ايوب : صرخة البار 2

2

للاب هاني باخوم

يأتي ثلاثة من اصدقاء ايوب من ارض ادوم لكي يعزّوه في آلامه . و قد عُرفت ارض ادوم في العهد القديم ، بأرض الحكمة والحكماء، ارض من لهم القدرة على تفسير الاحداث واعطاء معنىً لها. هؤلاء الاصدقاء يبقون مع ايوب لمدة اسبوع دون ان يقولوا كلمة . كانت اوجاع ايوب وآلامه كبيرة لدرجة انهم لم يستطيعوا الكلام. فرفعوا اصواتهم وبكوا، وشق كل منهم رداءه، وذروا تراباً نحو السماء فوق رؤوسهم. لم يتكلموا ولكنهم اقاموا رتبة مقدسة. رتبة لطلب المفغرة والبكاء على الميت. وكانهم يقولون لأيوب: نراك تموت ان لم تكن قد متّ فعلاً. ولكن حالتك تؤكد انك على وشك الموت، فليرحم الله  ذنوبك.

يفتح ايوب فمه ويلعن يوم مولده، و حتى الليلة التي حُبِل به فيها. يلعن كل لحظة من حياته، وحتى عندما كان في بطن امه. فالحياة هي شر كبير، لانها تنتهي وتدفعه الى الموت. يرى الموت الذي اعلنه له اصدقاؤه الثلاثة امامه وهو لا يريد ان يموت، ولا ان يدخل في ذلك النفق العميق المظلم. والحل الوحيد لكي لا يموت الانسان هو الاّ يولد من الاصل. لعنة ايوب لحياته هي صرخة بها يعلن انه يحب الحياة ولا يريد الموت. وهكذا ينقلنا سفر ايوب من السؤال عن سبب الم البار، قبل ان يجيبنا عنه، الى سؤال آخر: لم الموت او لم الحياة ان كانت ستنتهي بالموت؟

امام صرخة ايوب وازمته، يبدأ اصدقاؤه بالكلام. يحاولون تفسير سبب مرضه، ألمه وموته. فيقولون له: ما يحدث لك هو بالتأكيد بسبب خطيئتك وذنبك. الله عادل وهو يجازيك لكي ترجع وتتوب اليه. فتقبَل هذا الالم واطلب منه الرحمة وسترى انه سيعطف عليك من جديد.

اصدقاء ايوب هم من الحكماء، حكماء هذا العالم، الذين يفسرون الالم بانه نتيجة ذنب شخص ما. فأيوب يتألم اذاً لأنه قد اخطأ و الله هو من يجعله يتألم، وهو عادل في ذلك. لكن اصدقاء ايوب لم يسمعوا الله في البداية عندما قال: ايوب عبدي بار ويتجنب الشر.

 ايوب لم يخطىء ولذلك يرد على اصدقائه ويقول: لا لم اخطىء بشيء يستوجب هذا الالم والموت. لكن ايوب لا يتوقف هنا، بل يواجه الله ويصرخ فيقول: ماذا فعلت لك؟ لماذا لا تصرف طرفك عني، ولا تمهلني ريثما ابلع ريقي؟ اذا أخطأت فماذا فعلت لك، انت يا رقيب البشر؟ لماذا تجعلني هدفاً لك؟ لم صِرتُ عبئاً عليك؟ تمهَل، فحياتي اصبحت قريبة من التراب، واذا اردت ان تجدني بعد ذلك فلن اكون.

ايوب يصرخ ويعاتب الله قائلاً اذا اخطأتُ فبيّن لي. قد اكون أخطأت ولا ادري لكن لا تعاملني هكذا كعدو لك، تهاجمني كل لحظة، انتبه، اني اقتربت من الموت واذا اردتَ ان تبحث عني بعد ذلك فلن تجدني. فلديك قليل من الوقت لكي ترحمني.

كلمات قاسية يعاتب بها ايوب الله. ولقد تفوّه باقسى منها لم تذكر هنا. ايوب لم يوجّه تلك الكلمات للبشر ضد الله، بل الى الله نفسه، وكأنه يقول لله اعرف انك رحيم، فماذا حدث اذاً بيننا؟ فسر لي. انا انتظرك. انا مازلت اصدّق انك انت اله الرحمة والحياة، تعال قبل فوات الاوان، قبل ان اموت. لكن ايوب بقوله هذا يقول دون ان يدري، ان الله ليس له سلطان على الموت، او ان الموت هو المكان الذي فيه الله ليس بإله!! فإما ان ينقذه الان او انتهت القصة للابد. 

لكن الله يلزم الصمت ولا يرد. فيتحمس من جديد اصدقاء ايوب ويدافعون عن الله ويقولون: ماذا تقول يا ايوب؟ اولادك قد اخطأوا لذلك ماتوا اما انت فلديك فرصة لكي تتوب فيرحمك الله.

ايوب يرفض هذه الفكرة ويقول لست بمخطىء، لم افعل ما يستوجب هذا (نحن نعلم انه على حق لكن اصدقاء ايوب لا يعلمون). ايوب يستمر في مواجهة وعتاب الله  ويقول له: حتى ولو اغتسلتُ بالثلج ونقيتُ كفي لغطستني انت في الهوة وجعلتني مذنب. ماذا افعل معك؟ اوماذا استطيع ان افعل معك؟ لو كنتَ انساناً لاحضرتُ حَكَماً بيني وبينك، فيجعلك ترجع عن افعالك، وترفع عصاك عني فلا تروعني بهذا الرعب. كفى. لم كل هذا ؟ لما تتبع مشورة الاشرار وتتركني انا، صُنع يديك؟ يداك صنعتني وانت الان تبتلعني؟ ايوب يشعر بأنّ هناك شيء اكبر واعظم من ان يكون كل هذا بسبب الخطيئة، ولكن ما هو؟ الله لا يتكلم وايوب يهاجمه لكي يجعله يتحدث ولكن هيهات، فالرب صامت. ويطول الصمت والاصدقاء يكررون الكلام نفسه بطريقة او بأخرى…..

ايوب في صراع كبير. صراع ايمان. هو يعرف ان الله محبة ورحمة. فهو الذي صنع السموات والارض واعطى الحياة لكلّ حي. ولكنّه يشعر ان هذا الاله قد تغير. لكن في نفس الوقت لا يزال مؤمنا" به، ويناديه لكي يرجع كما كان. لايزال ايوب واثقا" بالله، وفي نفس الوقت يقاضيه لكي يجبره ان يُظهر نفسه. ان يرد عليه. ان يظهر من هو، ولماذا يفعل ذلك؟ فالكتاب يغير من جديد السؤال. فالسؤال الان لم يعد لماذا يتألم البار؟ او لماذا الموت؟ بل السؤال: من هو الله؟ أهو الاله الذي يترقب البشر وينتظر اخطاءهم ليعاقبهم ؟ يخلُق لكي يغمر بالتراب ويسحق في الارض حياتهم كما يقول ايوب؟ من هو الله؟ فصراع ايوب الحقيقي هو الإجابة عن هذا السؤال.

لكن الله لا يخضع لمشيئة ايوب ولا يرد. يزداد ايوب هجوماً على الله وعلى اصدقائه. فهو يقول لقد سمعت كلاماً كثيرا. كلام من هو مرتاح و في سلام ويحاول نُصح الاخرين. انا هو الذي يتألم، انا هو الذي فتح الرب عليه نيرانه، انا وليس انتم.

ايوب ينادي كل الخليقة، السماء والارض، صُنع الله، لكي تقف بجانبه في صراعه ضد خالقهم. يوصيهم الاّ ينحازوا لمن خلقهم؛ فيقول للارض لا تمتصي دمائي، لا تستريها بل اتركيها ليراها دائماً، لعله يتذكر ما فعل بي فلا يعود و يكرر ذلك. وانت ايتها السماء، لا تضعي حدوداً لصراخي، اجعليه ينتشر فلعله يسمع !!!

 ايوب يطلب محامٍ ليدافع عنه لدى الله. من هو هذا المحامي؟ النص يجعله مجهولاً فهل صراخه هو ذاك المحامي؟ ام انه يقصد ان الله نفسه سوف يقف معه ويرجع لصفه ويدافع عنه ضد افعاله نفسها، فيرجع ويرحمه؟

السماء مغلقة ولا اجابة، يُعاد نفس الحوار ونفس الصراع بين ايوب واصدقائه، فمن ناحية يحاولون اقناعه بذنبه اما هو فيهاجمهم ويقاضي الله علناً. والله لا يرد. فلماذا؟ انه الفصل 37 من ايوب ومازال الله مختفياً، لماذا؟ واذا ظهر فماذا سيقول ؟ كيف سيبرر لأيوب كل ما فعله؟ هل سيعطيه الحق؟ هل سيكافىء اصدقاء ايوب على دفاعهم عنه، اي عن الله ؟……. للمرة القادمة .