الوثيقة الفاتيكانية ومصائر مسيحيي الشرق

 

رضوان السيد-الاتحاد الإماراتية

 

يبلغ عدد المسيحيين في المشرق العربي والإسلامي زهاء السبعة عشر مليوناً، بينهم خمسة ملايين من الكاثوليك، أما الأقباط الموجودون في مصر وهم الأكثرية فعددهم عشرة ملايين من المجموع العام. وقد جاء هذا الإحصاء في وثيقة تمهيدية أعدتها لجنة فاتيكانية في نطاق التحضير للمجمع الذي يقيمه الكاثوليك في أكتوبر القادم، والذي يدرس فيه أوضاع مسيحيي الشرق ومصائرهم، ويصدر توصيات بشأن مستقبلهم. والجديد في هذه الوثيقة أمران: اعتبارها أن المسيحية الشرقية في خطر، وأن عِلل هذا الخطر: النزاع العربي -الإسرائيلي، وصعود الأصوليات الإسلامية. فالشعوب العربية والإيرانية والتركية تميل في العقود الأخيرة -بحسب التقرير- إلى انتهاج أسلوب تفكير وعيش أكثر تلاؤماً مع معتقداتها الدينية. ونتيجة لذلك يتضاءل تسامحها تجاه الآخرين من غير المسلمين. ويضاف لذلك ظهور تيارات متشددة يتجاوز تصرفها الضِيقَ بالآخرين إلى ممارسة العنف ضدهم. ولا يرى كاتبو التقرير أو الوثيقة التمهيدية سبيلاً للخروج من هذه الحالة إلا بالتعاون مع النخب الدينية والثقافية والسياسية من المسلمين والمسيحيين. ويعترف هؤلاء أن هناك كثيرا من المسلمين يشاركون المسيحيين همومهم، ولا يقبلون بتعرضهم للاضطهاد. لكنهم يحمِّلون السلطات السياسية مسؤوليات بهذا الصدد. كما يشيرون إلى مسؤولية المسيحيين في أمرين: الانعزال عن المجتمع المدني (الإسلامي) وعدم الميل للمشاركة العامة (وبخاصة الأقباط)، والانقسامات المذهبية والسياسية في صفوفهم (وبخاصة في لبنان).

 

على أن اللافت في الاستعراض والتحليل الذي يقدمه التقرير هو الأمر الآخر المتعلق بالنزاع على فلسطين منذ ستة عقود، وتأثيراته السلبية على المسيحيين المشارقة. فإسرائيل قامت على أرض فلسطين منذ عام 1948، وما تزال تحتل أراضي في سوريا ولبنان. وقد أثر ذلك في أوضاع المسيحيين سلباً ومن عدة نواحٍ: ارتباط إسرائيل بالغربين الأوروبي والأميركي، واعتبار المسلمين أن الغرب (المسيحي) هو الذي يدعم استمرار احتلالها لأراضي العرب والمسلمين، وضغط إسرائيل على المسيحيين بشكل مباشر في فلسطين بحيث اضطر كثيرون للهجرة. واستمرار الاحتلال والعنف من جانب إسرائيل، ومن جانب الغرب (الأميركي) في منطقة الشرق الأوسط. ومن المعروف أن وضع المسيحيين بالعراق ساء كثيراً بعد الاحتلال الأميركي للبلاد عام 2003. وإذا كان كاتبو التقرير قد قدموا حلولاً اعتبروها عملية واستراتيجية لمواجهة الأصولية الإسلامية، فإنهم فيما يتعلق بالنزاع على فلسطين، ما اتسموا بالصراحة والمباشرة نفسها. طالبوا طبعاً بإزالة الاحتلال للأراضي العربية، لكنهم انصرفوا بعد ذلك للتبرؤ من السياسات الغربية عبر القول إن الغربيين العنيفين هم علمانيون ولا تحركهم دوافع دينية مسيحية. وقد تطلعوا إلى التنويريين العرب، مسلمين ومسيحيين، لإقناع المتشددين بذلك حتى لا يظل حديث "الحروب الصليبية" الجديدة منتشراً في أوساط العامة!

 

يتميز تقرير الفاتيكان الجديد بأنه شفاف وواضح، بغض النظر عن مدى سلامة العرض، وسلامة النتائج التي توصل إليها. وستتلوه بالطبع تقارير ووثائق أخرى، تُقدَّم في النهاية إلى "السينودس" (المجمع) في أكتوبر القادم. والسينودس ووثائقه التمهيدية تعبيرات عن الحيوية الكاثوليكية الجديدة في منطقتنا وفي العالم. وكنت مثل كثيرين، قد عبّرت في عام 2006 عن الاستنكار لمحاضرة البابا الجديد وقتها والتي ألقاها في جامعة رغنسبورغ بألمانيا، وتعرّض فيها للإسلام الذي وسمه بسمتين: اللاعقلانية والعنف. بيد أن الإسلام يومها ما كان هماً من همومه الرئيسية، بل انصبّت محاضرته على دعوة أوروبا للعودة إلى المسيحية، والمسيحية الكاثوليكية بالتحديد. وفي وعيه آنذاك أن الخصمين الرئيسيين الحاضرين في المنافسة على أوروبا هما: العلمانية والبروتستانتية. ولكلا الخصمين تاريخ طويل في وعيه وتصرفاته منذ ستينيات القرن العشرين. وقد اختار في المحاضرة السالفة الذكر أن يطلب ودّ العلمانيين، وأن يصر على مقارعة المقاربة البروتستانتية للمسيحية. وإذا تذكرنا أن البروتستانتيات الجديدة في إدارة بوش، كانت في مواقع الهجوم من موقع الأوحدية القطبية، ندرك أنه كانت لهذا التصور البابوي شعبيته لدى الأوروبيين الذين لن يعودوا إلى الكثلكة، لكنهم غير مرتاحين للأوحدية الأميركية. وقد تطورت الأمور منذ ذلك الحين، بحيث برزت حيثية أوروبية بالفعل وفي السياسة بالطبع أكثر مما هو في الدين. وقد لاقاها الرئيس أباما في منتصف الطريق، وسلّم بمشاركتها في عدة ملفات مثل مسائل المناخ، والأزمة المالية والعالمية، والتجاذب بشأن النووي، والضغط للدخول في مفاوضات بشأن سلام الشرق الأوسط. وقد انتظم الفاتيكان في سياق الحيوية الأوروبية الجديدة، وربما نسّق وينسّق أيضاً مع الأوروبيين الكبار في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وأخيراً ألمانيا. وقبل شهرين قاد الكاثوليك المسيحيين الفلسطينيين الآخرين في إصدار وثيقة مسيحية عربية بشأن أهمية القدس للمسيحيين. وكما يقول التقرير الذي نحن بصدد مناقشته: فإن أهم مَواطن الملايين الخمسة من المسيحيين الكاثوليك بمنطقتنا هي فلسطين ولبنان وسوريا، وللقدس رمزيتها باعتبارها موطنَ المسيح والمسيحيين الأوائل، وللبنان رمزيته باعتبار أن رئيسه هو الرئيس المسيحي (الكاثوليكي) الوحيد في العالم العربي. ولذا يذكر التقرير أن المسيحية إن ضاعت (بالهجرة والتهميش) من القدس ومن لبنان، فذلك يشكل خسارة كبرى لجهتين: ضياع أصل المسيحية، وضياع الوجود الإنساني المسيحي المؤثر بالمشرق. لذلك فإن الحيوية الكاثوليكية الجديدة أو المتجددة (بعد مبادرات يوحنا بولس الثاني)، تهدف إلى تثبيت الوجود المسيحي وتنميته في منطقتنا عن طريق تجديد فعالية المسيحيين في الشراكة مع المسلمين في سائر المجالات الحياتية، وعن طريق العمل على إزالة العوائق والعراقيل أمام المسيحية في القدس وغيرها، بحلّ النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، وأخيراً عن طريق التأثير في السياسات الدولية التي كانت سلبياتها في العقود الأخيرة بين عوامل إضعاف المسيحيين وتهميشهم أو تهجيرهم.

 

إن هذه الأهداف والوسائل جميعاً هي أهداف مشروعة، وما أثارت حساسية أحد من المسلمين. بل إن قيادات دينية إسلامية رحبت بنشاطات الفاتيكان الجديدة، واعتبرتها عاملاً مساعداً في الضغط على إسرائيل للجلاء عن القدس وأماكنها المقدسة. لكن الذي يجب التنبُّه له من جانبنا هو العوامل المتغيرة والداخلة على طبيعة الصراع. فالبابا يعتبر الصراع صراعاً بين الديانات الثلاث المسيحية واليهودية والإسلام. ولذا فإنه يدعو في التقرير ذاته إلى تحسين العلاقات مع اليهود (ومع إسرائيل) كما مع الإسلام. فالشريك الطبيعي للمسيحية في نطاق الديانات الإبراهيمية إنما هو اليهودية والإسلام. ولذا يذكر التقرير إيران وتركيا، ولا يردُ فيه ذكْرٌ للعرب بل للمسلمين.

 

والواقع أن هذا التطور في إدراك طبيعة الصراع بدأ عندنا بصعود حركات المقاومة الإسلامية، وتضاؤل نفوذ الحركات القومية. ولذا فمن الطبيعي أن تقابل الدولة الإسلامية: الدولة اليهودية، وأن يرتفع اعتبار المقدسات المسيحية في القدس، كما المقدسات اليهودية والإسلامية. فبحسب هذا الإدراك انتهى الصراع "القومي" في فلسطين وبقي خلاف على الحدود. وبؤرة الصراع الآن في القدس على كنيسة القيامة والأقصى، ومكان الهيكل المفترض، وهي مساحة لا تتجاوز بضعة كيلومترات.

 

والفاتيكان يرى، وكثيرون من السياسيين الغربيين، أن الاشتباك بين القوميتين (الصهيونية والفلسطينية/العربية) قد انتهي بأوسلو، والشرق الأوسط اليوم (ومن ضمنه فلسطين) في حالة اشتباك بين الديانات الثلاث التاريخية بالمنطقة. وبصون المقدسات في مجمع الديانات (القدس)، يصبح الاشتباك تعاوناً ما دامت مقدسات كل طرف محفوظة.

 

وبالطبع يهتم الفاتيكان للمسيحيين الذين يريدهم أن يبقوا ويعمروا مواطن القداسة وصروحها. ولا خلاف على ضرورة بقاء المسيحيين وازدهارهم في بلادهم ومواطنهم الأصلية. لكن الذي ينبغي التنبه له أن طبيعة الصراع تتغير ليكون صراعاً أو حواراً وسلاماً بين أديان وليس بين شعوب.