البابا لم يخضع لضغوط اليهود

جريدة المستقبل اللبنانية

أعلن، في نهاية الشهر الفائت، البابا بندكتس الـ16، اثنين ممن سبقوه الى السدة البابوية "مكرّمين"، أحدهما يتمتع بشعبية كبيرة جدا هو يوحنا بولس الثاني، والآخر يثير موضوع تطويبه جدلاً بسبب صمته حيال محرقة اليهود هو بيوس الثاني عشر.

وشكل توقيع البابا مرسوم اعلان "بطولة فضائل" سلفه بيوس الثاني عشر، وهي الخطوة الاخيرة التي تسبق إعلانه "طوباوياً" ومن ثم "قديساً"، مفاجأة لدى الجميع.

ويأخذ عدد من المؤرخين وقسم كبير من اليهود على بيوس الثاني عشر، التزامه الصمت حيال المحرقة التي ارتكبها النازيون في حق اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. الا ان البابا الالماني بندكتس الـ16، واسمه الاصلي يوزف راتزينغر، الذي كان مراهقا خلال النازية، دافع في مناسبات عدة عن بيوس الثاني عشر.

وكان الاب غومبل "وكيل" دعوى تطويب البابا بيوس الثاني عشر (محامي الدفاع عن الدعوى) أعلن في حزيران، بعد شهر على زيارة بينيديكتوس الـ16 للاراضي المقدسة في ايار، ان البابا يتخوف في حال المضي قدما في هذا الملف من تقويض العلاقات الكاثوليكية اليهودية.

ففي الخطوة التي قام بها مؤخراً بابا روما يكون قد تصدّى لضغوطات اليهود لابتزازهم. لكن، ما هي الحقيقة في ما يتعلّق بما يشاع عن "صمت" البابا بيوس الثاني عشر حيال "محرقة" اليهود؟

نعود إلى ما يذكره مؤرخون كاثوليك مرموقون حول "ما فعله البابا بيوس الثاني عشر لليهود" وحول "ما لم يفعله"…

وجب على موسوليني، حليف هتلر، أن يطبِّق في ايطاليا وفي المناطق التي تحتلها (جنوب فرنسا الشرقي، واليونان ويوغسلافيا) تشريعاً يعادي الساميّين. في الواقع، لم يطبَّق هذا التشريع إلاّ برخاوة، ولكنه طُبّق. وهذا ما وفّر لبيوس الثاني عشر، بابا روما، فرصة التدخّل بشتى الأشكال لمصلحة اليهود الإيطاليين أو اليهود الأجانب -عدّة عشرات من الألوف- اللاجئين إلى ايطاليا. ولم يكتفِ بعد الخوف من الاحتجاج رسمياً لدى موسوليني، ومن التذكير، في مواعظه، بكرامة الشعب اليهودي، بل اتّخذ الإجراءات الدقيقة والفعّالة التي من شأنها أن تُنقذ أكبر عدد ممكن من المضطهَدين: بتوفير ملجأ في الفاتيكان نفسه أو في أديرة دُعي الأساقفة الإيطاليون إلى استخدامها لإيواء اليهود المضطهدين، وإمداد عدة ألوف من اليهود بجوازات سفر وتأشيرات، إلى جانب الإسعافات المادية، وتنظيم الهجرة إلى البرازيل… وفي تشرين الثاني 1942، حين اجتاح الألمان المنطقة الفرنسية التي يحتلها الإيطاليون، حيث يعيش خمسون ألف يهودي، قبل بيوس الثاني عشر بأن يسهِّل ترحيل اليهود الإسبان ويطلب إلى الحكومة الإيطالية إذن مرور بإيطاليا لليهود الفرنسيين الذين كانوا في المنطقة الإيطالية سابقاً. لا بل وُضعت خطة نقل أولئك اليهود إلى أفريقيا الشمالية: فكانت أربع سفن قد استؤجرت حين تلاشى المشروع بسبب الهدنة الإيطالية، في 8 أيلول 1943.

تكفي الإشارة إلى بعض تدخلات البابا الأخرى: احتجاجاته الكثيرة لدى الحكومة السلوفاكية، التي تبنّت جميع قوانين نورِنبِرْغ العرقية وطبّقتها تطبيقاً وحشياً منذ 9 أيلول 1941، ومَنح 15،000 جواز تنقُّل أو رسائل حماية بابوية في المجر.

أما في ما يتعلّق بما لم يفعله البابا بيوس الثاني عشر فإننا ننقل ما ذكره بيار بيارار الأستاذ في المعهد الكاثوليكي في باريس: بما أن بيوس الثاني عشر كان أعلى سلطة أدبية في هذه الدنيا، يوم كان الوحش النازي يلتهم أبناء ابراهيم، لماذا لم يُعلن، على المَلأ، أن هذا الوحش هو مسخ وأن ضحاياه هي رجال ونساء وأولاد لهم الحقّ، لا في الحياة فحسب، بل في الكرامة التامة أيضاً؟

عن هذا السؤال الأليم، لا يمكن أحد ولا يحق لأحد أن يأتي بجواب صريح متَّهِم. فإن بيوس الثاني عشر أخذ سرّه معه إلى الموت، إلاّ إذا كان مخفيّاً في قعر بعض المحفوظات التي لم تُستغلّ.

كان بيوس الثاني عشر ديبلوماسياً أكثر ممّا كان نبيّاً، ففضّل الحل الوسط على الالتزام المتسرّع، مع أنه لا غبار على شجاعته الشخصية: فحين فكّر هتلر، سنة 1943، بعد الهدنة الإيطالية، في احتلال حاضرة الفاتيكان، كان بيوس الثاني عشر مستعداً ليعاني الاعتقال والنفي.

ويستند البابا في موقفه الى وثائق من الارشيف الفاتيكاني (لا تزال سرية ويجري تصنيفها)، وهو مقتنع بأن بيوس الثاني عشر أنقذ أرواحا كثرا من اليهود في اوروبا عبر السماح لهم بالاختباء في مؤسسات دينية في روما والخارج، وقد التزم الهدوء لتفادي تفاقم أوضاعهم.

أما في ما خص دعوى تطويب البابا يوحنا بولس الثاني، وبعدما قرر مجمع دعاوى القديسين في 17 تشرين الثاني اعلان "بطولة فضائل" كارول فويتيلا، وقّع البابا بندكتس مرسوم اعلان البابا البولوني (1978-2005) "مكرما".

وبذلك تكون دعوى تطويب يوحنا بولس الثاني انتقلت الى مرحلة امكان اعلانه طوباويا، وهو امر توقعت الصحف الايطالية حصوله السنة المقبلة. وكان البابا وافق على فتح دعوى تطويب يوحنا بولس الثاني بعد شهرين فقط على رحيله، وهي مدة زمنية قياسية لا يجيزها القانون الذي يشترط مرور خمس سنوات على الاقل على الوفاة، ولكنها تمت بإرادة بابوية على رغم ان هذا الأمر أثار حفيظة كثيرين حتى داخل الكنيسة.

ولإعلان قديس في الكنيسة الكاثوليكية، لا بدّ أولا من إعلانه "مكرما" إما بسبب "بطولة فضائله" وإما بسبب "استشهاد خادم الله" (في حال قضى "شهيدا")، ومن ثم اعلانه "طوباويا" اذا ثبت حصول "معجزة" بفضل شفاعته، وثالثا إعلانه قديسا اذا ثبت حصول "معجزة" بفضل شفاعته بعد إعلانه طوباويا.

ويوحنا بولس الثاني هو صاحب الرقم القياسي بين جميع باباوات الكنيسة الكاثوليكية لجهة عدد من أعلنهم طوباويين وقديسين، إذ انه أعلن خلال سدته البابوية 482 قديساً و1338 طوباوياً.