مشـيئة الله: الخلاص – 6

 

 

مشـيئة الله (5)

الخلاص

 

     لو سألتك يا إلهي "ما هي مشيئتك؟" لسمعتك تقول لي من خلال الإنجيل المقدّس بأن مشيئتك أن أفرح وأُبدد الخوف من قلبي حين أٌخطأ، لأنك أريتنا كيف تُداس أعدائنا وأعداءك (خطايانا) تحت أقدامنا وتُدفع الى الهاوية فتُطرح للنار وتحترق فلا نرى لها أثراً. مشيئتك أن أعرف أن محبتك الغيورة هي التي أدخلت في قلبي السرور. فمنذ أن خلقت آدم وحواء، خليقة لا تموت ذات قلب نقي شبيه بقلبك القدوس (الحكمة 2: 22-23)، أردت أن تخبرنا بأنه لن يستطيع أحد أن يقف في حظرتك (لا يموت) دون أن يمتلك قلباً مثل قلبك القدوس؛ ولذلك أبعدتهم عن رؤيتك حين أخطأوا إذ لم يُطيعوك وأكلوا من شجرة المعرفة التي جعلتهم يميّزون الخير من الشر، ونحن الآن نُخطأ حين نختار بإرادتنا الشر (الأعمال التي لا ترتضيها وتُدنس إسمك القدوس) ولا نقوم بعمل الخير الواجب علينا القيام به؛ إلا أن محبتك الغيورة عَمِلت على أن لا تبقينا خارجاً لينعم بنا الشيطان في الجحيم (الحكمة 3: 1)، فأرسلتَ لنا إبنك الوحيد، نسل المرأة الذي سحق رأس الشيطان مُسبب الخطيئة (تكوين 3: 15، الحكمة 2: 24))، السيد يسوع المسيح ليكون دالةً على محبتك ورحمتك فيكون هو خلاصنا (1 يوحنا 3: 8).

 

      هذه المحبة التي لم تستطع عقولنا إستيعابها لولا تدبيرك الإلهي منذ البدء، إذ أنك وخلال أجيال عديدة:

1. علَّمتنا بأن علينا أن نُكرِّس لك أنفسنا (تكوين 17: 9-14، يشوع 5: 2-9).

2. علَّمتنا أنك ترتضي ذبيحة الدم أكثر من الذبيحة اللادموية (التكوين 4: 4-5، عطيّة قابيل وهابيل) وبالأخص تطلب ذبيحة دموية من دابة بلا عيب كمحرقة لمغفرة الخطايا وتطلب أيضاً تقدمة خبز (طحين معجون بالزيت) وسكيب خمر كرائحة رضا لك، وكلاهما يعتبران قربان مُحرقةً لك يُقرّب لك مِن قِبل الكهنة عن الشعب (خروج 28 و 29، لاويين 1 و 2).

3. علّمتنا بأنك أنت هو المُدبِّر الذي سيُوفِّر الذبيحة عوضاً عن الأبناء المُحبِّين المُطيعين (تكوين 22: 7-8، 13).

4. علّمتنا بأنك أنت هو الذي يمد يد العون لأبناءه في إخراجهم من عبودية الخطيئة (مزمور 68)، كما أخرجت بني إسرائيل من مصر وأطعمتهم من المن النازل من السماء طيلة فترة سفرهم خلال الصحراء القاحلة وشققت لهم ينابيع مياه في الصخر فأكلوا وشربوا الى أن وصلوا الى أرض الميعاد بعد أن حاربوا العمالقة بمعونتك (خروج 16 و 17).

5. علّمتنا بأنك تكون مع أبناءك لتهديهم في الطريق: في عمود سحاب بالنهار، وفي عمود نار بالليل (خروج 13: 20-22)، وإن مجدك يتجلى في السحاب (خروج 16: 10، 34: 5، مزمور 68).

6. علّمتنا بأن نحتفل على الدوام بذكرى خلاص شعبك والإبقاء على حياتهم (خروج 12: 1-14، 24-27).

7. وعدْتنا بأن تُرسل المُخلِّص الملك وأعطيت الأنبياء بأن يتنبأوا بمجيئه وذِكر الأحداث التي نستدل بها عليه.

 وحين آن الأوان أعطيتنا السيد المسيح الفادي والحمل الذي ذُبح وسُكب دمه على الصليب من أجل مغفرة خطايانا وإحياء أرواحنا المائتة بسبب الخطيئة (أشعياء 53: 2-3، 7)؛ السيد المسيح الذي أعطى في ليلة العشاء الأخير قبل موته جسده المقدّس ودمه الكريم غذاءً روحياً وأصبح هو المن النازل من السماء لسد جوعنا، وماءً حية لإرواء عطشنا؛ السيد المسيح معونتك الإلهية لمقاومة الخطيئة والقضاء على الأرواح الشريرة بمغفرة الخطايا؛ السيد المسيح شمس البر الذي بإحتراقه كان نور العالم وأشعته أعطت شفاءً ودفأً وسلاماً وطمأنينة وقوة للقلوب التي تهابك والتي كانت مُتعبة ومُثقّلة بالخطيئة فأصبحتْ من أبناءك وعمِلت على نشر محبتك والقضاء على الخطيئة في قلوب من لا يهابوك (ملاخي 4: 2-3). أجل فأنت تعلم بأننا لن نستطيع أن نفهم هذه المحبة دون أن نتعلّم أولاً بأن هناك شريعة تتطلب الطاعة وأعمال دنيوية محسوسة وملموسة جسدياً ومن ثُمّ وفي الوقت المناسب نفهم عطاءك الروحي حين تُرسله فنولد من الروح وليس من الجسد (عبرانيين 9: 1-28).

 

   وإذ سألتك يا إلهي: "ولماذا الختان؟"، لسمعتك تقول لي حتى تُعلِّمني بأن بدم الإبن يُفدى الإنسان الخاطىء الذي كُتب له أن يموت نتيجة عدم طاعتك (خروج 4: 24-26)؛ أجل، بدم العهد الجديد، دم الإبن الوحيد يُفتدى الإنسان. أجل لقد أعطيْتنا حريّتنا في الإختيار إلا أن محبتك الغيورة ورأفتك لم تدعنا للهلاك وأردت الخلاص للجميع، جميع من أكرموك وآمنوا بإبنك الوحيد فتابوا وغسلوا خطاياهم بدمه المُقدّس وعملوا على طاعته والعيش من أجله (2 كورنثوس 5: 14-15)؛ إبنك الوحيد: كلمتك التي كانت معك من البدء (يوحنا 1: 1-2). 

 

    سبحانك يا رب، فأنت لا تتغيّر إنما نحن لا نستطيع أن نفهم حكمتك ومعنى القول: "كل شيء يتم في حينه". والآن نحن ننعم بهذه العطيّة السماوية: جسد ودم السيد المسيح، ذاته ولاهوته، بسر القربان المقدّس الذي أصبح لنا تقدمة خبز وخمر وذبيحة مغفرة الخطايا وتقدمة شكر لك، فأرجو أن تتقبلها منا يومياً في القداس الإلهي مقدمةً لك من يد الكاهن عنا جميعاً عربون محبتنا لك كما أنها عربون محبتك لنا. فها أنت تسكن معنا في قدس الأقداس في الكنيسة، وتسكن أيضاً قلوبنا فتكون فينا ونكون فيك. أجل فكما عرفك الرسل الأولين بعد قيامتك المجيدة في كسر الخبز (لوقا 24: 30-31)، كذلك نعرفك نحن (لوقا 22: 19). ولعلنا نفهم الآن القول: "الخطيئة موت والتوبة هي القيامة من بين الأموات وختم التوبة هو جسد ودم السيد المسيح بالقربان المقدس".

 

    وإن سألتك "وماذا عن قوسك في السحاب علامة الميثاق الأبدي مع كل حي على الأرض، أين هو؟" (تكوين 9: 12-17)، لسمعتك تقول لي بأنه السيد المسيح مرفوعاً على الصليب، ومتجلياً على جبل طابور، هو نور العالم، هو قلبك القدوس في القربانة المقدسة، الذي بإيماني يتحول نور ضياءه الوهاج الى قوس قزح كما تنكسر أشعة الشمس من خلال قطرات المطر فتكوِّن قوس قزح وبذلك نرى الجمال الحقيقي للنور ومجده (حزقيال 1: 28، رؤيا 4: 3). ربي وإلهي، كتب أحد الشعراء قصيدةً أسماها "أنت عمري" ومن كلماتها التي أود أن تسمعها يوماً ما من جميع خلقك: "أنت عُمري الذي إبتدأ بنورك صباحه".

 

    سبحانك يا إلهي، حين كان النور ساكناً في الأرض كُنت معنا بعمود السحاب: "السيد يسوع المسيح"، الذي تجلى على جبل طابور كنورٍ تمّ إحتواءه بالسحاب (متى 17: 1-5)، وبعد قيامته إختفى بالسحاب على مرأى من كثيرين وسوف يأتي راكباً السحاب (أعمال الرسل 1: 9-11)، أجل هو أنت الراكب على السحاب كما ذُكر في مزمور 68؛ وبعد أن سادت الظلمة الأرض أتيت وكُنت معنا كألسنة من نار رآها الرسل (أعمال الرسل 2: 1-4)، وما تزال معنا بالرغم من عدم رؤيتنا لك بالقربانة المُقدّسة وفي قلوبنا وستبقى معنا بهذه الهيئة الى أن نرى مجدك بالسحاب.

 

     سبحانك يا رب، فكما أن بإمرأة واحدة "حواء" قد دخلت الإنسانية بالخطيئة فكذلك بإمرأة واحدة "مريم العذراء" عرفت الإنسانية الخلاص، وكما أن بثمر شجرة واحدة إستطاع الشيطان أن يجذب الإنسان الى الخطيئة ويُبعده عنك فكذلك بغرس واحد منك "شجرة الحياة" يتغذى الإنسان ويخلص ويعش معك الى أبد الدهور. أشكرك يا إلهي على غذائي اليومي: (1) كلمتك الحيّة، و (2) المن السماوي خبز الحياة، و (3) إشراكي في العمل على تمجيد إسمك القدوس. ولا عجب أن يُصلّي المرنمون في يوم جمعة العظيمة قائلين لمريم العذراء: "فليكن موت إبنك حياةً لطالبيها".

 

    حين أرسلت إبنك الوحيد أخبرنا: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء؛ أني ما جئتُ لأنقض بل لأُكمّل" (متى 5: 17)، ووعدنا بإرسال الروح القدس معيناً لنا (يوحنا 16: 5-15). وهذا فعلاً ما حدث إذ أصبحتْ الذبيحة المُقدّسة "حمل الله" سبباً بتقديس النفوس المؤمنة بك فوهبتهم قلباً من لحم وروحاً جديدة في داخلهم من أجل إسمك القدوس (حزقيال 36: 16-28)، وبه ألبستهم ثياب الخلاص وسربلتهم برداء البر (أشعياء 61: 1-10، لوقا 4: 18). هذا الفادي الذي نادى بالتوبة وبشّر بملكوت الله مبتِدأً بالمعمودية بالماء للتوبة/شفاء الروح (متى3: 13-15، لوقا 3: 21-22، الملوك الثاني 5: 1-19، إغتسال فلك نوح بالطوفان) ليس لأنه به خطيئة فهو صالح (فهو الله المتجسد وليس بأحدٍ صالح غير الله) بل لأنه إبن البشر/الإنسان (يوحنا 3: 13، متى 9: 6)، آية منك لبني آدم، وما يفعله سوف يكون لأتباعه (حزقيال 12: 1-11) فهذه هي مشيئتك (متى 3: 15-17)، ثم بالتثبيت بمسحة من الله (دهن مسحة مقدّسة في العهد القديم (خروج 30: 22-33)) أي بالمعمودية بالروح التي تُكرِّس الإنسان لك فيحلّ عليه الروح القدس ويُصبح من أبناءك (متى 3: 16-17)، ثم بالمعمودية بالدم باذلاً ذاته عنا (لوقا 12: 50) حيث مات على الصليب حاملاً خطايانا بين جراحه وغاسلاً إياها بدمه الكريم الذي نزل على كافة جسمه من أعلى رأسه حيث إكليل الشوك الى أخمص قدميه حيث المسامير كما سال الماء على جسده حين تعمّد بنهر الأردن، وأخيراً بالقيامة من بين الأموات ودخول الملكوت السماوي؛ وبقيامة إبن الإنسان شهادةً لقيامتنا. وبعد قيامته أرسلت روحك القدوس المُعزي الذي من خلاله أصبحت تُقام الشعائر والطقوس والأسرار بإسم الآب والإبن والروح القدس (متى 28: 19، لوقا 24: 46-49): المعمودية، التثبيت، تقدمة الذبيحة (الإفخارستيا)، التوبة والإعتراف بالخطايا للكاهن (عدد 5: 5-31، متى 16: 19)، مسحة المرضى (مزمور 92: 10، مرقس 6: 13)، الزواج (تكوين 1: 28، 2: 24)، الكهنوت (خروج 28: 1). المعمودية التي تشبه بشارة الملاك جبرائيل لأمنا مريم العذراء بحَمَلِها بيسوع "الله معنا" (لوقا 1: 26-33)، ويأتي من بعدها التثبيت بالميرون كقول مريم العذراء "أنا أمةُ الرب، فليكن لي بحسب قولك"، فتُظللنا قدرتك ويأتي الروح القدس ليسكن قلبنا (لوقا 1: 35، 38)، فتبدأ معرفتنا بك كجنين لا يفقه شيئاً سوى وجوده، ويبدأ هذا الجنين بالنمو بمعونة الذين من حوله (الكنيسة والعائلة) الى أن يولد ويرى النور في المناولة الأولى للقربانة المُقدّسة. وتستمر هذه المعرفة ومحبتك في القلب بالنمو بالتوبة والإعتراف بالخطأ والندم والتغذي بالغذاء الروحي الى أن يمتلأ القلب بمحبتك فيشابه قلبك القدوس بقداسته وبذل الذات لمجدك ومحبةً بالآخرين ويكون مرآة لك أمام الآخرين بالقول والفعل. ولعلنا لا نُدرك مدى محبتك لنا إلى أن نُصبح آباء وأمهات تُحب أبنائها وتعمل ما بوسعها على إسعادهم.

 

      والآن يا إلهي لو سألتك "ماذا يحزنُك أكثر: أن ترى قلب إبنٍ (حمَلتَه على منكبيك) لا ينكسر على دموع والدته وقلبٌ آخر لا يتكلَّم مع قريبه، فيرُدَّ الإساءة بعدم المغفرة وإحساناتك بنكران الجميل، أم قلبٍ قاسٍ لا يعرِفُك ويجهل رحمتك فيعْبُدَ غيرك؟ لقد سمِعتُ بأنّ في هذا الزمان أُمهات كثيرات يُعانين من إبتعاد أبنائهن وبناتهن عنهن وعن مائدتك وقلوبهن تفطَّرت من الألم، فهل يا تُرى أيتَفطَّر قلبُك يا إلهي لإبتعادنا عنك؟؟"  سامحنا يا رب وأَعِن قلة إيماننا وأخْلِقنا من جديد والشكر لك على الدوام.

 

مزمور 96:

أنشدوا للرب نشيداً جديداً هليلويا. أنشدوا للرب يا ساكني الأرض جميعاً.

أنشدوا للرب وباركوا إسمهُ. بشروا بخلاصه يوماً فيوماً.

أعلنوا مجده بين الأمم، وعجائبه بين الشعوب كلها.

فإن الرب عظيمٌ وجديرٌ بكل حمدٍ، هو مرهوب أكثر جداً من جميع الآلهة.

لأن كل آلهة الشعوب أصنام باطلةٌ أما الرب فهو صانع السماوات.

الجلال والبهاءُ أمامه، القوة والجمال في مقدسه.

قدِّموا للرب يا جميع قبائل الشعوب، قدّموا للرب مجداً وقوةً.

قدِّموا للرب المجد الواجب لإسمه.

أحضروا تقدمةً وأدخلوا هيكله وأعبدوه، أسجدوا للرب بزينةٍ مقدّسةٍ.

أرتعدوا أمامه يا جميع ساكني الأرض. نادوا بين الأمم أن الرب قد ملك.

هوذا الأرض قد إستقرّت مطمئنة لأنه يدين الشعوب بالإنصاف.

لتفرح السماوات ولتبتهج الأرض وليهدر البحر بهجةً بأمواجه وبكل ما يحويه.

ليتهلل الحقل وكلّ ما فيه.

فتترنّم فرحاً جميع أشجار الغابة في حضرة الرب لأنه آتٍ ليدين العالم بالعدل والشعوب بالحق.

 

 

بقلم نيران إسكندر