(يوحنا 2/1-12)
الأب انطونيوس مقار إبراهيم
راعي الأقباط الكاثوليك في لبنان
يقدّم لنا القديس يوحنا الإنجيلي في هذا الفصل بدء ظهور المسيح العلني في حفل عُرس قانا فيقول "وفي اليوم الثالث" جاء إلى قانا الجليل. يشير الكثير من مفسري الكتاب المقدس إلى أنّ اليوم الثالث هو القيامة، فالمسيح أعلن ذاته كعريس يُفرح عروسه الكنيسة. القيامة هي سر فرحنا. والقيامة الآن هي لنا قيامة من موت الخطيئة بقوة المسيح القائل " أين شوكتك يا موت وأين غلبتك يا هاوية". تعتبر الكنيسة القبطية دخول يسوع إلى قانا الجليل ومشاركته العرس بمثابة عيد يُعدّ من أعياد الظهور الإلهي على مثال عيد الميلاد وعيد الغطاس وفي هذا الإطار، أشار القديس ايبفانيوس أسقف قبرص في العام 315-403م إلى أن الكنيسة تولي عناية خاصة بهذا الحدث الفريد وتعيّد له فيقول :
"تقيم الكنيسة القبطية عيد عُرس قانا الجليل في 11 طوبة (مع عيد الغطاس) حيث يعتقد الشعب بإمكانية تحوُّل مياه الينابيع ومياه النيل بحسب الإيمان الطيب الصادق إلى خمر، كذكرى سنوية لمعجزة المسيح حيث حوّل فيه الماء إلى خمر، أي إعادة بهجة الخلاص والفرح لمن فقدها فالخمر تشير إلى الفرح. و لكي نفرح ببهجة الخلاص التي يعطيها المسيح علينا أن نبذل الجهد كلّه في سعينا لنتطهّر حتى يسكب نعمته فينا ونفرح."
أحداث بارزة في النص :
المكان والإمكانيات:
قانا الجليل : هي قرية صغيرة تبعد ستة أميال شمال شرق الناصرة، أي هي على بُعد ساعتين مشياً على الأقدام.
أما عن الإمكانيات فخمر غير كاف وماء وستة أجران والهدف منها التطهير على مدى ستة أيام الأسبوع واليوم السابع(السبت) يوم راحة. فرغت هذه الأجران من الخمر ولكن المسيح ملأها لأنه هو الملء الكامل لكل ما ينقص من حياتنا"ومن ملئه أخذنا نعمة فوق كل نعمة" لذا الكثرة والفيض والملء هنا إنما إشارة إلى فرح الروح وبهجة الحضور مع الرب.
الأشخاص:
العذراء مريم : كانت أم يسوع. لم يقلّل يوحنا أبداً من مكانة العذراء مريم في الحدث ولكنه يتخذ منهجًا فكريًّا وروحيًّا لدورها ذي الأهمية القصوى في حدث الخلاص وهنا يراها الإنجيلي يوحنا كنبية تتوسط بين عهدين وتتوسط بين عريسين الأول هو صاحب الحفل والثاني ابنها العريس السماوي. تتضح لنا من النص الصلة العميقة التي كانت تربط بين مريم وأهل العرس فنراها سبقت المسيح في الحضور منذ بداية العُرس (مدته 7 أيام). كما نراها قريبة من أهل منهم لذا علمت بما ينقصهم فقالت بأنه ليس لديهم خمر.. التلاميذ:يسوع تطلب منه ليتدخل ويعيد الفرح إلى العروسين.
التلاميذ : من الواضح أنّ العدد لم يكن قد اكتمل بعد ولم يبلغ 12 تلميذًا ولكن يسوع حضر هو ومن معه من التلاميذ ليظهر أنهم هم الوجه الآخر من حفلة عُرسه (عرس الحمل).
رئيس المتكأ: ربما يكون وحسب العادات الشرقية القديمة هو راعي الحفل أو المتعهد أي المتبرع بتحمل المصاريف وفي اغلب الأحيان يكون هو من أقارب العريس، يتمتع بمكانة مرموقة ورفيعة المستوى وسط أهله وله تأثير فعال في تنظيم سير الأمور ولربّما كان هو من يتمم مراسم الزواج. لذا كانت له الكرامة الأولى التي اعترف له بها المسيح لمّا أمر الخدم أن يقدّموا له الخمر أوّلاً. ولكنّ المسيح بعمله هذا بالضبط، أشار إلى أنّه هو نفسه ربّ البيت و المدعوّون كافّة وأهل العرس هم أولاده و بالمعنى اللاهوتي العميق هو العريس الإلهي.
الخدم: قالت لهم العذراء بكل ثقة افعلوا ما يأمركم به. هم صورة لما تنظّمه الكنيسة اليوم في عملها الليتورجي والطقسي، يأخذون هنا دور خدام الطقوس والأسرار الذين يختارهم المسيح لخدمة القربان الخمر الحقيقي جسده ودمه.
ماذا يقول لنا المثل اليوم:
1-إرادة الله أن نفرح "أراكم فتفرح قلوبكم" (يو22:16). وهذا ما قاله بولس الرسول "افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضاً افرحوا" (في4:4). وقد أتى المسيح من أجل هذا.
2- فرح المؤمنين بالمسيح فرح المسيح بهم. فالمسيح هو العريس الحقيقي لعُرس قانا الجليل يبحث عن الإنسان لكي يعطيه خمر الحب والفرح.فكلنا مدعوُّون لعشاء عُرس الخروف لنصير جميعاً جسداً واحداً للعريس الواحد، كلنا مدعوُّون لسرِّ الإفخارستيا كي نصير كياناً واحداً قادراً على التغيير أي النمو الروحي.فقط، علينا أن نسلك طريق الحياة، أن نفعل كل ما يقوله المسيح لنا:"وقال لي: اكتُب طوبى للمدعوِّين إلى عشاء عُرْس الخروف".(رؤ 19: 9)
3- فرح الكنيسة بالعريس وفرح المسيح بكنيسته عَبَّرَ عنه النبي. "فكما يتزوّج الشاب بكرًا، كذلك يتزوّجونك وكسرور العريس بالعروس، يفرح بك الربّ إلهك".(إش5:62).
4_ فرح بني الملكوت بخمر بهجة الخلاص المختلف عن خمر أفراح العالم التي شربوها من قبل.
5- اخذ المسيح معه ستة أشِخاص من تلاميذه أربع يحملون أسماء يهودية واثنان أسماء يونانية وفي هذا جعل الاثنين واحداً، أي إنه أتى ليعطي الفرح للجميع
6_ قَدَّس المسيح الزواج بحضوره العرس ، ليؤكد لنا أنه معنا في ظروف حياتنا بكل ما تحمله من أفراح وأحزان وآلام. هو يقدّس حياتنا ويعزينا في آلامنا وضيقاتنا كما أنه يشجعنا في ضعفنا.
7_ يدعونا المسيح إلى عيش الانفتاح الكامل والشامل على جميع الناس، ومشاركتهم أفراحهم وضيقاتهم بقلب محبّ رقيق.
8_ الثقة في أنه هو المدبّر والمعين والملجأ لنا في أمورنا الحياتية والمعيشية كلّها هو وحده الفرح الدائم والذي لا يمكنه إلاّ أن يكون هكذا. فلنقارن مثلاً عمل المسيح هذا حيث حولّ الماء إلى خمر فرفع حالة البؤس والحزن عن أهل العريس وبين فرح هيرودس الملك الذي شرب الخمر فسكر والنتيجة تحول فرح هيرودس إلى مأتم .
9_ بارك المسيح الخبز ليشبع الجموع وحوّل الماء إلى خمر ليفرح الناس. وفي هذا إشارة إلى الخبز والخمر اللذين كانا سبب بركة للعالم بأسره حين حَوّلهما إلى جسده ودمه ليكونا سبب حياة.
10_ حَوَّل المسيح الماء إلى خمر في العرس وفي ليلة العشاء السري حوّل الخمر إلى دمه ليكون علامة الشركة معه.
ختاماً نقول :
عرس قانا الجليل بالنسبة لنا هو حياتنا الجديدة، هو مصدر الفرح الحقيقي والدائم، حيث ينبع فرحنا باستمرار من ”صوت العريس“، عندما يأمر كل يوم أن يتحوَّل ماؤنا ودموعنا إلى خمر جيد، ليس في أجران متسعة، ولكن في ”كأس“، لأن الشبع والملء هما الآن على مستوى السر والروح.كما يمكننا القول إنّ المسيح هو مجدنا الدائم في حالة الفرح وحالة الحزن ولا يمكن أن نفصل بين مجده في الفرح ومجده في الآلام لأن في هذا يتمجَّد وبذلك يتمجَّد. لأنه في عرس قانا أظهر مجده، وفي أحزان بيت عنيا تمجد وعلى الصليب أكمل مجده!!
لقد بدأ المسيح رسالته المسيَّانية بعُرْس قانا الجليل، ولن ينتهي هذا العُرس، ولن تنتهي رسالته إلاَّ بالعُرس السماوي الأخير الكبير الذي أخبر عنه إشعياء، والذي فيه أيضاً تُقدَّم ”الخمر الجديدة“: «ويصنع رب الجنود لجميع الشعوب في هذا الجيل وليمة سمائن، وليمة خمر…» (إش 25: 6).
الكنيسة في كل يوم أحد هي في حفلة عُرس، وكأنها تقيم في قانا الجليل!
مع تمنّياتي بأيّام مباركة ملؤها المجد والفرح الدائم في المسيح.