بولس والمرأة

 

القاهرة، الثلاثاء 1 سبتمبر 2009 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي النص الكامل لمقالة الأخ فادي حليسو اليسوعي بعنوان "بولس والمرأة".

* * *

مقدمة

يحيط بالقديس بولس كثير من الجدل فيما يتعلق بموقفه من المرأة. لا بل ينظر إليه البعض على أنه معادٍ للمرأة مستندين في ذلك إلى الآيتين الشهيرتين في رسالته الأولى إلى كورنتوس:

“وكما تصمت النساء في كنائس جميع الإخوة القديسين، فلتصمت نساؤكم في الكنائس فلا يجوز لهن التكلم. ولتخضع نساؤكم كما تقول الشريعة. وإن أردن أن يتعلمن شيئاً، فليسألن أزواجهن في البيت لأنه عيب أن تتكلم النساء في الكنيسة”.

(1 كورنتوس 14: 33-34)

ولكن أما من طريقة أخرى لفهم هاتين الآيتين وهل أن بولس معادٍ حقاً للمرأة؟

المرأة في أيام بولس

لفهم موقف القديس بولس من المرأة لا بد من فهم مكانة المرأة الاجتماعية في ذلك الوقت.

كان مجتمع بولس ما يزال مجتمعاً أبوياً محافظاً. حيث الرجل مسؤول عن اتخاذ كافة القرارات في المنزل. والخوف يتملك الرجال مما يمكن أن يحدث فيما لو أمسكت النساء بزمام الأمور.

كان يحق للنساء اليهوديات في ذلك الوقت الذهاب إلى الهيكل والصلاة، ولكن مع وجود عددٍ من القيود المكبلة لهن. إذ لا يسمح لهن بالتجول في الشوارع إلا في حال توجههن إلى الهيكل، وحتى حينما يتوجب عليهن القيام بأود منازلهن كان ينبغي لهن الخروج فقط في ساعات الظهيرة، حيث تكون الحركة خفيفة. وهو الوقت الذي صادف فيه يسوع المرأة السامرية عند بئر يعقوب.

كما لا يسمح للنساء بالصلاة في الهيكل مع الرجال، إذ أننا نعلم باقتصار الأماكن التي يحق لهن دخولها في هيكل سليمان على الساحة خارجية التي تسبق ساحة الرجال، والتي يمكن للنساء والأولاد دون سن الـ 13 فقط دخولها. أي الساحة التالية لساحة الوثنيين.

طبعاً لم يتمتعن في ظل هذا النظام الديني الصارم بأي دور أكهنوتياً كان أم علمانياً.

من هنا ينبغي لنا أن نفهم بأن كتابات بولس منبثقة، بشكل أو بآخر، من هذه الخلفية الاجتماعية والثقافية. إلا أنه وفي الوقت نفسه لا يمكن اعتبار كل كتابات بولس عن المرأة سلبية، بل أننا سنرى أن النساء لعبن في حياة بولس أدواراً محورية، وأن العديد من رسائله تحتوي وجهة نظر إيجابية عن المرأة بشكل متناقض إلى حد ما مع الآيتين السابقتين من رسالة كورنتوس.

هل يناقض بولس نفسه فيما يتعلق بالنساء؟

إن إلقاء نظرة شاملة على الرسائل المنسوبة إلى بولس، يظهر لنا تناقضاً بين وجهتي نظر لديه تجاه النساء:

1-                في رسالتيه إلى غلاطية وروما نلمح وجهة نظر إيجابية، كمثل أنه لا فرق بين الرجال والنساء في المسيح (غلاطية 3: 28)، وكذكره في رسالته إلى روما كما رأينا، بكثير من المديح، لعدد من النساء اللواتي عملن معه.

2-                في حين تحتوي الرسالة الأولى إلى تيموتاوس ورسالة أفسس والأولى إلى كورنتوس ورسالة كولوسي مواقف سلبية تجاه النساء… فيطالبهن بالخضوع لرجالهن (أفسس 5 ، كولوسي 3) ويطالبهن بالصمت وعدم التعليم (1 تيموتاوس: 2).

قسم كبير من هذا التناقض يعزى إلى وجود شك في كون بعض هذه الرسائل يعود إلى بولس، إذ يقسم الدارسون هذه الرسائل إلى سبع رسائل مثبتة لبولس، وسبع أخر مشكوك بنسبتها إليه من بينها تيموتاوس وأفسس وكولوسي والتي يعتقد أن كتابها هم من مدرسة بولس الفكرية. لذلك يتبقى لدينا أمامنا إشكال الرسالة الأولى إلى كورنتوس والتي من المثبت أن بولس هو كاتبها. فكيف يمكن فهم موقفه في هذه الرسالة؟ هل قصد فعلاً إسكات النساء؟

تعتقد Elaine Pagles  بأن بولس رأى في أحداث أو ممارسات معينة في كنيسة كورنتوس، تسببت بها بعض النساء، أحداثاً غير منظمة أو حتى شائنة. وأنه من خلال فرض النظام البدائي، كان يأمل بالحد من نشاطات أولئك النساء وبالتالي إعادة النظام. ومن المحتمل أنه رأى في تلك النشاطات في كنيسة كورنتوس أنشطة غير ملائمة للنساء في ذلك الوقت ولم يقصد أن يتخذ موقفاً عاماً من النساء.

وهناك رأي آخر يقول بأن هذه الآيات لم يكتبها بولس، إذ أنها تتناقض مع قبوله وإطرائه على قيادة المرأة في الكنيسة الأولى. كما أنها تتناقض بشكل مباشر مع آيات سابقة في ذات الرسالة، حيث كان يفترض بأن النساء "يصلين ويتنبأن" مثلهن مثل الرجال (1 كورنتوس: 11: 5).

يعتقد أصحاب هذا الرأي بأن هذه الآيات ما هي إلا عبارة عن تعليمات من وقت متأخر، نسخت إلى رسائل بولس. ولا بد أن ممن قام بنسخها اختلطت عليه الملاحظات الجانبية التي كتبها أحدهم مع النص الأصلي لبولس. فأصبحت هذه الملاحظات جزءاً من النص الجديد المنسوخ.

لا تبدو محاولة إسكات النساء، أمراً منطقياً يمكن لبولس القيام به. إذ ما كانت بريسكا وفيبي وجونيا ليتمكن من العمل كقادة للكنائس ورسل لو لم يكن مسموحاً لهن التكلم علانية.

تعكس التعاليم الواردة في رسالة كورنتوس الأولى تلك الموجودة في رسالة تيموتاوس الأولى، الرسالة المنسوبة إلى بولس والتي لم تكتب في الواقع إلا في بدايات القرن الثاني. في ذلك الوقت كان هناك، على الأقل في بعض الجماعات، قلق حول النظام ومناصب معينة في الكنيسة. إذ نجد في الرسائل الرعائية مثل تيموتاوس الأولى والثانيةن تعليمات تتعلق بالشمامسة والأساقفة والشيوخ. الفكرة من ذلك كله، هي اترتيب البيت الداخلي.

نساء في حياة بولس

من خلال قراءة متأنية لحياة بولس الرسولية يمكن أن نلحظ وجوداً مهماً لعدد من النساء، لعل أبرزهن:

1-                                                     بريسكيلا: رفيقة، مرسلة وقائدة

بريسكيلا (أو بريسكا في بعض الترجمات) هي من النساء اللواتي يذكرهن بولس في كثير من رسائله وغالباً ما يرد اسمها قبل اسم زوجها أكيلا. كان هذا الزوجان من المرسلين المهمين الذين يذكرهما بولس في رسالتيه 1 كورنتوس وروما.

في (روما 16: 3-4) يشير بولس إليهما على أنهما خاطرا بحياتهما من أجله، وأن كافة كنائس الأمم ممتنة لجهودهما. تكشف هاتين الآيتين عن الدور المحوري الذي لعبه هذان الزوجان في البشارة المسيحية بين الأمم. كما أن عبارة "معاونيّ في المسيح" تدل على أن بولس يعتبرهما مساوين له.

ويمكن من (أعمال 18) أن نعرف بأن بولس أقام في زيارته الأولى لكورنتوس لدى بريسكيلا وأكيلا وعمل معهما في صناعة الخيام. مما يجعلنا نفترض بأنهما كانا مسيحيين قبل تعرفهما على بولس. ثم مضيا معه إلى أفسس.

وفي (أعمال 18: 24- 26) مثلاً نجد أنهما أخذا أبولوس إلى بيتهما "وشرحا له مذهب الله شرحاً دقيقاً" مما يشير إلى أنه كان لهما دور المعلمين وكانت سلطتهما معترف بها من قبل باقي المؤمنين. أغلب الظن بأنهما كانا يحييان نوعاً من الكنيسة المنزلية في المدن التي أقاموا بها، سواء في كورنتوس أو أفي أفسس أو روما. وهذا ما يشير إليه بولس بقوله:

"يسلم عليكم في الرب كثيراً بريسكيلا وأكيلا والكنيسة التي تجتمع في بيتهما"

(1 كورنتوس 16: 19)

2-                                                     فيبي: شماسة ومحسنة

في (روما 16: 1-2) يوصي بولس بفيبي المسؤولة عن كنيسة كنخارية، المدينة الساحلية قرب كورنتوس. واصفاً إياها كـ "خادمة كنيسة". في الترجمات الحديثة تترجم عبارة خادم كنيسة diakonos من اليونانية كشماس.

فيبي هي المرأة الوحيدة التي تمنح مثل هذا اللقب في كامل العهد الجديد. وفي أيام بولس كان دور الشماس آخذاً بالتطور، وله صفة رسمية نوعاً ما. نجد وصفاً لمتطلبات هذا المركز في
(1 تيموتاوس 3: 8-13).

يمكننا إذا أن نستنتج ولو بتحفظ أن هذه الرسالة كانت رسالة توصية بفيبي لتتلقى الاستقبال الحسن من كنيسة روما حيث كلفت على ما يبدو بمهام رعوية تتوافق مع مركزها كشماس. علماً أن بولس يصفها كحامية ومحسنة للكثيرين وله شخصياً.

3-                                                     مريم، جونيا، جوليا، تريفنة وتريفوسا: عاملات في حقل الرب

يذكر بولس في رسالته إلى روما خمس نساء أخريات. وبالرغم من أن الوصف نختصر، إلا أنه حقيقة أنه يخصهن بالسلام بشكل شخصي تشير إلى الدور الهام الذي لعبنهن في الكنيسة. حيث يشير إلى مريم بأنها "عملت جاهدة من أجلكم".

ومن الجدير بنا ملاحظته أن كلمة الرسول التي يستخدمها لوقا في إنجيله لوصف الاثني عشر فقط. أما بولس فيستخدمها بمفهوم أوسع، إذ يمنح نفسه هذا اللقب كما في (غلاطية 1:1 ، 1كورنتوس 9: 1-2). بالنسبة لبولس، أن تكون رسولاً، فهذا يعني أن تتمتع بالسلطة، أن تكون مرسلاً بقوة القائم من بين الأموات لنشر البشارة إلى الآخرين.

لذلك فإن وصفه لجونيا وأندرونيكوس بـ "المشهورين بين الرسل" ، يوضح بأنهما مرسلين متشربين بالرغبة والنعمة لحمل رسالة المسيح. لربما كانا على شاكلة يرسكا وأكيلا. زوجان يمارسان مهاماً رعوية في الكنيسة الأولى.

4-                                                     خلوة: صانعة السلام.

في رسالته الأولى إلى كورنتوس، يعالج بولس مسألة الانقسام الحاصل في الكنيسة هناك. والتي تربطه بها صلة وثيقة. على اعتبار أنه أمضى فيها سنة ونصف بصحبة بريسكا وأكيلا. وعندما تناهى إلى علم وجود بعض الصعوبات، وجه كلامهم إليهم مباشرة على أن مصدر معلوماته هم "أهل بيت خلوة"
(1 كورنتوس 1: 11).

تبدو عبارة "أهل بيت خلوة" غامضة بعض الشيء. إذ يمكن لها أن تشير إلى عائلتها أو إلى خدمها. كما أنه من الممكن أن تكون خلوة هذه ، قائدة لنوع من الكنيسة المنزلية، مثلها مثل بريسكا وغيرها. وبالتالي يكون "أهل بيتها" جماعة المؤمنين الذين تستضيفهم.

يمكن أن نرى أن تصرف بولس المستند إلى الكلام الذي ورده من قبل خلوة، إنما يدل على مدى التقدير والاحترام العميقين اللذان كان يكنهما لها. 

5-                                                     ليديا: القائدة المضيافة.

أخيراًن تخبرنا أعمال الرسل بقصة ليديا، أولى المهتدين في أوروبا (أعمال 16: 14). والتي تعمدت على يديه في فيليبي. ويخبرنا الكاتب بأنها كانت "تبيع الأرجوان" مما دل على أنها كانت امرأة ثرية.

دعت ليديا بولس ورفيقه للإقامة عندها. وكامرأة، لا بد من أن منزلها كان كبيراً كفاية ليمكنها من استضافة هذين الرجلين عندها ومن بعد لاستضافة كنيسة مصغرة. ويشير كاتب العمال إلى أن بيتها كان مركزاً مسيحياً. بحيث أن كان المكان الأول الذي توجه إليه بولس وسيليا عقب إطلاقهما من السجن، بغية رؤية وتشجيع المؤمنين المجتمعين هناك.

ما هي الأدوار التي لعبتها النساء في الكنائس التي كانت على علاقة ببولس؟

من الأسماء التي سبق واستعرضناها يمكن استنتاج عدد من الدورا المحورية التي لعبتها النساء في الكنائس الأولى التي عرفها بولس او أنشأها.

1. استضافة الكنيسة وجماعة المؤمنين: كما كانت حال بريسكيلا وليديا وفيبي وخلوة.

2. التعليم الديني: كبريسكيلا.

3.  الرسل: يطلق بولس لقب رسولة على عدد من النساء، اللواتي خضن تجربة روحية عميقة تجربة اللقاء مع يسوع القائم. وهو يكن لمثل أولئك النسوة احتراماً بالغاً.

4.  التنبؤ: يصنف بولس المتنبئين في المرتبة الثانية بعد الرسل ونستشف من رسائله ان التنبؤ (أي التعليم بإلهام من الروح) مان أمراً شائعاً في الكنائس الأولى.

“وكُلُّ امرأةٍ تُصلّي أو تَتَنبَّأُ وهِـيَ مَكشوفَةُ الرّأْسِ تُهينُ رأْسَها”

(1 كورنتوس 11: 5)

5.  الشماسة: كمثل فيبي الذي سبق وذكر.

6.  الإحسان والدعم المادي للمبشرين والكنائس الناشئة: كليديا وفيبي وغيرهن.

ماذا عن المواقف الإيجابية التي تحتويها الرسائل؟

تحتوي رسائل بولس على عدد من الإشارات الإيجابية للمرأة وأبرزها:

1.  بالنسبة لبولس، فكما أنه لا فرق بين يهودي ووثني بعد ان لبسوا المسيح فكذلك لا فرق بين رجل وإمرأة في  الإيمان (غلاطية 3: 28).

2.      في رسالة أفسس يطالب بولس الرجال والنساء بأن يخضعوا لبعضهم البعض. صحيح أنه لا يشرح كيف يخضع الرجال لنسائهن، إلا أن فكرة الخضوع المتبادل تبقى من دون شك ثورية نسبة لتقاليد وعادات العصر.

“ليَخضَعْ بَعضُكُم لِبَعضٍ بمخافةِ المَسيحِ”                                                             (أفسس 5: 21)

3.       إلا أنه يطلب من الرجال معاملة نسائهن بأحسن ما يكون مستعملاً في ذلك عبارات واضحة وقوية:

“أيُّها الرِّجالُ، أحِبُّوا نِساءَكُم مِثلَما أحَبَّ المَسيحُ الكنيسَةَ وضَحَّى بِنَفسِهِ مِنْ أجلِها"

(أفسس 5: 25)

ختاماً

يجب ألا ننسى، أن الرسائل ما هي إلا كتابات خاصة تتعلق بالموقف أو المناسبة التي كتبت من أجلها. بمعنى أنها كانت تهدف إلى الإجابة أو معالجة الأفكار، الفلسفات والممارسات موضع الخلاف في الكنائس الناشئة. وبالتالي فقد لا نجد في هذه الرسائل الأسباب الكامنة وراء كتابة أو اقتراح هذا الحل أو تلك الفكرة.

من هنا، من الضروري بمكان أن نأخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي والثقافي الذي كتبت فيه هذه الفصول من الكتاب المقدس.

* * *

فادي حليسو – مبتدئ في الرهبانية اليسوعية من حلب – سوريا.