين للرب بكل نجاح.

v    نصرات كثيرة:

وكتبه داود بعد أن نال العديد من الانتصارات، وكان يردده كلما تذكر لمسات يدّ الله الحانية في مختلف المناسبات، فلا عجب أن نراه مكرراً أيضاً في الفصل الثاني والعشرين من سفر صموئيل الثاني.

القسم الأول: صلاة شكر وثقة بالرب: (2 – 4):

2 –   أحبك يا ربي يا قوتي:

          الآية الوحيدة الموجهة إلى الله مباشرة بصيغة المخاطب في هذا المزمور الطويل المكون من إحدى وخمسين آية، أما باقي النص فهو قصيدة انتصار. وحيث أنها عبارة وحيدة وفريدة فإنها تحمل في حروفها القليلة، أجمل ما في الوجود وأعمق ما في قواميس اللغات البشرية من كلمات. حقاً ما أجمل الحب من شعور وما أعذب ما يصاحب تلك الكلمة من أحاسيس… هكذا يصرخ داود في عفوية قلبه المألوفة نحو سيده الذي نصره وقواه "أحبك يا ربي" عبارة فريدة في معناها، فريدة في تشخيص العلاقة الحميمة بين داود والرب، وهي تحوي عمق أحاسيس وتعبر عن معان لا يمكن أن تحتويها كلمة أخرى، وبما أنها ُتعبر بالفعل عما يجول في قلب وعقل وكبد داود من مشاعر حب حقيقية، نادراً ما تتكرر هذه الآية في أي موضع آخر. أحبك، من فم داود نحو ربه وإلهه، عذبة وجميلة لكنها أكثر عذوبة وأبهى جمالاً عندما تخرج من فم الله.

Ø    أُحبّك، تعبير عن مكنون قلب يعيش هذا الشعور العميق نحو شخص لا يمكن أن يتصور الحياة بدونه.

Ø    أحبك، كلمة يمكن أن يقولها إنسان لآخر، فهي تشترط التكافؤ، لكن أن يوجهها إنسان إلى الله، فأنها تتطلب التبعية المطلقة.

Ø    أُحبّك، أكثر الكلمات استخداماً في جميع لغات العالم لكنها أسوء تلك الكلمات استعمالاً.

Ø              أحبك، كلمة تلخص كيان الله وتسبق كل صفاته متخطية إياها جميعاً لتصل إلى جوهره وذاته فالله محبة .

Ø              أحبك لا تستغرب أن يقولها داود في عصره وإن بأسلوب عابر في لحظة شكر، سيأتي بعده من يقول " أنا أحب أبي وأبي يحبني".

Ø    أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى "محبة أبدية أحببتك لذلك وفرت لك الرحمة".

v   يا مخلصي :

     عندما يعترف القلب بهذا البهاء الجميل، يصرخ شاكراً وكأنه يرد الجميل، فداود كان ميتاً بمقياس العدو والصديق فعاش، وكان ضائع الحقوق بلا رجاء فنال كل رجاء. وكان فرداً طريداً مطارداً فأصبح ملكاً سعيداً متوجاً. وفتحت الهاوية فاها لتبتلعه، فانهزمت الهاوية وُدكت أبواب الجحيم. ونُصبت حوله الفخاخ، لكن كل فخ أنكسر… فكيف لا يحب بكل كيانه من بذراع قوية ويد قديرة انتشله من الجب وخلّصه من الهاوية.

          لا مجال ولا داع لذكر ما تعرض له داود ، يكفي أن تقرأ سفر صموئيل لنعرف ما مر به من أهوال وضيق، وكم مرة كانت حياته قاب قوسين أو أدنى من النهاية، وهو هنا ينشد معترفاً للرب بكل ما في قلبه من الحب، لأنه خلصه ونجاه من كل المحن والبلايا.

3 – الرب صخرتي وحصني ومنقذي إلهي صخرتي وبه أحتمي، وترسي وحصن خلاصي وملجأي:

          في هذه الآية يذكر القائد العسكري المحنك كل أدوات القتال الدفاعية، فمن الأدوات الهجومية السيف والرمح والسهم… لكنه هنا لم يكن في موقف الهجوم بل الدفاع بل الهروب، وفي حربه هذه لم تكن لديه أي من وسائل الدفاع ليحتمي بها أمام بطش شاول الذي شعر بأن مجرد وجود هذا الرجل على قيد الحياة فيه تهديد لعرشه وملكه وحياته ولم يكن بعيداً عن الحقيقة فقد "غادره روح الرب" واستقر على داود بعد أن مسحه صموئيل. ولعل شاول قد أدرك بمرارة شديدة تحول الرب عنه بسبب خطاياه وشرور قلبه، فلم يبقَ أمامه سوى أن يقضي على داود وينتهي منه مرة واحدة، مبعداً خطر وجوده عن المملكة، لذلك هاجمه وطارده وحاصره، وداود الذي لم يعد يملك سوى اللجوء لله، يفر أمامه أعزل من السلاح والعتاد والرجال فيرى في الله:

v   صخرتي :

     الصخرة هي موقع يستطيع المقاتل أن يقف عليه ثابتاً لا يتزعزع ولا يتعثر أمام العدو، كما يوفر ارتفاعاً يسمح برؤية أفضل لمواجهة المخاطر… والرب كان لداود هذا الموقع الاستراتيجي الذي احتمى عنده ووقف عليه صامداً لا يخشى سهام العدو.

v   ترسي :

    الترس أو الدرع هو سلاح دفاعي من الدرجة الأولى يحمله المقاتل أثناء النزال ليصد به سهام العدو ويتقي من خلاله ضربات السيوف والرماح القاتلة… وكان الرب لداود ترساً.

v   حصن خلاصي :

     الحصن أو القلعة هو مكان يتحصّن فيه المقاتلون وهو مبني بطريقة قوية في موقع متميز على صخرة بحيث يكون منيعاً، يستحيل على الأعداء اقتحامه. عادة ما يكون زاخراً بكل أنواع السلاح والذخائر والعتاد والعدة بل والزاد والمؤن لمواجهة كل المواقف، كما جرت العادة أن تكون الحصون نقطة انطلاق للجيوش في حالة الهجوم، وملجأً أخيراً لها في حالة الدفاع… وقد كان الرب لداود حصناً لاذ إليه وقت لم يكن أمامه مفر، فسكن إليه ووجد عنده كل الحماية والعناية والغذاء بل والراحة والنوم أيضاً.

v   ملجأ:

     الملاجئ هي أماكن يلوذ بها المقاتل للاختباء كالأكواخ والمغاير وهي لا تحوي عادة ما تحويه القلاع من إمكانات لكنها توفر على الأقل إمكانية الاختفاء والتواري عن عيون العدو… ويلجأ إلية الجنود والقادة في المرحلة الأخيرة بعد انهيار القلاع والحصون وانهزام الجيوش… وقد كان الرب لداود ملجأً وحامياً حصناً وقلعةً وإن كان جيش الرب لا يعرف الانهيار، لكن هدف داود هو التأكيد على أن الرب كان كل له شيء وقد فعل كل شيء لحمايته.

4 – دعوت إلى الرب له الحمد ، فخلصني من أعدائي :

يتغير طابع التسبحة إلى شكل قصصي ويستمر هكذا حتى العدد التاسع عشر. بهدف تُقديم الأحداث في شكل طقسي كأحداث حاضرة. هكذا تدخل بنا الأحداث إلى خبرة الحضرة الإلهية الحالية وعمل الخلاص في ثوب تعبدي. هذا الهدف يوضح علّة استخدام صيغ أفعال مختلفة فيستخدم المرتل الماضي التام ثم الماضي الناقص على التوالي… ويستمر تغير الأفعال خلال المزمور بغية التعبير عن أن ما حدث في الماضي هو واقع تحقق في الماضي لكنه فعّال في الحاضر. يتذكر داود مسيرة فراره المريرة، يوم قام العدو يطلب نفسه ولم يجد غير الرب ملجأً وملاذاً، فدعاه فما كان من الرب سوى أن قدم لعبده الأمين، الحماية الكاملة والخلاص الشامل، الذي نقله من حالة الهرب والفرار إلى مرحلة الأمان والاستقرار، وقام الله نفسه بالقضاء على أعداءه وخلّصه منهم، لذا يمجده داود من كل قلبه، ويحمده، حتى قبل تحقق الخلاص. وفي ذلك عبرة، فحمد داود، يسبق عمل خلاص الرب كما يتبعه أيضاً.

القسم الثاني: أهـوال الجحيم وعالم الموت (5-7):

5 – حبائل الموت اكتنفتني وباغتتني سيول الهلاك :

الفعل "اكتنفتني" أُستخدم أولاً في (هو 6: 3، 6) في وصف عملية إحاطة مدينة لتدميرها.يصوّر الملك الخطر الذي يكتنفه ويضيّق عليه؛ كأهوال عالم الموت، ويشبّه النبي الموت بمارد يقيد ضحيته أو صياد يُمسك بفريسته أو بعنكبوت يغزل شباكه حول ضحاياه فيوقع بها ليلتهمها، وعندما تلتف تلك الخيوط الرهيبة حول الفريسة، تحاول أن تشل حركتها وأثناء محاولتها التخلص من تلك "الحبائل" تنهك قواها فتنهار مستسلمة للعدو يمتص دماءها ويهلكها. الحبائل تعبر عن قوة الشر الذي يحاصر الإنسان كشبكة من حبال تكتنفه من كل جهة فيهلك وتشل قواه ويستسلم للعدو فيقضي عليه.

v   باغتتني سيول الهلاك :

عندما تسقط مياه الأمطار على سفوح الجبال تتجمع مندفعة إلى أسفل وتأخذ في طريقها ما يقابلها من حصى وصخور، تشكل ظاهرة تسمى السيول ولها قوة هائلة على التدمير فقد تزيل مدناً كاملة وتحولها إلى أطلال بل قد لا تبقى حتى على أطلال أو أي أثر… وقد حدثت في مصر منذ سنوات سيول رهيبة اكتسحت قرى وأزالت منازل وأهلكت الإنسان والحيوان… والأكثر رعباً في ذلك الحدث هو عدم توقعه ( كما حدث في مصر ) حيث نادراً ما يمطر فكيف تمطر لدرجة أن تحدث سيولاً…! وكلمة سيول الهلاك أو "المخاض" تعني "من يتلوى ألماً" كامرأة في حالة مخاض، هكذا يقول المرتل إن المتاعب قد أحاطت به كامرأة تلد، لا حول لها ولا قوةً، تتعرض لخطر الموت.ويرى البعض في قوله "أمخاض الموت" إشارة إلى أن الموت يحيط بالإنسان حتى قبل ولادته، وهو في بطن أمه تتمخض به، يتابعه ليلحق به في طفولته وصبوته وشبابه وشيخوخته حتى يدخل به إلى الجحيم.

 المرعب في كلا الأمرين  هو عنصر المباغتة فداود لم يكن يتوقع من شاول الذي يخدمه بعمره ويضحي لأجله بدمه وحياته، أي غدر، فكيف يراه يهبّ بغتة كسيل يريد أن يكتسح حياته …

6 – حبائل الموت أحاطت بي، وأشراك الموت نصبت قدّامي:

حيث يتذكر داود في صلاته تلك اللحظة الرهيبة والمطاردة الغير متكافئة الأطراف بين شاب وديع حالم ونفر قليل من أصدقاءه المخلصين، وبين ملك طويل الباع متمرس على الحرب والقتال مدعوم بقادة وجيوش، تتحرك في خطط مُحكمة وتتسلل لتحيط بالموقع الذي يختبئ فيه داود وأصدقاءه الأوفياء ، ثم تبدأ الدائرة في الانحسار رويداً رويداً بتقدم الجيوش من جميع الاتجاهات، فيجد داود وصحبه أنفسهم محاصرين من كل جهة وقد أحاطت بهم حبائل الموت ، تخنق كل رجاء وتقضي على كل أمل مهما كان ضئيلاً .

v    وأشراك الموت نصبت قدامي:

يا لهول ما يصفه داود من معركة حامية الوطيس، رأيناه في نصف الآية الأول محاصراً من جميع الجهات بلا منقذ ولا مفر… وبتدارس الأمر مع صحبه رأى أن هناك مجالاً للهرب إذا طرقوا سبيلاً معيناً! وهذا ما قصده شاول حيث نصب هناك فخاً ينتظر أن تسقط فيه الفريسة المحاصرة فيلتقطها وينفذ إرادته فيها. لكن هل سيسمح الله بذلك وماذا سيفعل …؟

7 – في ضيقي دعوت الرب وإلى إلهي صرخت، فسمع من هيكله صوتي وبلغ صراخه أذني:

ما أضيق الحياة، كيف حاصرك العدو هكذا أيها البريء الطاهر اليدين النقي القلب؟ وكيف صرت فريسة تكاد تسقط بين براثنه ويقضى عليك؟ وكيف تجردت عن كل قوة أيها الجبار منقذ إسرائيل ومخلص شعبك من قبضة الفلسطيني! لم يبق أمامك من سبيل يا نبي الله، حتى الفرار صار مستحيلاً، فأين تحلق أيها العصفور! ماذا ستفعل أتستسلم فتسقط الراية ليدوسها العدو معلناً انتصار معسكر الظلام؟ أتركع أمام قوى البغي وأنت المسيح المختار؟ كلا لأنك تعرف أن ظلام العالم كله لا يمكن أن يخفي نور شمعة واحدة، وأنه إن سدت سبل العالم أجمع فسيبقى سبيل الله مفتوحاً.

v    في ضيقي دعوت الرب :

     لم يبق لك إلا الدعاء، والدعاء إلى الرب وحده، فمن غيره يمكن أن ينجي. والمزمور يعلمنا أن نصلي في زمن الضيق ونطلب وإلحاح بل ونصرخ بلا خجل.

v    إلى إلهي صرخت :

حيث لم يعد الدعاء كافياً فلنبدأ بالصراخ، "أصرخوا عسى أن يسمعكم" هكذا كان إيليا يسخر من كهنة البعل الذين راحوا يصرخون إلى المساء ولكن ليس للبعل من آذن فيسمع أو عيون فيرى… بينما يعرف داود كما إيليا أن الرب يرى ويسمع ويتحرك نحو صراخ محبيه المضطهدين ظلماً وينزل ليتمم لهم خلاصه العجيب.

v    وبلغ صراخي أذنيه :

أخيراً، أتت لحظة الخلاص! لقد أرعبتنا يا داود بهذا الوصف الدقيق والرهيب لتلك المعركة التي لولا أنك تحكيها بنفسك وتغنيها وترنمها وتلحنها على أوتار قيثارتك، لكنا أيقنا أن البطل قد انتهى وأن العدو قد أنتصر إلى المنتهى، أروِِ لنا إذن متى سمع الرب صراخك؟ وكيف شعرت بهذا؟ وما علامة ذلك لتجزم بتلك الثقة أنه قد سمع؟

القسم الثالث:  معركة الرب وتدخّله العجائبي: في أربع مظاهر (8- 28):

8 – فارتجت الأرض وارتعشت وتزعزعت أسس الجبال ومادت من شدة غضبه :

ظهور الله حين يسمع الربّ صلاة عابده، يحرّك الطبيعة كلّها. فسيّد التاريخ هو سيّد الكون لأنه خالقه. ويعبّر المرتّل عن ذلك بصور عن زلزلة الأرض، وتدخين الجبل بسبب البركان. نزل الله على الغيوم، فاستشاطت العاصفة وكان البرد والرعد وعلا صوت الله، والبروق التي تفتح أتلاماً في السماء، والمياه التي تتحرّك من مكانها.صوّر المرتّل هذه الخبرة الروحيّة، فاستعان بذكريات من العالم الوثنيّ حيث الآلهة تصارع قوى الطبيعة قبل أن تتغلّب عليها. ولكن المرتّل نقَّى صُوَره من كل ما يشتم منه رائحة شرك، وهذا ما يبيّن أن المزمور يختلنك عما نقرأه في سائر آداب الشرق.

الربّ وحده يملك على كل هذا، وقدرته تجعل الشاعر هادئاً رغم تحرّك الكون كله. لا نجد خوفاً ولا رعدة، بل مهابة ووقاراً. ولقد عاد إلى نصّ سفر الخروج حين التقى الرب بشعبه على جبل سيناء (خروج 19: 16)، وإلى نص سفر الملوك الأول (19: 11- 12) حين كلّم الرب إيليا، كما استعان بهتاف الشعب بعد عبور البحر الأحمر (خروج 15: 1) وبنشيد دبورة (قضاة 5: 1)، فعاد إلى تاريخ الخلاص.

v   ارتجت الأرض :

يقدم لنا هذا الجزء من المزمور وصفاًً تفصيلياً لمظاهر تدخّل الله العجائبي: زلزال، عاصفة، برق، رعود وسيول المياه، يتبع بنزول الرب على السحاب، راكباً الكاروبيم،سمع الرب صرخة داود نبيّه ومسيحه وحضر، فعرفته الخلائق وارتعبت الأرض وكان لارتجاف الطبيعة أربعة مظاهر ولغضب الرب أربع أخرى:

Ø    المظهر الأول: ارتجاج وتزلزل: الأرض تلك الخليقة التي تحمل الجبال والبحار والنبات والحيوان، شعرت بحضور الرب الذي نزل ليخلص مسيحه (نفس ما حدث في الصليب).

v    ارتعشت الأرض :

Ø    المظهر الثاني: رعب ورعشة: قد يكون الارتجاج نتيجة ارتطام أو بركان أو زلزال، كلا أنها ترتعش والرعشة علامة خوف، الأرض خائفة، أمنا الأرض ترتعش من هول الحدث، الرب ينزل من سماواته ليخلص مسيحه وينقذه من حبائل الموت وشراك الجحيم. يا للهول! الأرض ترتجف وترتعش أمام حضرة الرب بينما الملك شاول الممسوح الخائن الذي فارقه روح الرب بسبب خطاياه، لا يشعر حتى بلحظة ندم بل يتمادي في غيه محاولاً أن ينفّذ إرادته حتى لو كانت عكس إرادة الله ومشيئته، يريد أن يحتفظ بالعرش وقد أنزله الرب عنه، يريد القضاء على داود وقد مسحة الرب ملكاً، ويبغي البقاء حياً وقدر صدر عليه حكم الموت. الخليقة تريد إملاء إرادتها على الخالق.

v    تزعزعت أسس الجبال :

Ø    المظهر الثالث: تزعزع كياني: الجبال هي أقوى عناصر الطبيعة وأشدها قوة وصلابة ورسوخاً وشموخاً، لأنه ذات أساس صخري عميق ومتدرج العلو فلا يمكن زعزعته. اليوم تتزعزع لا الجبال بل أسسها، وهو نفس ما حدث مع صلب المسيح…

v    ومادت من شدة غضبه :

Ø    المظهر الرابع: تحاشي وهروب: كلمة ماد تعني مال فيما يشبه الانهيار، لقد شعرت الجبال بغضب الرب فمالت لتتحاشى لقائه، فهي ليست حمقاء كالإنسان المغرور الظالم الباغي… شعرت الجبال بصرخة البريء، لكنها لم تستطع أن تحميه وأحسّت الأرض بشقائه ورفضت أن تشارك في شرب دماءه، أمّا الإنسان القاسي القلب فلم يرحم أخاه… لكن الرب سمع صراخ المسكين فهرع إليه وطأطأ سماء سمواته ونزل ليخلصه، نزل اليوم في غضب شعرت به الجبال فمادت، بينما ظل الإنسان في غيّه كأنه ندّ لله، بل ويريد أن يفرض عليه إرادته.

9 –  تصاعد دخان من أنفه ونار آكلة من فمه وجمر متقد ولهيب:

"ارتجفي أيتها الأرض وارتعشي أيتها المسكونة" لماذا ارتجت الأرض وتزعزعت أسس الجبال ومادت قممها أمام الرب؟ وكيف شعرت به ولم يشعر الإنسان؟ ماذا رأت من مظاهر غضب الرب  الرهيب؟:

v   تصاعد دخان:

Ø    المظهر الأول: الدخان:  يشير إلى النار والنار قوة لا يمكن مواجهتها، ولا يملك الإنسان سوى الفرار أمامها مرتعباً. والنار في العهدين القديم والجديد من المظاهر المصاحبة دوماً لحضور الله سواء في العلّيقة على الجبل أم في ظهور الرب وتجليه أمام شعبه مع موسى (خروج : 21)، سواء في هلاك سادوم وعامورة أم في الأتون وحتى حلول الروح القدس على التلاميذ يوم العنصرة. وتصاعد الدخان علامة لوجود النار وتأججها. كأن غضب الرب بركان ينفجر وما أدراك ما البركان وما يقذف من حمم النار واللهب الذي يسيل ملتهماً كل شيء. لقد ثار غضب الرب وانفجر كالبركان على الأشرار ليقضي عليهم ويدمرهم.

v   من أنفه:

Ø    المظهر الثاني: تصاعد الدخان من الأنف: الأنف هي المنخار الذي تبعث منه الكائنات الحيّة الثائرة زفرات من بخار الماء تندفع كالدخان، تعبيراً عن قوة الانطلاق وسرعة الحركة والغضب الذي يحمل الكائن الهائج أن يخرج الزفير من أنفه بدلا من فمه. وهو تعبير مجازي يعبر عن قوة غضب الله على الطغاة. فأنف الرب كيده وزراعه وعينه وقدمه، أعضاء تُشير إلى وظائف معينة وعمل محدد، وبالطبع ليس لله من أنف ولا خرج منه دخان.

v    ونار آكلة من فمه :

Ø    المظهر الثالث: نار آكلة من الفم: نفس التشبيه المجازي وإذا كانت النار الآكلة كامنة في الفم، فمن الطبيعي أن يخرج الدخان من الأنف فلا دخان بدون نار… والنار الآكلة قادرة على تدمير وإبادة ما قدامها. لكن ليس لله من فم ولا تخرج منه نار.

v    حجر متقد ولهيب :

Ø    المظهر الرابع: الحجر المتقد هو مصدر النار واللهيب والدخان، إنه نهر اللافا الخارج من البركان، وهنا نرى التدرج التصاعدي في التعبير عن الغضب: من الدخان إلى النار إلى مصدر النار المتقدة إلى اللهيب الآكل المدمر، هذا التصاعد، يصور صبر الله الذي نفذ وهو ينتظر عودة الباغي عن غيّه، لكن بدلاً أن يتوقف ويتوب استثار المزيد من السخط وأفسد عمل الله، فما بقي للجبار سوى أن يهبّ غاضباً.

10 –  أزاح السماوات ونزل منها، والضباب الكثيف تحت قدميه:

قام المقتدر، خرج الجبار، تحرك العلي من سماواته بعدما شاهد ظلم بعينيه وسمع صلاة البريء المظلوم وصراخه. في أربع مظاهر تابعنا رعب الطبيعة حين شعرت بغضب الرب، الذي تجلى بدوره في أربعة مظاهر. تعالوا نستعرض مشاهد حركة الله وعناصر تدخله لخلاص الإنسان وهي تتجلى في اثني عشر مشهد عجيب ورهيب:

v    أزاح السماوات :

Ø    المشهد الأول: إزاحة السماوات:  عندما يقابل الإنسان ما يعيق تحرك سيره، يقوم بإزاحته من أمامه سواء كان هذا العائق شخصاً أو شيئاً. فما بالك بالجبار الساكن في الأعالي، السماء موضع عرشه والأرض وما فيها موطئ قدميه، ها هو في سبيل إنقاذ إنسان يصرخ، يزيح السماء ويطويها كرداء ليهبط على الأرض، غير عابئ بالمسافات ولا مبال بالهبوط ولا ملتفت إلى النجوم… ابنه يصرخ ألا يسرع لنجدته؟ لم يعد شيء يهمّ، لا سماء ولا أرض، لا علو أو انخفاض، لا بعد ولا قرب… ما أروع التعبير، يزيح الرب السماء وينزل مسرعاً لينقذ نفس تصرخ وقد سقطت في يد العدو! لماذا يتعجب البعض إذن من أن ينزل الابن الأزلي من السماء في ملئ الزمان متجسداً من عذراء، ليخلص البشر أجمعين من عدوهم الأبدي…

v   والضباب الكثيف تحت قدميه:

Ø    المشهد الثاني: دوس الضباب بقدميه:   الضباب حاجز وعائق لكنه عند الرب وسيله، وهو يدوسه بقدميه علامة الجبروت والقدرة، فلا شيء يهم ولا حساب للوسائل والخطوات والمناهج والأدوات المهم لديه هو أن يلحق بابنه قبل أن يفترسه العدو. حتى ولو ركب على السماء والتحف بالضباب ووطئه ليصل إلى حيث ابنه الصارخ نحوه! الله الحاضر في كل مكان، تمتد أذناه إلى حيث يختبئ داود أبنه، وتبصر عيناه مكنونات الضمائر، وتصل قدرته إلى أقاصي الأرض، لا يحتاج إلى كل هذه المظاهر ليتحرك ويتواجد بقرب ملتمسيه، لكنه تصوير قلب الابن الذي يريد في هذه اللحظات بالذات أن يشعر بقوة أبيه ويريد أن يجسدها أمام الجميع، شهادة ودعماً لهم في لحظات الضيق وشديد التجارب.

11 –  ركب على كروب وطار وحلق على أجنحة الرياح:

v    ركب الرب على كاروب وطار :

Ø    المشهد الثالث: الطيران والتحليق: يمتطي الفارس جواداً لينطلق نحو المعركة كما يركب المسافر دابة ليصل حيث يريد… كانت هذه وسائل المواصلات حينها قبل اختراع السيارة والدبابات والطائرة، فماذا يليق بالرب أن يركب؟ وما الوسيلة التي تستطيع أن تحمل هذا الجبار المسرع الملهوف! لم يجد النبي وسلة أروع ولا أعظم من الكاروبيم، فما هو الكاروبيم ؟

Ø    المشهد الرابع: امتطاء الكاروب العجيب: أصل الكلمة فرعوني "كوراب" وتعني الحصان المجنح وهو رسم لحيوان أسطوري موجود في معبد أوناس بسقارة في الجيزة، يجمع هذا الحصان المجنح بين قوة الخيل وسرعتها ومرونة حركتها، وقدرة الطير على الطيران ومهارته في فنون التحليق عالياً. وذلك بغرض الوصول بأقصى سرعة نحو الهدف متجاوزاً جميع العقبات…وقد تحول الكوراب في اللغة الهيروغليفية إلى كاروب في العبرية وصار في جمع التعظيم كاروبيم.

يظهر الكاروبيم في  الكتاب المقدس على شكل إنسان ذو ستة أجنحة وهو ممثل للحراسة الملائكية التي تخدم في حضرة الله…ذكر عدة مرات في الكتاب المقدس أولها في سفر التكوين "أقام شرقي الجنة كاروباً" (تكوين3: 24 ) وفي سفر صموئيل الثاني فهي الشاهدة للمجد ترتاح على الشاروبيم التي كانت على كرسي الرحمة ( غطاء تابوت العهد) "وقام داود وذهب هو وجميع الشعب الذي معه من بني يهوذا ليُصعدوا تابوت الله الذي يدعى عليه بالاسم اسم رب الجنود الجالس على الكاروبيم" (2 صموئيل 6 : 2). وفي سفر المزامير "يا راعي إسرائيل أصغ، يا قائد يوسف كالضأن، يا جالساً على الكاروبيم أشرق" ( المزمور 80 ) كما يظهر مراراً عديدة في سفر الرؤيا … ويقدم حزقيال النبي الكاروبيم في صورة مركبة " لكل واحد أربعة أوجه ولكل واحد أربعة أجنحة وشبة أيدي إنسان تحت أجنحتها، وشكل جوهرها هو شكل الوجوه التي رأيتها عند نهر خابور، مناظرها وذواتها كل يسير إلى جهة وجه "( حزقيال 10 : 21 – 22 ).

إنها مطية عجيبة لذلك الكائن الجبار، لا مثيل لها في سرعتها ولا في قوة ولا عدد أجنحتها أو في مرونة حركتها، إنها تجسيد لكل قوى الطبيعة من قوة وسرعة تلبية ومرونة وسرعة رد فعل وقدرة على الحركة وتغيير الاتجاهات… بالإضافة إلى قوى فائقة للطبيعة متمثلة في تعدد الأيدي والأرجل والأجنحة والعيون، إنها في النهاية قادرة على أن تجعل راكبها "حاضر" في كل مكان بمجرد لحظة،  فهي عرش الله المتحرك بسرعة لا نظير لها، تجعله حاضراً دوماً في كل مكان وفوراً في التو واللحظة. والله الجالس فوقها كعرش قد حركها هذه المرة باتجاه داود ابنه المحاصر …

v    محلقاً على أجنحة الريح:

Ø    المشهد الخامس: التحليق على أجنحة الرياح: إعلاناً عن سرعة مجيئه لخلاص أولاده دون أن يوجد عائق في الطريق. ولأن قوة أجنحة الكاروبيم الجبارة تفوق قوة الرياح مهما عظمت، فسمات هذه المركبة الإلهية الله أنها كلية القدرة كراكبها وتعبر عن شخصيته وجبروته، فليس غريباً أن تحلّق فوق أجنحة الرياح التي عادة ما تسيطر وتوجه وتحدد مسيرة من يركبها. وكما جاء في المزمور"الذي جعل مسالكه على السحاب الماشي على أجنحة الرياح". (المزمور 104: 3) ذلك لأنها أمام قوة كاروب الرب لا تملك إلا الخضوع والاستكانة والطاعة.

12 –  جعل الظلمة والغيوم الداكنة ستراً حوله :

Ø     المشهد السادس: التستر بالظلام والغمام: لا يدع الله وسيلة تفوته للحاق بأحبائه، وهو كمقاتل جبار، يستخدم كل سلاح، فإذا كانت الظلمة هي ما يعيق الجيوش ويوقف زحفها فتهدأ وتسكن إلى حين انقشاعها، فهذا الظلام لا يوقف كاروب الرب المنطلق بأسرع من البرق لنجده أحباءه بل إنه يستخدم هذه الظلمة كسلاح إذ يجعل منها ستاراً يخفيه عن العدو حتى يجد نفسه فجأة أمام ذلك الجبروت فيُصرع في لحظة.

v    كذلك الغيوم الداكنة الممطرة مظلته:

Ø    المشهد السابع: الاستظلال بالغيوم الداكنة: هذا الجبار يستخدم أيضاً الغيوم التي تخشاها الجيوش ويسخرها سلاحاً! فإن كانت تلك الغيوم الداكنة اللون، الحبلى بالمطر تعتبر عائقاً لجيوش البشر بما تسبب من بلل وانزلاق وأوحال وسيول يتحاشاها المحاربون ويستظلون منها في الخيام… فجبروت إله داود يحوّل تلك الغيوم بعينها إلى مظلة يستظل بها ذلك الجبار وهو ممتطِ لصهوة كاروبه الجبار، ما أعجبك يا الله، ما أروعك يا داود.

13 -من البريق أمامه تفجرت الغيوم برداً وجمر نار:

Ø    المشهد الثامن: انفجار الغيوم برداً وناراً: يزيد النبي تعمقاً وإبداعاً في وصف أجواء وتفاصيل تلك المعركة الرهيبة المزمعة الوقوع بين جيوش الطغاة وجبروت الله الذي نزل ليدافع عن الضعفاء والمظلومين الصارخين نحوه… كاروب الله الرهيب بسرعته وضوءه وحرارته، جعل الغيوم الداكنة الحبلى تنفجر مطراً… لقد حول الرب الغيوم إلى سلاح فتّاك يهلك فليس هذا النوع من المطر طبيعياً في ظروف وأجواء الشرق، فالبرد أصعب من المطر والثلج المتساقط، إنه عبارة عن حصى من الثلج يمكن أن يصل سمك الكرة منها إلى خمس سنتيمترات ويزيد، بحيث تشكل كرة البرد قذيفة موجهة مدمرة كالنار تماماً…

14 –  أرعد الرب من السماء واسمع العلي صوته برداً وجمر نار :

Ø     المشهد التاسع: الإرهاب بصوت الرعد: بدأت المعركة وافتتح الرب نزوله على الأرض المرتعدة أمامه والضباب الذي يفر من وقع أقدام كاروبه الرهيب، بصوت الرعد بديلاً عن البوق الذي يعلن عادة بدء المعركة. كثيراً ما أُستخدم صوت الرعد ليدل على حضور الله في الكتاب المقدس، ويعقب الرعد برق يشق السماء في صورة لهيب وبعده مطر رهيب ككرات البرد كقذيفة فيصيب كجمر وككرة من نار… وهذه كلها أسلحة طبيعية يستخدمها الرب في حربه الفتاكة ليعلن حضوره ومجده فيرعب الأعداء ويخلص أتقياء يطلبونه بقلوبهم. (خروج 9: 24-25؛ مزمور 78: 47-48؛ 105: 32؛ حجاي 2: 17).

15 –  أرسل السهام فانتشرت والبروق فتطايرت بكثرة :

Ø     المشهد العاشر: انتشار البرق كالسهام المتطايرة: في هجوم جوي يمهد للمعركة البرية تنتشر السهام محلقة وبكثرة تضيء لها البروق طريقها لتصل إلى أهدافها المحددة دون أن تخطئ هدفاً!!! حقاً لقد كان داود قائداً عسكرياً محنكاً يعرف أن المعارك تبدأ بسيل من السهام تبعثر صفوف العدو وتخلخل توازنه الدفاعي، نقبل ذلك في زمانه… أمّا أن يصف ما يُصنع في معارك القرن العشرين فهذا عجيب فكأنه يصف حرب أفغانستان أو العراق تبدأ بهجوم جوي يدمّر البنية الأساسية ثم تعقبه الجيوش البرية… والغريب أن تبدأ الحرب بأصوات وصفارات الإنذار الشديد وتُفتتح بطلعات جوية كثيفة تندفع قذائفها النارية الموجهة بدقة شديدة وبسرعة البرق إلى أهدافها الإستراتيجية المحددة… كيف له أن يصل إلى هذه الدقة العسكرية وكأنه كائن قادم من القرن الحادي والعشرين أو قائد القوات الأمريكية لتحرير الكويت. حتماً إن من أوحى بهذا الوصف التصويري الدقيق والعجيب هو روح الله الكلي القدرة وحده.

16 –  أعماق المياه ظهرت وانجلت أسس الكون من انتهارك يا رب، من هبوب ريح أنفك:

Ø     المشهد الحادي عشر: استكشاف موقع المعركة:  يستكمل النبي المقاتل وصف المعركة الرهيبة بين الخير والشر فعندما تتجلى قوة الله بإرادة التدخل، تنخرط الطبيعة كلها في خدمته، وها قد جاء الآن دور المياه، فالمعركة اليوم ليست جوية وبرية فقط، إنها أم المعارك، المعركة الشاملة براً وجواً وبحراً… لم تعد هناك أسرار وخفايا فحضور الرب يكشف عن كل خفي حتى أعماق البحار التي حسب الاعتقاد السائد حينها تخفي أساسات الكون كتعبير يونان في بطن الحوت الذي نزل به إلى أسس الكون ( يونان 3 ) لم يعد خفي إلا وانجلي حتى المخفي منذ الدهر، لأن الرب قام غاضباً ينتهر الأشرار ويخوض معركة النهاية ضد إبليس وأعوانه.

v    من هبوب ريح أنفك :

Ø     المشهد الثاني عشر: هبوب عاصف:  الريح الخارجة من الأنف بقوة عاصفة كما ذكرنا إشارة إلى قوة وسرعة وشدة الحركة التي تدفع المقاتل أن يعبئ صدره بالهواء وينفثه بكل شدة، وإذا كان الشهيق من الأنف والزفير من الفم ، فالعكس هو ما يحدث هنا، في لحظات الغضب ينفث الرب من أنفه ريحاً رهيبة تجزع أمامها المياه والجبال والرياح والأرض والسماء .

الغريب في الأمر إلى الآن هو تجاوب السماء والأرض، الجبال والبحار، والضباب والسحاب والغيوم وحتى الكاروبيم والملائكة، واستمرار الإنسان في غيه.

17 – أرسل من عليائه وأخذني، وانتشلني من المياه:

تأملنا مظاهر خوف الكون من تدخل الرب في الآيتين 8-9 وشاهدنا مظاهر غضب الرب الرهيبة، في الآيتين 10-12 وتابعنا الوصف الاعجازي في أثنى عشر مشهداً لتدخل الرب الجبار، في الآيات من 12- 16؛ نصل الآن لوصف عملية الإنقاذ نفسها، فحتى في أشد لحظات غضبه، لا يُهمل الرب أحباءه، فإذا كان في اندفاع المياه والغيوم والبرد والمطر والريح خطر عليهم، فهو لا بتركهم للنيران الصديقة بل يرسل ملاكه فينجيهم من جميع شدائدهم، وهو نفس ما عمله مع نوح في الطوفان، ولوط في إبادة سادوم وعامورة بالنيران، وردده يونان النبي في بطن الحوت، يؤكده داود اليوم. وإذ قد تجلى غضب الرب على الأشرار في اثني عشر مشهداً رهيباً فإن رحمته نحو الأبرار تتلخص في ثلاثة عناصر فقط تبدو قليلة لكنها وافية وشاملة وحاسمة:

Ø    العنصر الأول: إنقاذ علوي من السماء:  أرسل الرب من العلاء ليختطف النبي من بين جيوش العدو المحاصرة، وانتشله بيده كما يُنتشل الغريق من أمواج المياه المتلاطمة.ويستخدم النبي أفعالاً تتسم بطابع الحسم: أرسل- أخذ- انتشل، مما لا يدع فرصة لأي رد فعل للعدو.

18 –  نجاني من عدو لدود ومن مبغض أقوى مني:

Ø    العنصر الثاني نجاة من يد العدو:بالطبع يعرف داود ويدرك مدى الخطر الذي كان يحيط به ويدهمه، لذا فهو يقدّر جيداً معنى تدخل الرب ويعرف أنه إذا كان ما يزال إلى اليوم حي يرزق يترنم وينشد، فما ذلك راجع لقوته بل لأن الرب تدخل بطريقة شخصية ومباشرة وحاسمة لينجيه من أعدائه الذين هم أقوى منه.

19 –  هاجموني في يوم بليتي وكان الرب سندي:

وقبل المشهد النهائي والأخير لعملية الإنقاذ، يلخص النبي تاريخ الحرب القائمة ضده وظروفها:

·       هاجمه ذلك العدو وهو غير مستعد لأنه مبتلى والبلوى سبب حزن وبكاء تفقد الإنسان القدرة على التركيز فما بالك بالقدرة على الحرب والقتال لمواجهة العدو دفاعاً عن الذات.

·       تحرك الرب وشعر به الكون ماخلا الإنسان

·       أرسل الرب ملاكه وأنقذ ابنه البار

·       أخذه إلى العلي وانتشله من المياه الغامرة

·       نجا الرب داود من عدو لدود، ومن مبغضين أقوى منه كثيراًً.

20 – أخرجني إلى الآمان وخلصني لأنه رضي عني :

Ø    العنصر الثالث: خروج آمن: لقد نجاه الله من جميع المخاطر ورفع عنه كل معاناة ووصل به إلى بر الأمان بعد كل ما عصف بحياته من زوابع وما أحاط بها من مؤامرات.       يعترف النبي البار الطاهر القلب النقي اليدين أن حياته اليوم ليست ملكاً له، بل هي ملك لمن أنقذه من جبّ الهاوية وخلصه من الموت وأخرجه إلى الآمان.

v   لأنه رضي عني :

يخرج بنتيجة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى، أن ما قام به الرب نحوه ليس عن استحقاق شخصي بل بالنعمة، نعمة رضاه عنه. نحن في الشرق نقدر معنى "الرضا"، رضا النفس، رضا الله، رضا الوالدين، ونعرف كم هي نعمة كبرى أن يكون الله راضياً عنا ونحن راضون عن أنفسنا ويا حبذا لو رضي الناس عنا! لكن الأهم في ذلك كله هو رضا الله الذي قد يثير علينا غضب الناس لدرجة يقول فيها الرسول بولس "إن أرضيت الناس فلن أستطيع إرضاء الله أيضاً ".

21 –  كافأني الرب لصدقي ولبراءة يدي جازاني خيراً :

Ø    قد تبدو هذه الآية عكس سابقتها لكن الأمر ليس كذلك؛ فالنبي المنتشل من الغمر، إذ يجلس الآن على عرشه أو يقبع في هيكل الرب مترنماً برحمته، يتذكر بلواه وفراره أمام شاول مضطهده ويدرك أنه لم يصنع للرجل شراً ولا نوى أن يؤذيه، بل حين تمكن من قتله ليسترح من مطاردته واضطهاده، رفض ذلك قائلاً " كيف أمد يدي على مسيح الرب "( 2 صموئيل   ). بهذا يعلن أن يده طاهرة من دماء رجل بكى مقتله ويوناثان ابنه صديقه الحميم، وكتب مرساة تدمع لها عيون الأبطال"( 2 صموئيل   ). بل أكرم داود بعد جلوسه على العرش من بقي من عائلة شاول الملك " عدوّه" بأن ظلت إلى آخر فرد فيها تأكل على مائدة الملك…كما سبق وبكى ابنه العاق أبيشالوم، " يا ليتني متّ عوضاً عنك يا ولدي" ( 2 صموئيل ). ومن هذا المنطلق يستطيع داود أن يؤكد صدقه وبراءة يده من الدماء بل ومحبته حتى لأعدائه كنموذج فريد في العهد القديم يتجلى باهراً في شخص الرب يسوع وغفرانه لأعدائه وهو بعد معلق على الصليب.

22 – لازمت طريق الرب وما عصيت إلهي :

يستكمل فحص الضمير الذي دعاه إليه شعوره بالوجود في الحضرة الإلهية التي غمرته بنعمتها فيرى أنه التزم بأحكام الرب وناموسه وطبق شريعة الله وحفظ وصاياه كما يجب أن تُعاش، فقد جعل الرب أمامه كل حين ولم يخالف وصاياه ولم يوجد في فمه مكر.

23 –  أحكامه كلها أمامي وحقوقه لا تبتعد عني:

يستكمل في جو النعمة مراجعة الحياة وفحص الضمير فيجد نفسه يزداد اقتناعاً بعمل الرب وأحكامه في حياته فقد صانته وحافظت عليه لأنه صانها بأن ابتعد عن الشر ومعسكر الأشرار ورفض التحالف معهم ومجالستهم. وهو يقدّر معنى التمسك بحق الرب الذي أسرع إليه وانتشله… فإن حفظنا الرب وأحكامه يحفظنا الرب بأحكامه وإن اقتربنا من الرب وحقه يقترب الرب إلينا ويفتقدنا بحقه وعدله.

24 –  كنت نزيهاً معه وحفظت نفسي من الإثم :

سبق شرح معنى النزاهة فهي طهارة القلب والبراءة، وعندما تقول فلان منزه عن هذا نعني أنه لا يسقط فيه ولا يقاربه، فداود يشعر أنه طاهر القلب غير زائف أو مفتعل أمام الله وأن هذه النزاهة الداخلية قد ألقت بظلالها الوارفة الجميلة على سلوكياته الخارجية فجعلته بالتالي بعيداً عن كل أثم محافظاً على نفسه نقية طاهرة لتكون مسكناً للعلي يحل ويقيم فيها.

25 –  فجازاني خيراً لصدقي ولبراءة يدي أمامه:

تحققت المعادلة الصعبة: هو عبدُ الرب يتّقيه ويتنزه عن كل معصية، والرب يعرف صدق قلبه وبراءة نفسه وطهارة يده فينجيه من جميع الشدائد والضيقات.

26 –  رحيم أنت مع الرحماء وكامل أنت مع الكاملين:

يخرج من فحص الضمير الشامل بهذه الآية البديعة، التي تعتبر استنتاجاً منطقياً لكل ما عاش مع الرب من خبرات يلخصه في بديهيات ثلاث:

v   رحيم كامل:

Ø    البديهية الأولى: الله كلي الرحمة والكمال: لقد شعر برحمة الرب في كل لمساته الحانية نحوه… ويريد أن يكون رحيماً بأخوته والخلائق لينال رحمة الله ويطبق المسيح ذلك طوبى للرحماء فأنهم يرحمون. لقد شعر بكمال الله فهو الكلي القدرة، الكلي الحضور، الكلي الرحمة. لا تدفعه قوته إلى القسوة ولا يغيب حضوره للحظة، ولا تتوقف رحمته ولذا يريد النبي أن يكون كاملاً لينال المزيد من رضا الله وكماله محققاً طلب الرب نفسه " كونوا قديسين لأن أباكم السماوي قدوس " فالله إذن كلي الكمال والرحمة والنبي يسعى إلى الكمال داخلياً وخارجياً فيسلك بالمحبة والسماحة.

27 –  ومع الصالحين تكون صالحاً ومع المحتالين تطهر هيئتك:

Ø    البديهية الثانية: الله كلي الصلاح والحكمة: استكمال لسلسلة الاستنتاجات البديهية: صالح:الصلاح ثمة الكمال وهو لله وحده "لماذا تدعوني صالحاً ولا صالح سوى الله وحده " ( مت ) والله صالح محب للصلاح والصالحون أصدقاء له… وبالتالي فالله صالح مع جميع الكائنات لاسيما البشر. لكن مع المحتالين تطهر هيئتك: صلاح الله، لا يقف عائقاً عن إدراك فساد الفاسدين وتبيّن مدى فسادهم، لذا فهو يعاملهم بحسب مكرهم، ويُظهر أمامهم قدرته وقوته وفهمه الكامل لما يدبرون. وهذه الآية تجسيد لكلمة " يمكرون والله خير الماكرين " التي ترد كثيراً في أحاديثنا اليومية.

28 –  تخلص القوم المساكين وتخفض عيون المترفعين:

Ø    البديهية الثالثة: الله مخلص كلى القدرة: حيث أن الله رحيم كلي الرحمة، وكامل كلي الكمال، وصالح كلي الصلاح، وعليم يمكر المحتالين؛ فهو" مخلص" قادر على التدخل لإنقاذ أحباءه أصحاب التطويبات أي المساكين بالروح والمتواضعين وانتشالهم من بطش العدو… كما أن لديه القدرة على إذلال أعناق المتكبرين ووضع الإنسان وجهاّ لوجه أمام عجزه وضعفه ومحدوديته. هو محب للمتواضعين العارفين بضعفهم المعترفين بخطاياهم. وفي ذلك تحقيق لنشيد العذراء مريم في " أنزل الأقوياء عن الكراسي ورفع المتواضعين: ( لوقا 1).

4 – ختام القسم الأول: ختام نشيد الشكر الأول ومقدّمة لنشيد النصر. (29- 30):

29 – الرب يضيء سراجي ، الرب إلهي ينير ظلمتي :

     هكذا يكافئ الرب محبيه، لا يتركهم يتخبطون في الظلام ، لا يكتفي بأن يعطيهم النور بل يحولهم هم أنفسهم إلى سراج منير، يكفي وجودة بنزاهة وصدق قلبه وطهارة يده، كي يبدد ظلمات الليل الحالكة سواء داخلياً أو خارجياً… حقاً إن عمل الرب عجيب في نفوس أتقياءه. أدرك المرنّم أنه ليس إلا سراجاً لا يستطيع أن يضيء بذاته إنما يحتاج إلى زيت النعمة الإلهية، يحتاج إلى السيد المسيح "نور العالم" أن يعلن ذاته فيه نوراً يبدد كل ظلمة قاتلة، منعماً عليه بحيوية جديدة. وكأنه مع كل ظلمة آلام يصرخ إلى مخلصه لتفسح له الآلام الطريق لبهجة متجددة وتذوُّق جديد لحياة الاتحاد مع الله تحثه على ممارسة أعمال صالحة أكثر.

30 –  بعونه اقتحم الجيوش وبه أتسلق الأسوار :

يستمد النبي قوته من الله ويتزايد داخله الشعور بالنعمة والإحساس بالأمان بل تتسرب إلى قلبه شجاعة أدبية ومعنوية هائلة تجعله مع وجود الله في حياته، يقتحم قوة الجيوش المجتمعة لا عدو واحد ولا جيش واحد… بل مستعد أن يواجه وحده كل جيوش العدو دون أن ترهبه…هو بقوة الله وعونه يتعالى فوقها جميعاً ويرتفع متجاوزاً فوق ما يقيمه العدو حوله من حدود وأسوار وعوائق.

5– نشيد الظفر والغلبة: وقد خلّصه الله فيُنشد الملك مع شعبه نشيد النصر والخلاص لأن الله صنع رحمة لمليكه المسيح (31- 50):

31 –  الله طريقه كامل كلامه نقي وترس للمحتمين به:

طبعاً المبالغة في الآية السابقة والإفراط في الشجاعة يستدعي عودة المرتل إلى الله ليقول ويؤكد أن تلك ليست قوة ذاتية بل مستمدة من اتحاده من الَعليّ وبعونه وحده يجد في نفسه الشجاعة والسلوك في طريق الرب بالكمال وحفظ كلامه كدرع وترس للمحتمين به.

32 – لا إله غير الرب ولا خالق سوى إلهنا :

إعلان لعقيدة أساسية. نابع عن خبرة حياة عميقة. فكل ما عدا الرب من آلهة باطل وكل الكائنات خلائق مهما سمت وعلت وقوت، فهو الخالق وحده.

33 –  الله يشد حيلي ويجعل طريقي آمناً

هذا ما يفعله وجود الله في حياة أحباءه " تشدد وكن رجلاً "شد حيلك". فالله يعطي لمتقيه قوة للسير في الطريق بل ويؤمن طرقهم، عليهم فقط أن يواصلوا السير .

34 –  كأرجل الوعل يجعل رجلي فأثبت وأنا في الأعالي:

يتميز الوعل كحيوان بقدرة فائقة على تسلق المرتفعات والوصول إلى قمم الجبال، وقد نراه واقفاً على منحدر مائل بصورة خطيرة لكنه ثابت الأقدام لا ينزلق برغم الميل والانحدار والارتفاع والخطورة هكذا يفعل الرب مع أحباءه…

35 –  يعلم يدي القتال فتكون ذراعاي قوس النحاس :

لا يكتفي الرب بالحماية السلبية بل يدعم وينير ويقوي ويربي ويدرب ويعلم بحيث يستطيع المؤمن أن يعتمد على نفسه في السير فلم يعد طفلاً بل تقدم في مسيرة الخبرة مع الرب ويعرف كيف يسير ، وكيف يواجه المخاطر وكيف يدافع عن نفسه ، لكن دائماً بقوة الرب وفي حضوره .

36 –  تعطيني ترس الخلاص ويمينك يا رب تساعدني وعنايتك تزيدني قوة :

عندما قويت ذراعاه لتطوي قوس النحاس سلمه الرب المربي الكامل ترساً تقيه سهام العدو وساعده ليحمل الترس واعتنى به ليعينه على حمله وبالتالي الوقاية من السهام وازدياد الثقة والقوة.

37 –  وتوسع تحت خطواتي فلا تزل قدماي :

لا يهتم الرب بالذراعين فقط بل يمتد اهتمامه ليشمل باقي الكيان، فيوسع من خطوات الأقدام لتلحق بالمسيرة ويدعم الرجلين فلا تتعثرا في السير بما تحملان من دروع وسلاح.

38 –  أتبع أعدائي فألحقهم ولا أرتد حتى أفنيهم:

تطوير جديد فبعد صراع الاستغاثة والفرار تحرك الرب وانتشل عبده، ثم بدأ في تدريبه وأعداده للقتال، مما حوله من رجل هارب يستغيث إلى جبار ينطلق مطارداً العدو وهو واثق من النصر بل من اللحاق بالعدو وإبادته .

39 –  أضربهم فلا يقومون، يسقطون تحت قدمي:

يتصور المعركة محسومة، والنصر أكيد والنهاية الحتمية هي قيامة الصدّيق وسقوط الأشرار وانهيارهم.

40 –  تشدد حيلي على القتال وتصرع القائمين علىّ:

يعرف أنه ليس بقوة ذراعه وإنما بقوة من يقف خلفه ويدعمه وكثيراً ما يقوم عنه بدفع ما لا يقوى عليه.

41 –  تسلمني رقاب أعدائي وأسكت الذين يبغضونني:

الرقبة أو العنق هما ما يحمل الرأس وهو مكمن الخطر أيضاً فالذبح يتم من الرقبة أو العنق وهو مركز التواصل بين الجسم والرأس ، عندما يحني الإنسان رقبته يعني ذلك الانكسار والهزيمة وعندما يسلم الرب للصديق رقاب أعداءه فأنه يعطيه النصر الأكيد عليهم .

وإسكات المبغض علامة من علامات النصر بإخراس لسان العدو الذي يتفوه بالشر على الرب وعلى شعبه، كما فعل الرب بجوليات الجبار الذي كان يلعن شعب الله فصرعه الرب وسلم إلى داود رقبته فقطعها.

42 –  يستغيثون فلا من مغيث ويدعون الرب فلا يستجيب:

هذا هو حال الأشرار أعداء الله فهم إذا لجئوا إلى إخوتهم الأشرار فلن ينقذوهم لأنهم يدركون مدى ما في مواجهة الله من هلاك  ويفضلون الفرار … وإذا لجئوا إلى الرب فلن يستجيب لأنه صبر وتمهل وأمهل إلى أقصى مدى حتى أثاروا حنقه واستنفذوا صبره واستهزؤوا بكل إنذاراته وتحذيراته ، فحتى إذا دعوه في لحظة الشدة، فلن يستجيب لكنه كان حتماً سيرحم ويصفح إذا كانوا قد أعلنوا التوبة ورجعوا عن الشر قبل حلوله… كما فعل مع شعب نينوى ( يونان )  حين أرسل يونان النبي ليحذرهم فقدموا صوما وأعلنوا توبة فغفر الله لهم خطاياهم ورد غضبه عنهم.

43 –  فاسحقهم كالذين في الريح واطرحهم كالوحل في الطرقات:

ستكون النتيجة الحتمية هلاك الأشرار النهائي وانتصار الأبرار الذين لم ولن يتخلى الله عنهم.

44 –  نحيتني من شعب مخاصم وجعلتني رئيساً للأمم :

          هكذا شاء الرب وما شاء فعل … فداود الهارب الفار أُنقذ وأٌنتشل، وصار ملكاً متوجاً على شعب الله ورئيساً لكل عشائر إسرائيل والأمم التي حولها، بينما هلك وباد واختفى من ساحة الوجود جميع أعداءه، وفي هذه الآية نبوءة عن المسيح تتحقق في شخصه الإلهي، أكثر مما يمكن أن تنطبق على داود نفسه، فقد جعله الله سلطاناً ودياناً للأحياء والأموات وله تسجد كل ركبة ما في السماوات وما على الأرض وما تحت الأرض..

45 –  الغرباء يتذللون لي وبأذان سامعة يسمعونني:

          ملك على شعبه بقوة الرب وحكمته وخشيته ووقعت على جميع شعوب الأرض تحته فصاروا ينفذون كل ما يطلبه منهم بأذان صاغية لأنهم يعلمون أن لا قبل لهم بمواجهة الرب والملك الذي مسحه مهما تشاوروا وتأمروا وقاموا.

46 –  الغرباء تخور عزائمهم ويخرجون مرتعدين من حصونهم:

          هكذا يستمر عمل الله في حياة داود حيث صار مجرد وجود داود علامة على وجود الرب وصارت قوة داود برغم كونها محدودة، مدعومة بقوة الرب التي لا تقهر: " إن كان الله معنا فمن علينا " لذلك يبادر الأعداء اليوم بالخروج من مخابئهم ومن القلاع التي كانوا بها يتحصنون بها  ويعتقدون أنها قادرة على حمايتهم من غضب الرب الآتي… فلما عرفوا قوة الرب خرجوا مسلّمين أنفسهم بين يدي الملك وهم مرتعدون مما يمكن أن يفعله بهم الرب وملكه.

47 –  حي هو الرب ومبارك خالقي وتعالى الإله المخلص:

          هذه العبارة هي قَسَمُ الأنبياء وهي تعبير عن قوة إيمانهم بالرب الحي والفعال في حياتهم. مبارك خالقي هو العمل الطبيعي لكل خليقة أن تبارك خالقها وتسبحه وتزيده علواً. تعالى الإله مخلصي: إنه أعلى من كل قوة وأسمى من كل ما سواه. لذلك أباركه ما دمت حياً.والنبي بهذه السمات الإلهية يريد أن يؤكد على دور الله الحي في حياته.

48 –  الله هو الذي ينتقم لي ويخضع الشعوب تحت قدمي:

          طبعاً نتيجة بديهية ومنطقية تمثل غاية الواقعية والإحساس بالذات لدى داود، فليس هو ولا بقدرته وحده ولا بكفاءة قيادته وقوة جيوشه استطاع أن يقيم المملكة فلولا أن الرب كان معنا يقول مع إسرائيل شعبه لابتلعونا أحياء ولصرنا …

49 –  ينجني من أعدائي وينتشلني من بين القائمين علىّ:

          عمل النبي يتمثل في الحفاظ على طهارة يديه ونقاوة قلبه وحفظ شريعة الله فمهما بلغت قوة الملك فلا يستطيع أن ينجي نفسه. يبقى على الرب عمل الحماية والنجاة،  هو الرب يرسل كاروبه ويمد يده وينتشله من الغمر وينجيه من جميع القائمين ضده .

50 –  لذلك أحمد يا رب، وأرتل لأسمك بين الأمم:

          طبعاً أمام كل أعمال الرب ومعجزاته ودعمه وعجائبه في الحياة لا يملك النبي سوى الشكر والحمد والتمجيد والتسبيح على كل حال ومن أجل كل حال وفي كل حال… بحيث تتحول الحياة إلى ترنيمة فرح ونشيد تمجيد، ونتحول شعبه إلى شهود له بين الأمم، لما لا يوجد بنفسه سراحنا وأضاء لنا الطريق .

6– شكر وحمد وتلميح إلى المسيا المنتظر (51):

51 –  الرب يمنح خلاصاً عظيماً ويظهر رحمته للملك الذي أحبه ، لداود وذريته للأبد :

          طبعاً بعد كل هذه الأعمال العظيمة التي عملها الرب مع داود عبده ومسيحه يستطيع داود أن ينام مطمئناً قرير العين واثق القلب موقن بإيمان عميق أن الرب العظيم سيتمم معه ومع نسله خلاصه العظيم دليل على رحمته العظيمة … خرج النبي من الصراخ والاستغاثة عبر عملية الخلاص العظيم ليرنم برحمة الرب وخلاصه وتظل ترنيمته أجمل وأعظم صلاة شكر عرفتها البشرية وأروع تجسيد لعمل الرب وخلاصه.

رابعاً: تطبيق المزمور:

أولاً: كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور

حيث يعتبر الآباء المزمور مسيانياً تعالوا نستعرض مدى قربه وانطباقه على حياة الرب يسوع:

   أُحبك يا رب يا قوتي: أعلن يسوع عن عمق كيان الله وبشر بإله غير الذي عرفته البشرية منذ القرون الأولى " فالله محبة " وقد أعلن محبته للبشر بأن أرسل أبنه الوحيد ليخلص به كل من قد هلك، وعاش اعلى الأرض في محبة وتسليم كامل من لحظة ميلاده حتى سلم روحه بين يدي أبيه على الصليب فأقامه ممجداً، كما رفض استخدام أي نوع من القوة واتكل على الله وحده فكان فيه رجاء وقوته.

   الرب صخرتي وحصني ومنقذي : كان اعتماد المسيح الدائم على دعم الرب وطلب معونته في كل خطوة وكلمة ومعجزة ركناً أساسياً من أركان بشارته وعلامة لا تغيب عنه حتى حين تخلى عنه الجميع " الحق أقول لكم تأني ساعة وهي الآن حاضرة تتفرقون فيها وتتركوني وحدي ولست أكون وحدي لأن أبي هو معي " ( يوحنا ) فكان الرب له صخرة لا تتزعزع وحصناً لا يقتحم ومنقذاً من فخاخ الموت حيث أقام من بين الأموات ولم تقوى عليه الهاوية ولم يبلعه الموت.

   دعوت الرب فخلصني: لعل المرتل – في ضيقته – عاين بروح النبوة السيد المسيح، ابن  داود، في صلبه… لقد صرخ إلى الآب أبيه وسُمع له من أجل تقواه، عندئذ تزلزلت الأرض وارتعدت وتشققت الصخور، كما روى لنا الإنجيليون، وقام أجساد كثير من القديسين ودخلوا المدينة. كان نداء يسوع على الصليب تأكيداً لحواره المستمر مع أبيه وسمعه اليهود فقالوا " أنه ينادي . فلنرى هل يأتي ليخلصه".

   في ضيقي دعوت الرب وإلى إلهي صرخت: انطبقت هذه الآية حرفياً على الرب يسوع الذي صرخ لأبيه على الصليب ودعاه وظل معه على اتصال كامل حتى في أشد اللحظات ألماً إلى أن سلم بين يدي الآب روحه الطاهر. يعلن القديس بولس عن هذه الصرخة الموجهة إلى الآب، قائلاً: "الذي في أيام جسده، إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلص من الموت، وسُمع له من أجل تقواه" (عب 5: 7). سُمعت صرخته بإقامته من الأموات ونواله المجد والملكوت.

   حبائل الموت اكتنفتني: طبعاً تنطبق الآية تماماً على ما عناه يسوع من لحظات التأمر والقبض عليه وتسليمه للصلب وهو ا لبرئ إلى لحظة تسليمه للروح في يدي الآب ، فإن مات الجسد ودفن وأطبقت حبائل الموت عليه لثلاثة أيام، فإن الروح صعدت مباشرة إلى حضن الآب الذي أقام جسد أبنه ممجداً ناقضاً الأوجاع وممزقاً لحبال الموت الرهيبة فصار باكورة القائمين وبموته وقيامته أعطى القيامة والحياة لجميع الذين يؤمنون باسمه …

   أرتجت الأمم: هكذا كان وتم حرفياً عند موت المسيح فتزلزلت الأرض وتشققت الصخور وأنشق حجاب الهيكل وصارت ظلمة على الأرض حيث شاركت الطبيعة خالقها حزنه على غدر الإنسان وخيانته وعدم أمانته …

   طأطا السماء ونزل ركب على كاروب وطار: ما كان ممكناً للإنسان وقد إنحدر إلى الموت أن يلتهب بنار الحب الإلهي، وتشتعل فيه الجمرة المقدسة، ما لم ينزل السماوي نفسه إليه، يطأطئ السموات ليلتقي بنا على أرضنا، فيهبنا روحه القدوس الناري. نزل إلينا متجسداً، فأخفى بهاء لاهوته، لأنهم لو عرفوا لما صلبوا رب المجد (1 كو 2: 8). هذا ما عبَّر عنه المرتل بقوله: "الضباب كان تحت رجليه". اختفى مجده وحُجب عن الأعين البشرية…

   بالطبع صعدت روح المسيح الطاهرة محمولة على الكاروبيم وأجنحتهم. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السحاب هو المركبة الملوكية التي أٌرسلت إلى الملك السماوي، يسوع المسيح، عند صعوده  ليكون في اللحظة نفسها عالياً متسامياً جالساً عن يمين الآب على نفس عرشه الكاروبيمي ليظل حاضرا في كنيسته إلى الأبد وقريباً لمن يدعوه …

   لا يمكن أن تتحقق هذه الكلمات بالكامل إلا في شخص ربنا يسوع المسيح، ابن  داود، الذي نزل إلى عالمنا، وصار ملكاً على جميع المؤمنين القادمين من الأمم؛ هو ملك الملوك (رؤ 17: 14). الشعب المذكور هنا هو كنيسة العهد الجديد.

ثانياً:كيف نعيش هذا المزمور في حياتنا كمسيحي القرن الحادي والعشرين:

   أحبك يا رب يا قوتي : بعد أن عرفنا الله " المحبة " من خلال أبنه الذي أوصانا أن نحب بعضنا بعضاً كما أحبنا هو وكما أحب الآب حتى صار واحداً في الآب  والآب فيه… يعيش المسيحي في نور هذا الحب الرائع أروع أحاسيس المحبة فيحب الله وابنه يسوع ومن خلال هذا الحب يحب البشرية كلها والكائنات جميعاً … وعبر اتحاده بالله يستمد قوة متجددة ليواصل مسيرة الحب في العالم …

   الرب صخرتي وحصني ومنقذي: يؤمن المسيحي ويعيش هذه الآية في كل أيام حياته فهو المبني على الصخرة التي رفضها البناءون فصارت رأساً للزاوية… وتقول الترنيمة أنه مصنوع من صخر يسوع الغير قابل للكسر… وأنه ساكن في حصون الصخر وعلى جناح النسور  يطير، وأن  الرب يأتي محمولاً على كاروبه الرهيب وينقذهم من كل الضيقات ويكون معهم ويقويهم كما كان مع دانيال في جب الأسود والفتية في آتون النار ويوسف في السجن " ونزل الرب مع يوسف إلى السجن " ( تكوين) أو كما عضد فتاه يسوع فأقامه منتصراً ساحقاً أوجاع الموت .

   دعوت إلى الرب فخلصني: صلاة كل مسيحي يؤمن أمام ما يواجه في الحياة من صعاب أن الصلاة هي أولاً وأخيراً المنفذ الوحيد إلى النجاة ومرفأ الخلاص. ويعلم أنه مهما طلب في الصلاة من أبيه ينال حتى ولو قال للجبل أنتقل وانطرح في البحر فسيطيعه ( راجع متى )

   حبائل الموت اكتنفتني : بالطبع يعاني المسيحي كسائر البشر من آلام الحياة منذ الولادة حتى الوفاة لكن هيهات لحبائل الموت أن تقضي عليه فهو وإن مات فسيحيى الحق أقول لكم من آمن بي وإن مات فسيحيى أنا القيامة والحياة " فلا سلطان للموت علينا نحن المسيحيين .

   دعوت وبلغ صراخي آذنه:  الله يصغي إلى صلاة كل من يدعوه بقلب نقي. وصراخ المسكين لا يهمله. ليس عجيباً أن تتحقق كل الإعلانات عبر العصور وتتجلى الحضرة الإلهية عندما تشتد التجارب والضيقات؛ حينما يبدو الموت أمراً محققاً ليس من يقدر أن يهرب منه يتجلى واهب القيامة. حتى مسيحنا – الواحد مع الآب – لم يعلن مجده إلا من خلال طريق الصليب. مع كل ضيقة يستطيع المؤمن أن يتمتع بالجالس على المركبة الشاروبيمية، واهب الخلاص، مسيحنا يدخل بنا إلى شركة آلامه لكي يعبر بنا إلى سعة القيامة ورحبها. إنه يعبر بنا من ضيق الجحيم إلى سعة الفردوس. وفي حبه يخلصنا من ضيق قلبنا المتقوقع حول الأنا لينفتح بسعة على الله وعلى السمائيين وكل بني البشر في حب صادق مقدس وكأن الظهور الإلهي تحقق ويتحقق:

 

1- مع موسى عند استلام الناموس، خلال الظلال.

2- مع داود بالإيمان خلال تمتعه بنصر دائم هو عمل الله في حياته.

3- مع السيد المسيح بكونه الابن  الوحيد الجنس، الذي أعلن عن أبيه الواحد معه في الجوهر… كأعظم إعلان إلهي!

4- مع مؤمني العهد الجديد، من خلال إتحادهم بالابن في موته وآلامه ليشاركوه قيامته ومجده.

خامساً: خاتمة المزمور:

مفتاح هذا المزمور هو كلمة "برّ"، التي تأتي كمحور للمزمور. إنها نشيد برائة داود؛ لكن داود لم يكن يدافع عن بره الذاتي، إنما عن نعمة الله العاملة في حياته. أما ربنا يسوع المسيح فقد صارع ضد الشر حتى سفك دمه على الصليب لكي يهبنا بره، مصارعاً ضد الأعداء الشرسين كاموت والشياطين والعالم الشرير والخطية (رومية 7: 24-25؛ 1كولوسي 15: 20-28). معركتنا من أجل البر ليست ضد البشر، وإنما ضد أجناد الشر الروحيين في السماويات (أفسس 6: 12).هذه هي تسبحتنا، إذ نعرف أننا في المسيح نستطيع أن نعبر من الموت إلى شركة الأمجاد السماوية.

ثانياً يرتبط "بر" المسيحي جوهرياً بمدى اتحاده وعمق علاقته الشخصية بالله هذا الذي يُحبه بكونه "قوته" بكل ما لكلمة الحب من معنى؛ إنه يسندنه، ويمنحه الشجاعة والنجاح والاستقرار. (تكوين 49: 24)؛ فالله للمؤمن ملجأ وصخرة ومخلص. ملجأ (في العبرية: حصن)، و"منقذ" تعني من يحمل بعيداً سالماً أو يقدم مجالا للهروب. بذا يستطيع المسيحي أن يهمس أو يهتف أو يصرخ بثقة الأبناء قائلاً: "نعم، أعنِّي كي أحبك؛ فأنت هو إلهي، حاميَّ؛ أنت حصني المنيع؛ أنت رجائي الذي لا يخيب وسط الضيقات…

أما النقطة الثالثة التي يؤكّد عليها هذا المزمور فهي أن كل معركة روحية تدور في العالم لأجل العدالة،، حتى تلك التي تدور في ساحة ضميرنا، تمس تأسيس ملكوت الله الأبدي. لنصل إلى اكتشاف أن الخلاص الحقيقي لا يتحقق بهلاك العدو المباشر (شاول ورجاله) بل بهلاك إبليس وجنوده، من خلال نصر المسيح عبر موته وقيامته ومجده حتى أنه يُمكن اعتبار هذا المزمور نشيد عسكري خاص بالسيد المسيح ملك الملوك، الذي يحارب ليقيم طريقه  بأسلحة الحب والإيمان، إلى أن يأتي في ملكوته. وكأنه في المسيح يسوع تنشد الكنيسة هذا المزمور كتسبيح نصر ملوكي روحي… حقاً لقد أقامنا الله ملوكاً روحيين (رؤيا 1: 6).

وأخيراً إذ نقرأ في هذا المزمور صوراً تعبّر عن الأخطار المحدقة بالمرنم، ونسمع صلاته وصراخه إلى الرب ليستجيب دعاؤه وينجيه من الخطر المحدق به، نشعر أن أعماله الصالحة درع له، وأن إيمانه بالله القدير صخرة له وملجأ، مما يجعله يشعر أن الله يحارب عنه ويعضده، نعرف حينئذ أن حبه العميق له واتحاده به هو ما يجعل الله حاضراً يسمع صلاته كما كان حاضراً على جبل سيناء وسط البروق والرعود، ووقت الطوفان مع نوح البار. فهو الذي يحفظ أحبّاءه، ويهتمّ بالبائسين، ويخفض عيون المتكبّرين. يتذكّر المؤمنون داود عندما يصلّون هذا المزمور، ويتطلّعون إلى داود الجديد الملك المنتظر. ويصلّونه متطلّعين إلى يسوع ابن داود (متى 1: 1) الذي مجّده الرب بسبب أمانته (فليبي 2: 8) وأعطاه النصر على القوّات والسلاطين (كولوسي 2: 15) أي الموت والجحيم، وأخضع كل شيء تحت قدميه (أفسس 1: 21)، وجعله رئيساً لكنيسته (1 كورنثوس 12: 13)، وقلّده سلطانا ملكياً مطلقاً كما يقول سفر الرؤيا: "يخرج من فمه سيف مسنون ليضرب به الأمم، فيرعاهم بعصا من حديد. وكان مكتوباً على ردائه: ملك الملوك وربّ الأرباب" (رؤيا 19: 15- 16).

صلاة

احبك يارب يا قوتي

احبك، سامحني

إذ استخدم هذه الكلمة التي صارت في فم البشر ارخص الكلمات

اكثرها ابتذالا

أحطها كذبا وخدعا

أوضعها رياء ومصالح شخصية

اعرف انك تحبني،

 أحببتني فخلقتي

            على صورتك ومثالك أنشأتني

             على جميع اعمالك سلطتني

وكصديق وخليل اتخذتني

فتمشينا معاً في الفردوس وحادثتني.

اعرف انك بحبك وحنانك ترعاني وان نسيت الأم رضيعها فلن تنساني

اعرف أنك حتى حين ضللت قبلتنى

وعنك إلى الانقضاء ما فصلتني

ومحبة أبدية أحببتني

فأفضت على الرحمة

عوض العدل والقصاص وخلصتني

اعرف انك هكذا  احببتنى

حتى بذلت ابنك الحبيب الوحيد فداء عنى

وأعرف كم أحبني هو، فجال يضع الخير معي

 ويشفى كل أسقام نفسي،

اعرف انه كراع صالح بذل ذاتة عني….

هبني أقولها: أحبك يا رب يا قوتي

هبني سيدي أن أرددها بصوت طفل متلعثم

يستقبل الحب والرعاية ولا يعرف كيف يشكر

يرضع حنان الأم  وحبها فينمو ويمرح فى السلام

لا يجيد الشعر فيلقي قصيدة عصماء

لا يملك زمام اللغة فيسطر مقالة رائعة

لا يحتكم من العالم حتى على ملابسة ليقدم هدايا لكنه يعرف

كيف يبسط زراعية ويمد كغيّة الصغيرتين

وتتفرج شفتاه عن ابتسامة بريئة بلا اسنان

ويغرد قلبه حين يصرخ  وتقبل عليه أمة

فيختلج جسده وتغرد عيناه وكأنه يصيح

أحبك يا قوتي

يا ربي و يا قّوتي لتكن أنت كل سعادتي

توَّجتني بالمجد والكرامة، ووهبتني نعمة الملوكية،

أقمتني ملكاً، وأعطيتني سلطاناً، كي لا أعيش بعد أسيراً في مذلة العبودية!

فكن ناصري، بك أحارب العدو إبليس وكل أعماله الشريرة حتى أدركه وبك أغلبه!

ومع كل معركة هب لي نصرة

تدخل بي إلى التهليل

لأسبحك كل أيام حياتي وأشهد لك أمام الكل.

اجتذبُ الغرباء إليك، فيصيروا معي أهل بيتك

ألتصق بك،

أيها الحياة، لمجدك يحيا كل مخلوق. لقد وهبتني الحياة، ففيك حياتي. بك أعيش، وبدونك أموت

أتوسل إليك: أخبرني أين أنت؟! أين ألقاك، فأختفي كلية فيك وأتّحد كاملا بك،

ولا أوجد إلا فيك.

فأنت الخير وحدك، وبدونك لا وجود

 

آمين