الكنيسة الكاثوليكية والسياسة والدبلوماسية

الأب د. يوأنس لحظي جيد[1]

مقدمة:

تعتبر الكنيسة الكاثوليكية أكبر تجمع بشري منظم على وجه البسيطة، فعدد الكاثوليك هو 1 مليار و165 مليونا، وبالتالي يمثلون 17,3% من التعداد الإجمالي لعدد سكان المسكونة، والذي يبلغ 6 مليار و543 مليون. وبما أن أبسط قواعد التأثير هو التعداد فهذا يشرح لنا مدى عمق تأثير الكنيسة الكاثوليكية في السياسة وفي الخريطة العالمية.

وقبل الخوض في تفاصيل تأثير الكنيسة الكاثوليكية في السياسة أو تأثير السياسة على الكنيسة سنحاول أولا طرح الموضوع بطريقة عامة (الكنيسة والسياسة) وعرض المبادئ الأساسية التي تحكم هذه العلاقة وبعد ذلك استخلاص بعض النتائج للوصول لدور المسيحي عامة والكاثوليكي خاصة في التفاعل مع السياسة.

وبداية يجب أن نؤكد أن الكنيسة عندما تمارس حقها الطبيعي في التفاعل مع المجتمعات التي تحي فيها فهي لا تمارس سلطة أو وظيفة، ولا تطمع في حكم، أو في سيطرة أو حتى في الحصول على امتيازات ولكنها تؤدي دورا، فيصبح لها رأي وموقف.

وقد ظهرت عبر التاريخ نظريتان الأولى تنحى بالكنيسة عن أي مشاركة سياسية وتعتبر أن الكنيسة مؤسسة "روحية" يجب عليها الاهتمام بالروحانيات وبالصلاة والطقوس والعقيدة… وعدم التدخل في الشئون السياسية اتبعا لكلمة السيد المسيح: "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، معتبرة طبيعة السياسة تختلف تماما مع طبيعة الكنيسة، وتؤكد أن الكنيسة الكاثوليكية لم تنتعش وتزدهر إلا عندما تخلت عن دورها السياسي… والنظرية الثانية تؤكد ضرورة تدخل الكنيسة في السياسة لأنه الكنيسة تحي في العالم، تؤثر وتتأثر بكل ما يدور فيه، وابتعادها بحجة أنها يجب أن تهتم فقط بالروحانيات ليس إلا هروبا من الدور والرسالة التي يجب عليها القيام بها، وذلك أيضا إتباعا للكتاب المقدس الذي يقول: "فرحا مع الفرحين وبكاءا مع الباكين"…

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يجب أن تكون كنيسة بلا رأي وبلا موقف؟ وإن صارت كذلك، هل تكون نافعة للمجتمع الذي نعيش؟ وهل تكون أيضا نافعة للدولة وللسياسة؟!… إن تعاونت الكنيسة مع الدولة، هل يعني ذلك التدخل في السياسة! وإن وقفت صامتة مقتصرة علي العمل الروحي العبادي ألا يعني ذلك الانعزال والرفض والعنف السلبي وإحراج الدولة بابتعادها عنها! ماذا تفعل إذن؟ هل تندمج الكنيسة في المجتمع الذي تعيش فيه وإن فعلت هذا، هل تكون قد خرجت عن العمل الروحي العبادي إلي العمل الاجتماعي أو السياسي؟ وإن لم تعمل، هل يصفها بالانعزال عن المجتمع، ويرفض المجتمع؟..

وهنا نسأل عن الخط الفاصل بين الوطنية والسياسة بين الدين والدولة؟ وما حدود اشتغال الكنيسة فيهما؟ وهل يحق أم يجب على الكنيسة أن تتدخل في السياسة؟ وماذا تعلم الكنيسة بخصوص الثقافة والحياة الاجتماعية، وما هي الأسس العقائدية للكنيسة الكاثوليكية عن موضوع العلمانية والتعددية السياسية وعن موضوع "التوازن بين الإيمان والحياة، بين الإنجيل والثقافة" – تثقيف الإنجيل أم أنجلة الثقافة؟.

 

أ‌. الكنيسة الكاثوليكية:

معلومات هامة:

التعداد العام لسكان الكرة الأرضية هم 6 مليار 543 مليون نسمة، ويمثل المسيحيون أكثر من ثلثي عدد سكان المسكونة، والأرقام بالتفصيل هي:

الكاثوليك: 1 مليار 165 مليون – 17.3% (بحسب إحصاء سنة 2008)

الأرثوذكس: 232 مليون – 3.5%

البروتستانت: 393 مليون – 6%

الأنجليكان: 92 مليون – 1.4%

جماعات مسيحية أخرى 265 مليون – 4.1%

التعداد الإجمالي للمسيحيين هو 2 مليار 145 مليون – 32.3%

 

تجمعات أخرى:

اليهود: 20 مليون -0.3%

المسلمين: 1 مليار 269 مليون – 19.4%

هندوس: 883 مليون – 13.8%

البوذيين: 406 مليون – 6.2 %

ديانات أخرى: 452 مليون – 6.9%

ملحدين: 275 مليون – 4.2%

بلا دين: 948 مليون 14.5 %

 

الكنيسة الكاثوليكية:

الكرادلة: 185 (72 فوق 80 سنة، 113 تحت 80 سنة)

الأساقفة: 5065 (بحسب إحصاء 31 يوليو 2009)

الإيبارشيات: 2995 (بطاركة، رؤساء أساقفة، أساقفة إيبارشيين، أساقفة مساعدون…إلخ)

كهنة إيبارشيين: 272.431

كهنة رهبان: 135.000

شمامسة دائمون: 35.942

رهبان غير كهنة: 54.956

راهبات: 750.000

إكليريكيين: 116.000

مراكز رعوية: 436.000

 

البلاد الكاثوليكية:

تأتي على قمة الدول الكاثوليكية:

البرازيل: 159.7 مليون

المكسيك: 97.2 مليون

الفلبين: 71.9 مليون

الولايات المتحدة: 67.7 مليون

إيطاليا: 56.9 مليون

فرنسا: 46.6 مليون

اسبانيا: 41.8 مليون

بولندا: 36.7 مليون

الأرجنتين: 36.4 مليون

الكونغو الديمقراطي: 33.2 مليون

ومما سبق يتضح لنا أن الكنيسة الكاثوليكية هي المؤسسة البشرية الأكبر والأكثر تنظيما على وجه الأرض حيث أن كل الكاثوليك يشتركون في اعتبار قداسة بابا روما، خليفة القديس بطرس وبولس، رأس الكنيسة المنظور وذلك انطلاقا من إيمانهم الكاثوليكي، هذا الإيمان الذي يجعل من قداسة البابا أكثر الشخصيات تأثيرا على الخريطة العالمية، فلا يوجد شخص أخر يتبعه 1 مليار 165 مليون.

 

ب‌.     ما هي السياسة:

يختلف مفهوم كلمة سياسة من مكان الأخر ومن شخص لأخر بحسب ثقافة ونضج البيئة التي يعيش فيها الفرد بالإضافة إلي مستوى تعليمه. ولا شك أن نظام الحكم في إي  دولة ما، هو الذي يساعد المحكمين على الاهتمام بالأمور السياسية أو تركها وعدم الاقتراب منها حيث تشكل منطقة خطر ممنوع الاقتراب منها أو التفكير فيها. فالخبرات والتراكمات السلبية التي نعرفها عن مصير هؤلاء الذين حاولوا الانغماس أو الاهتمام بالعمل السياسي دون موافقة النظام  أدت إلي تجنب العمل السياسي بل أصبح للكلمة مفهوم سلبي عند الكثيرين. وبينما هناك أنظمة حكم تشجع محكوميها على العمل العام والعمل السياسي لإثرائه وتنوعه وخلق جو من التنافس الشريف بين الأحزاب والقائمين على العملية السياسية وهنا تتخذ كلمة سياسة بعد ايجابي دون خوف.

كلمة السياسة في أصولها اللغوية – كما جاء في لسان العرب- هي من ساس الأمر سياسةً: أي قام به، والسياسة هي القيام على الشيء بما يصلحه، والسياسة فعل السائس. وتعرِّفها موسوعة العلوم السياسية الصادرة عن جامعة الكويت بأنها: فن إدارة المجتمعات الإنسانية. لذلك تتعلَّق السياسة بالحكم والإدارة في المجتمع المدني. وتبعا لمعجم العلوم الاجتماعية: تشير السياسة إلى: أفعال البشر التي تتَّصل بنشوب الصراع أو حسمه حول الصالح العام، والذي يتضمن دائما: استخدام القوة، أو النضال في سبيله. ويعرفها المعجم القانوني أنها: أصول أو فن إدارة الشؤون العامة.

ج. الكنيسة والسياسة، مبادئ عامة:

1.   السياسة فن شريف لخدمة الإنسان والخير العام : تحتاج كل جماعة بشرية إلى سلطة تنظم شؤونها وتؤمن خيرها العام وتمارس العمل السياسي. تجد السلطة أساسها في صميم الطبيعة البشرية، وتخضع في الممارسة لنظام أخلاقي طبعه الله الخالق في قلب الإنسان، إذ كونّه على صورته ومثاله. هذا النظام هو بمثابة النور للعقل البشري، في ضوئه يعرف الإنسان ما يجب أن يفعل من خير، وما يجب أن يتجنّب من شر .بفضل هذا التعليم تعتبر الكنيسة أن السياسة فن شريف يلتزم النشاط الاقتصادي والاجتماعي والتشريعي والإداري والثقافي، المتعدد الشكل، من اجل تعزيز الخير العام، الذي هو "مجمل أوضاع الحياة الاجتماعية التي تمكّن الأشخاص والجماعات من تحقيق ذواتهم تحقيقاً أفضل". إنها "فن شريف" لارتباطها بالشخص البشري وكرامته وحقوقه الأساسية المرتكزة على الشريعة الطبيعية المكتوبة في قلب الإنسان والحاضرة في مختلف الثقافات والحضارات. توجيه قدرات المواطنين وطاقات الدولة نحو الخير العام الذي منه خير الجميع، وعلى تعزيز عناصره ومن أهمها أ- احترام الشخص البشري بحدّ ذاته في دعوته وحقوقه الأساسية، وفي حرياته الطبيعية، وحمايتها والدفاع عنها.  ب- إنماء الشخص البشري بكل أبعاده الروحية والإنسانية والثقافية والاقتصادية، وتوفير ما يحتاج إليه لحياة كريمة، أي: الغذاء والكسوة والصحة والعمل والتربية والثقافة، والاستعلام المناسب، والحق في تأسيس عائلة، وسواها. ج- توفير السلام والعدالة والاستقرار الأمني بواسطة مؤسسات الدولة النظامية والأمنية .

2.   الإيمان والحياة: من واجب الرسالة المسيحية أن تنير المشرعين وأصحاب القرار بنور الإنجيل والخير العام وتتطهر الضمائر من تجربة السقوط في نظرة سطحية للإنسان تجعل منه مجرد كائن أرضي، وأخير تضيء الثقافة بدعوتها إلى النظر لما هو أبعد من الفرد، ومن المادة.. ولأن الايمان يجب أن يتجسد ويعاش في الحياة سواء الخاصة أو العامة فلا يمكن للكنيسة أن تتهرب من مسئولياتها في إنارة الضمائر بنور الإنجيل، أو أن تصمت أمام أي شيء يحط من كرامة الإنسان الذي خلقه الله على صورته ومثاله، وذلك إنطلاقا من اعتقادها بأن الإيمان بلا حياة هو ماءت وبأن الحياة بلا إيمان هي مميتة…

3.   الدين والدولة: مفهوم اعتبار الدين والدولة شسيئا لا يتجزء هو مفهوم غير مسيحي، فالمسيحية لا تؤمن بأن بين الكنيسة والدولة تعاون، تمايز واستقلالية (كما سنرى لاحقا)، وبالتالي فالعلاقة بين الدين والدولة بحسب المفهوم المسيحي يجب أن تقوم على: تعاون لا تحارب / احترام لا تباعية / حق لا باطل / شهادة لا صمت او سلبية... فالكنيسة والدولة تتلاقا في خدمة الإنسان والمجتمع والخير العام، وتتمايزان في الصيغة والهيكلية والوسائل. ولكن من الضرورة إن تتعاونا وتتفاهما وتضافرا الجهود لتحقيق خير الإنسان المركّب من نفس وجسد، من مادة وروح. وكل هذا بناء على القاعدة الذهبية: ما لقيصر لقيصر وما لله لله:

التمايز: تمارس الدولة السلطة السياسية بكل وجوهها ومهامها للبلوغ إلى خير الإنسان وخير المجتمع العام، من خلال الاعتناء بمجمل أوضاع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والخلقية والسياسية التي تمكّن الناس والعائلات والمجموعات ولاسيما الأكثر حاجة من تحقيق ذواتهم تحقيقاً أكمل. أما الكنيسة، التي تعمل هي أيضا من اجل خير الإنسان وخير المجتمع العام، فتتمايز عن الدولة بطبيعتها وبمساحات خدمتها ووسائلها. إنها شركة الإيمان والرجاء والمحبة، لخدمة الحقيقة والنعمة الفائضتين من المسيح على الجميع، ولتعزيز اتحاد كل إنسان اتحاداً شخصياً بالثالوث الإلهي، ووحدة الجنس البشري . ليست رسالتها أن ترسم أو تعتمد نظاماً سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً محدداً، لان الهدف الذي رسمه لها مؤسسها الإلهي هو لتكوين جماعة البشر وتثبيتها وفق الناموس الإلهي. لكنها تستطيع، بل يجب عليها،عندما يلزم وبحسب ظروف المكان والزمان، أن تقوم بمبادرات تهدف إلى خدمة الجميع وخاصة المعوزين، كالأعمال الخيرية والثقافية والاجتماعية والطبية.  كون مهمة الكنيسة دينية، وبالتالي معنية بتنظيم علاقة المؤمن بربه وبأخيه الإنسان ومجتمعه وبسائر المخلوقات، على المستوى الروحي والأخلاقي، فإن الكنيسة تقوم بنشاطات ذات طابع وطني تختص بالإنسان في كرامته الشخصية وحقوقه ومصيره الأبدي، وبالمجتمع لقيام عدالة اجتماعية ومساواة في الحقوق والواجبات وسلامة الأخلاق والتضامن والتعاون لتأمين الخير العام، وبالوطن من ناحية سلامة أراضيه وسيادته واستقلاله وشرفه ووحدته.

الاستقلالية لكل من الكنيسة والدولة استقلاليتهما الواحدة عن الأخرى في حقل عملها الخاص. فالكنيسة تتنظم بأشكال تلبي حاجات المؤمنين الروحية، فيما الجماعة السياسية تنشئ مؤسسات وعلاقات لخدمة كل ما يؤدي إلى الخير العام الزمني. لكن الاستقلالية تدعو الكنيسة والدولة إلى التفاهم من دون تخالط، والى التقارب من دون تصارع. والشراكة تعني أن الكنيسة لا تنافس السلطة السياسية بل تقرّ بصلاحية المجتمع المدني والسياسي واستقلاليته، وفي الوقت عينه تنتظر الكنيسة من الدولة أن توفر لها الظروف والشروط اللازمة لتأدية رسالتها.

التعاون من الواجب قيام تعاون وثيق بين الكنيسة والسلطة السياسية من اجل الخير العام وخيرهما المشترك، يتم على قاعدة التفاهم والاحترام. ففصل الدين عن الدولة لا يعني حالة تجاهل أو عداء بينهما، بل يقتضي اعترافاً متبادلاً وتضافراً للجهود، مع التكامل على أساس التنسيق والتخطيط المشترك، وصولاً إلى التضامن في سبيل إنماء شامل للشخص البشري وللمجتمع انماءً شاملاً ومتكاملاً. وبمقدار ما يقوم بينهما من تعاون سليم، تكون خدمتهما للجميع أكثر فعالية.  يوجب هذا التعاون على السلطة السياسية أن تدرك ما للدين من دور وواقع. " فالدولة مهما كان لونها ونظامها، ينبغي عليها أن تستنجد بالقيم الروحية، وتستلهمها كمرجع قادر على أن يغذي نسيج المجتمع السريع العطب ويقويه . وعلى الدولة الاعتراف القانوني بهوية الكنيسة، لان رسالتها تشمل كل الواقع البشري. والكنيسة تشعر بأنها متضامنة بعمق مع الجنس البشري وتاريخه . فتطالب بحرية التعبير والتعليم والتبشير بالإنجيل، وحرية العبادة العلنية، وسواها من الحريات العامة .  ويوجب التعاون على الكنيسة أن تعترف بواقع الدولة ونظرتها السليمة إلى الحياة والناس والأشياء، وان تشجع المؤمنين على حسن التعاطي معها، وتدعوهم إلى العمل بإخلاص مع مؤسساتها على قاعدة العدالة والمحبة؛ وان تربي ضمير المواطنين على محبة الوطن وعلى احترام الدولة وأجهزتها ومؤسساتها والمحافظة عليها وتنميتها، والخضوع لقوانينها؛ وان تحثهم على واجب تحمّل المسؤوليات فيها؛ وان تعزز خلقية المجتمع؛ وان تساهم في الخدمة العامة من خلال مؤسساتها الاجتماعية والثقافية والإنمائية. ويوجب التعاون بين السلطة السياسية والكنيسة، عند الحاجة، إبرام اتفاقيات بينهما تحمي حقوق الكنيسة وممتلكاتها ومؤسساتها ورسالتها، ما يضمن العلاقات المتناغمة بينهما، ويجنبّهما الخلافات"[2].

4.   الخير العام والخير الخاص: الأخلاق ليس فقط مسيحية بل هي من صميم الكائن البشري، والإخلال بها أو تجاهلها يعرض الجميع لخطر "التدمير الذاتي" وبالتالي "الجماعي"… وقاعدة "الخير العام" هي القاعدة الأساسية بالنسبة للكنيسة في رؤيتها وتعاونها مع السياسة.

5.   الكنيسة ليست مؤسسة مدنية: الكنيسة هي جسد المسيح السري، هي ملح ونور العالم، هي في العالم وليست من العالم، هي جماعة المؤمنين المدعوين إلى القداسة … الكنيسة في مفهومها الإنجيلي البسيط هي عروس المسيح  (2كورنثوس 2:11) وقد دفع السيد المسيح حياته عربونا لمحبته  "أحب الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها" (أفسس 25:5) ولهذا فهي دائما على حظر من السقوط في تطرفيين الأول: خطورة الغرق في الساسة : إن السياسة لا تخلو من إغراء وحسابات منافع فهي مكان خطر شديد فقلما يتنزه صاحبها عن الشهوة والغرض وعن اتباع قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة"… والمساومة والمنفعة وحسابات القوة ومن ثم فمن طبيعة الكنيسة أن تحترم المسافات وألا "تغرق نفسها أو أولادها" في السياسة بحجة المشاركة الفعالة، لأن هذا سيقودها حتما للعمل بقواعد السياسة والتي في كثير من الأحيان تخالف تعاليمها وإيمانها، ويجعل الآخرين ينظرون إليها كحزب سياسي، ويعاملوها على هذا الأساس… والثاني: خطورة الابتعاد السلبي عن السياسة : اعتبار السياسة شر، والابتعاد عن دائرة القرار ومن ثم فقدان المقدرة على التأثير والشهادة، والوصول للتهميش الذاتي، وإلى الإخلال بحقها في المطالبة بحقوق أولادها ومساعدتهم على بناء عالم أكثر إنسانية….

6.   الكنيسة والأحزاب السياسية: يُبنى موقف الكنيسة من الأحزاب السياسية المتعددة -التي تشكل عنصراً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنها في أي مجتمع ديمقراطي ومتعدد الايدولوجيات- على أسس ومبادئ تنظم علاقة الكنيسة بالدولة بصورة عامة. فالأحزاب السياسية هي مؤسسات مدنية لا تخضع لإدارة الكنيسة. ولهذا فقد تأتي الكثير من المواقف الحزبية والبرامج السياسية غير مبالية ولا تُعير أية أهمية لمبادئ الإيمان والأخلاق المسيحية. ويؤكد المجمع الفاتيكاني الثاني من خلال توجيهاته على أن ضرورة المشاركة في "تنظيم الأمور الأرضية" ويعتبر "اختلاف الرأي شرعياً" (الكنيسة والعالم، مادة 75). ويؤكد أيضاً على أن الاختلاف في وجهات النظر لا يُعطي الحق لأي جهة كانت أن تدعي استحواذها على سلطة الكنيسة: "فلا يحق لأحد أن يدعي استحواذه على سلطة الكنيسة بما يتعلق ورأيه الخاص" (الكنيسة والعالم، مادة 43). ففي مجتمعنا الحالي المُتسم بتعدد الأيديولوجيات، يمكن للكنيسة أن تجد نفسها مُجبرة على تقديم تحفظات معينة وتوجيه انتقادات إلى البرامج السياسية للأحزاب انطلاقا من صفتها كراعية للإيمان وصائنة للأخلاق. تدعو الكنيسةُ الأحزاب إلى أعطاء أعضائها الحرية في الانتماء إليها بحرية ضمير كاملة وعدم إجبارهم على تبني هذا الموقف أو ذاك ما يمكن أن يناقض إيمانهم المسيحي ومبادئهم الأخلاقية.

7.   المسيحي والسياسة: من حق وواجب كل مؤمن مسيحي أن ينخرط بالعمل السياسي لبناء المجتمع والدولة الديمقراطية، ولكن لا يمكن أن يتخلى عن مبادئ إيمانه وأخلاقه المسيحية من اجل معتقد الحزب أو المنظمة أياً كانت عقيدة حزبه ليبرالية أو اشتراكية أو قومية من واجب المسيحي المساهمة في بناء الدولة والمجتمع والاقتصاد على ضوء تعاليم إيمانه. فالمسيحيون، كما يُعلمنا المجمع الفاتيكاني الثاني، مدعون ليكونوا نموذجاً صالحاً من خلال سيرةِ حياتِهم المسئولة والتزامهم بالخير العام للإنسان ويجب عليهم أن "يبرهنوا بالوقائع إمكانية خلق الانسجام بين السلطة والحرية، وبين المبادرة الشخصية والتضامن في المجتمع ككل، وبين الوحدة المنشودة والاختلافية النافعة" (الكنيسة والعالم، مادة 75). ولكن يجب أن نسجل فرقاً مهماً بين تصرف المسيحي كفرد وكمواطن محكوم بواسطة ضميره الأخلاقي، وبين تصرف وسلوك المسيحيين كجماعة باسم الكنيسة في شركة راعيها (الكنيسة والعالم، مادة 76). فما يفعله بعض الأفراد، وان كان مبني من على أُسس ضميرية وأخلاقية، إلا انه لا يمكن أن يكون صوتاً يُعبر عن الكنيسة ككل، فالكنيسة لا يعبر عنها إلا الكنيسة بوحدة رعاتها مع راعيها الأول يسوع المسيح. إن المسيحي مدعو للشهادة لمبادئ إيمانه في كل مجالات الحياة المختلفة: العمل، الوظيفة، الدراسة، السكن والمنظمة… فإذا ما غابت هذه الشهادة عن أفقه، لن تتمكن الكنيسة من ملء المجال الروحي في المجتمع، وعندها يمكن لقوى أخرى أن تتطور وتفرض نفسها وتحاول زعزعة علاقة الكنيسة بالدولة.

8.   الكنيسة الكاثوليكية والتمثيل الدبلوماسي: من أكثر ما يميز العمل الكنسي الكاثوليكي على المستوى العالمي السياسي هو التمثيل الدبلوماسي، فالكنيسة الكاثوليكية هي المؤسسة الدينية الوحيدة التي لها تمثيل دبلوماسي مع أكثر دول العالم. وهو تمثيل يقوم على الكيان الخاص للكنيسة الكاثوليكية وعلى الوضع الخاص المرتبط بدولة الفاتيكان، وباعتبار قداسة البابا رئيسا لهذه الدولة. والكرسي الرسولي لديه علاقات دبلوماسية مع 179 دولة، ومع الاتحاد الأوربي وفرسان مالطة. كما أن لديه علاقات ذات طبيعة خاصة مع روسيا (عن طريق سفير معتمد) ومع منظمة التحرير الوطني الفلسطيني. ومن أجمالي البعثات الدبلوماسية هناك 73 بعثة غير مقيمة (non-residential) وبالتالي فالعدد الفعلي للبعثات المقيمة هو 106، بالإضافة لمشاركة الكرسي الرسولي في أغلب المؤسسات والهيئات العالمية. وعدد الدول التي لا توجد بينها وبين الكرسي الرسولي علاقات دبلوماسية حتى الآن هو 16 دولة (9 دولة إسلامية، 4 دول شيوعية (الصين، وكوريا الشمالية، لواس، وفيتنام)، 2 دولة بوذية). عدد سفراء الكرسي الرسولي حوالي 101 يعاونهم 142 دبلوماسي بالإضافة إلى الموظفين المحليين. وتعتبر الدبلوماسية الفاتيكانية من أعرق وأهم الدبلوماسيات على المستوى العالمي، للتدريب والأعداد الجيد الذي يحظى به دبلوماسيين الكرسي الرسولي حيث يتم اختيارهم من العالم أجمع، وحيث يشترط اجتيازهم لكثير من الاختبارات النفسية والصحية، وأن يكونوا حاصلين على الدكتوراه في إحدى المواد الكنسية، وأن يكون قادرين على إجادة أقله ثلاث لغات. ومن عناصر القوة هو شمولية وضخامة عدد التمثيل الدبلوماسي العالمي من ناحية والتأثير على القرارات العالمية من ناحية أخرى.  

ومن ثمَّ فالكرسي الرسولي، وعلى غرار الدول، يتمتع بحق فاعل وهو حق النيابة البابوية الدبلوماسية أو التمثيل الدبلوماسي الكامل لدى الدول، كما يمارس حقاً غير فاعل وهو استقبال السفراء الذين ترسلهم بلدانهم بمهمة عادية دائمة أو بمهمة استثنائية كسفراء معتمدين لدى الكرسي الرسولي وليس لدى دولة حاضرة الفاتيكان. فدولة حاضرة الفاتيكان، التي أصبحت ذات سيادة تخضع للقانون العام الدولي، هي "قاعدة وحقيقة جغرافية" أنشئت خصيصاً عام 1929  إثر معاهدة اللاتران المبرمة بين الكرسي الرسولي وإيطاليا، بهدف محدد ووحيد هو ضمان استقلال البابا، والسماح للحبر الأعظم بأن يمارس بحرية مهامه في إدارة شؤون الكنيسة العالمية. ومن الجدير بالذكر أنه في نهاية الدول الحبرية (1870) وقبل تأسيس دولة حاضرة الفاتيكان (1929)، استمر الكرسي الرسولي بالمحافظة على علاقات دبلوماسية مع الدول مع ازدياد عدد ممثليه في تلك الفترة من 16 إلى 29. واليوم، أصبح لدى الكرسي الرسولي علاقات دبلوماسية مع أغلبية بلدان العالم.

وبرغم أن مساحة مدينة الفاتيكان 0.44 كلم2 وتضم حوالي 800 شخص، إلا أن الوزن العالمي للكنيسة لا يمكن أن يقارن بأي كيان دولي أخر حيث أن الكنيسة الكاثوليكية والتي يترأسها الحبر الأعظم تجمع أكبر تجمع بشري منظم على وجهة المسكونة (كما سبق وأشرنا بالأرقام). وبالتالي فقوة الدبلوماسية الفاتيكانية تكمن في أولا في "العنصر الإيماني"، فهي دبلوماسية ذات طابع إيماني مسيحي، فولاء الكاثوليكي للحبر الأعظم يقوم على إيمانهم بكونه خليفة القديس بطرس ورأس الكنيسة المنظور..

 إلى جانب ذلك، تعود هذه القوة إلى خبرة الكرسي الرسولي في العلاقات الإنسانية والتي ترجع  إلى 2000 عام من دون توقف حيث صمد في وجه الاجتياحات البربرية، والنازية، والشيوعية، وفي كل مرة، خرج بهدوء أكثر قوة وازدهارا.

الميزة الثالثة للكرسي الرسولي هي أنه ليس لديه مصالح مادية يدافع عنها حيث تترفع أعماله عن أي مصلحة خاصة. ولا تخضع مواقفه للجغرافيا السياسية أو الآجال الانتخابية أو تطور الأسواق. إن دبلوماسيته هي قبل كل شيء "دبلوماسية الإنجيل" وفقاً لما أعلنه المونسنيور دومينيك مامبرتي، أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان للعلاقات مع الدول، خلال أول لقاء له مع السفراء المعتمدين لدى الكرسي الرسولي في 14 نوفمبر 2006. وهذا لا يعني من الناحية أخرى أن الممثلين الدبلوماسيين لدى الكرسي الرسولي غير مهتمين، خلال أداء مهمتهم، بالقضايا الاقتصادية أو التجارية أو المالية، أو بالسياحة، أو بحماية مواطنيهم.

9.   تأثير الكنيسة المحلية على سياسة الدولة: تتكون الكنيسة الكاثوليكية من 23 كنيسة وطقس يجمعهم جميعا نفس الإيمان الكاثوليكي ونفس الرئاسة البابوية الواحدة. ويختلف الدور العالمي للكنيسة الكاثوليكية عن الدور المحلي والمرتبط باتفاقيات وأوضاع تختلف من دولة وأخرى ومن ثقافة لأخرى. والكنيسة المحلية تعمل في السياسة غالبا بطريقة غير مباشرة عن طريق التأثير المجتمعي والمؤسسي وعن طريق الخدمة والتعاون مع الدولة لاسيما في مجال التعليم والصحة ولكن خاصة من خلال أبنائها العاملين في المجال السياسي أو المجالات العامة. وهي غالبا ما تختار نهج عن الظهور الإعلامي أو الفرقعات والتصريحات الصحفية والتي غالبا ما تضطر بالاستقلالية وبالحرية الكنسية، فهي تسعى للتأثير دون فقدان حريتها في التعبير عما يضطر بالخير العام وبالإيمان وبالمعتقدات المسيحية.

 

 

 

\"\"

الأب د. يوأنس لحظي جيد

رئيس تحرير موقع كنيسة الإسكندرية الكاثوليكي

https://coptcatholic.net/index.php

 



[1]  عنوان محاضرة مع الشباب والأطباء الكاثوليك بأسيوط – أكتوبر 2009 وللتعرف بالكاتب: https://coptcatholic.net/section.php?hash=aWQ9MTI3OA%3D%3D

[2] http://www.chahadatouna.com/wordpress/?p=604