مولد اسحق وطرد اسماعيل
بقلم الأب هاني باخوم
روما، الثلاثاء 23 فبراير 2010 (zenit.org).
… تحقق الوعد. ولِدَ اسحق بعد طول انتظار. ابراهيم رأى خلاص الرّبّ، رأى قدرته، رآه يُخرج حياةً من احشاء امراته العاقر والميتة. فالابن هو علامة على قدرة الله الذي يقيم من الموت حياةً. ابراهيم يسمي ابنه "اسحق"، ومعناه بالعبرية "ضَحِك، ابتهاج، فرح". فالانسان امام عمل الله لا يجد امامه سوى الابتهاج والفرح. الفرح الحقيقي الذي ينبع من رؤية عمل الله في حياته، وقدرته وسلطانه على موته. هذا الفرح هو اكبر واعمق من اي فرح آخر، يستطيع ان يقدّمه العالم وما فيه. "جعلت في قلبي سروراً اعظم من سرورهم، حين تكثِّر حنطتهم ونبيذهم" (مز 4: 8). اي ان الفرح الذي يختبره الانسان عندما يرى خلاص الرّبّ هو اكبر من الفرح الذي تعطيه كثرة النّبيذ والحنطة، والذي هو فرح ناتج عن ضمان المستقبل المُؤّمَّن من الخيرات، ولكنّه لا يعطي ضمان عدم الموت. خلاص الرّبّ يعطي هذا الضّمان، هذا التّأكيد، بانّه لن يترك عبده يرى الفساد. هذا هو فرح داود عندما يقول "اردد لي فرح خلاصك" (مز 51: 12).
وُلِدَ اسحق، فابتهج ابراهيم وسماه "ضحك وفرح". وكَبُِرَ الولد وبدأ يتنعّم في بيت ابيه، وابوه يتنعّم به. لكن سارة ترى اسماعيل "يلعب" مع اسحق فتغضب وتطلب من ابراهيم ان يطرد هاجر مع ابنها. فيغضب ابراهيم من هذا الطّلب، ولكنّ الرّبّ يظهر ويقول له افعل ما قالته لك امرأتك، وانا سوف ارعى اسماعيل وامّه.
غريب هذا الامر، سارة تطلب من ابراهيم ان يطرد اسماعيل وامّه: لماذا؟ ابسبب الغيرة؟ ام بسبب خوفها على مستقبل ابنها من ابن الجارية؟ لا نعلم. لا نعلم نيتها وقصدها، ولكن ما نعلمه هو انّ الرّبّ يوافق على ذلك، يسمح به كي يُخرج منه خيراً اكبر. الكثير من الاحداث المؤلمة تحدث بسبب البشر ونواياهم الخاصة، والرّبّ يسمح بذلك. لا لأنّه ضعيف او لا يستطيع التّدخل لمنع ذلك، ولكن لأنّه قادر ان يحوّل تلك الاحداث ويُخرج منها خيراً اكبر واعمق، يُخرج منها حياة افضل من تلك التي كانت سابقاً. لذلك لا يهم لماذا قالت سارة ذلك، ولا لماذا رغبت به، المهم ما سيفعله الله من خلاله، وماذا سيستخرج من رغبتها.
الرّبّ يوافق على طرد اسماعيل وامّه ويتولى هو شخصياً رعايتهما، لأنّه من المهم ان لا يكبر الابنان سوياً. ليس احتقاراً لاسماعيل وامّه، لانّه سيتولاه بنفسه ويجعل منه امّة عظيمة (تك 21 : 18). هذا الحدث هو كلمة عميقة لابراهيم. ليتمكّن من رؤية نسله يكبر وينمو، نسله حسب الوعد، نسله من اسحق، يجب ان يطرد اسماعيل، ابن قوته، ابن مخططه، ثمرة عدم صبره وشكه في الوعد. تلك الثّمرة سيرعاها الرّبّ ويحميها، ولكنّها لا تستطيع ان تبقى في بيت ابراهيم. كي يستمر الوعد في التّحقق، على ابراهيم الآن ان يقبل الختان الحقيقي، اي ان يفصل عنه كلّ ما هو له، ومن قوته الشّخصية، ويتعلق فقط بالوعد. هذا ليس بعقاب لابراهيم، البتّة! والا فما ذنب الصّبي وامّه؟ بل انّه شيء اعمق؛ فعلى ابراهيم ان يرجع ويثق بالله ويعيَ انّه لن يقف عند هذا الحد من الوعد. على ابراهيم ان لا يكتفيَ بولادة اسحق. مازال هناك الكثير، فعظائم الرّبّ لا تحصى. ابراهيم مدعو الى الوثوق اكثر بالرّبّ: لأنّه سيرعى ابنه المولود من هاجر وان كان بعيداً عنه، وسينمي اسحق ويجعل منه نسلاً لا يحصى.
المسيحي الذي لديه ايمان ابراهيم، يختبر انّ هناك العديد من الاحداث تجعله يتخلى عن مشروعه الخاص لتحقيق سعادته. وتدعوه ان يتمسّك فقط بمشروع الله والذي هدفه الوحيد هو سعادة الانسان نفسها. في اوقات كثيرة نختبر اننا نصطدم بهذا، فنحن نريد ان نجمع الاثنين معاً: مشروعنا ومشروع الله، افكارنا ومخططاتنا ومخططه. لكن احداث الحياة لا تسمح لنا بذلك؛ فيأتي حدث ما، كالمرض الذي يجعلنا نفقد قدرتنا على فعل ما كنا نفعله، او موت قريب او عزيز كنا نضع فيه كلّ آمالنا ، فقدان مركز… او غيرها من الاحداث المؤلمة. امام هذا قد نعتبر تلك الاحداث من لعنة القدر، او دعوة كي نتمسك بوعد الله كمصدر وحيد لخلاصنا وسعادتنا العميقة. فهذه الفرحة التي اختبرها ابراهيم مع مولد اسحق، مدعو الآن الى اختبارها اكثر فاكثر. لذا "بكّرَ ابراهيم في الصّباح واخذ خبزاً وماءً، فأعطاهما لهاجر وجعل الولد على كِتفها وصرفها" (تك 21: 14)…
وكَبُرَ اسحق في منزل ابراهيم وحان وقت اكمال الوعد، والكلّ يتوقع انّه وقت الزّواج. لكن الرّبّ يظهر لابراهيم ويطلب منه شيئاً لا يتوقعه انسان….
للمرة القادمة….