العنصرة خَتم مفاعيل القيامة في قلب المؤمن

روما، الاثنين 24 مايو 2010 (Zenit.org).

إن كلمة "عنصرة" في أيامنا أو التساؤل عن مضمونها ومعناها لا يزال بالنسبة لكثير من الناس مبهماً. عيدٌ وكأنه يوم عادي، عيد لأنه يوم عطلة إذ يصادف يوم أحد، حتى بالنسبة للمسيحيين، فالقِلّة منهم يَعي مدى أهمية وعمق هذا العيد الذي يُكلل قِمّة تاريخ البشرية وذروة علاقة الله مع الإنسان.

عشرون قرناً مرّت على حَدث العنصرة وربما عصور أخرى ستمر على الأجيال القادمة ومازلنا نحتفل بمظاهر الأعياد المسيحية، بَعيدين كلّ البُعد عن حقيقتها وأهدافها، بينما نحن من جهة أخرى نُسرع مجذوبين ونُؤخَذُ بالتطور العلمي الذي يُحدث في الإنسان تغيرات جذرية في تكوينه وفي نظام عيشه. ولكن على الصعيد الروحي- الداخلي، بَقي الإنسان كما هو، حالة جمود وخمول، حالة جفاف في العلاقة مع الخالق. ليس مطلوب منا أن نقطع مسافات وأشواط قد تساوي أو تفوق إيمان بطرس ومريم المجدلية، فَعمَلُ الروح القدس فيهم حَوَّلَ داخلهم من حالة خوف واختباء إلى حالة عَلَنٍ وإعلان.

إن رغبنا أو لا، لقد تَمَّ اختيارنا وأصبحنا شريكين في الطبيعة الإلهية، لكي نصبح في ذواتنا ومن خلال جسدنا وروحنا، متألهين على مثال مُعطي الحياة. ما يتوجب علينا الآن هو وضع الملكوت نصب أعيننا والتوجه نحوه، فهو الهدف والمكان الأساسي للتأليه، مُتَحَدّين الشر الرابض فينا بأشكاله المختلفة.

الخطوة الأولى للتأليه، تَكمُن في تَدَخّل الله في مسيرة وتكوين شعبه، مُظهراً شريعته لشعبه، شريعة ضرورية، مُنظِّمة ومُبَرمِجة لحياة وتصرف الإنسان، منها ما يتمتع بها الإنسان اليوم من أُخوّة وإحترام ومساواة، مبادئ أساسية لا غنى عنها.

المشكلة تكمن بأن شعب إسرائيل رغم كل ما قام به من تضحيات وتقدمات وذبائح، ومناداة للأنبياء بالخلاص الموعود، بقي هذا الشعب غير قادر على الدخول في علاقة حميمة مع مَن اختاره له شعباً وكان له إلهاً، فبقيت الشريعة حائطاً وسدا، عائقاً أمام تقدمه نحو نبع الخلاص، حتى إن الملوك والكهنة اعترفوا بنقصهم في تطبيق الشريعة كما أوصاها الرب وأمّنَهُم عليها، فَهَزَؤوا بالعهد وقلّلوا من أهميته وغناه.

وهنا حلّت الكارثة، كما يخبرنا الكتاب المقدس. ففي عام 587 قبل المسيح، وصل البابليون وعلى رأسهم نبوكدنصّر واحتلوا أورشليم؛ دمروها وطردوا منها الشعب؛ وكأن مشروع الله انتهى مع شعبه بسبب هذه النكبة القاسية. أهي خطيئة الله أم شعبه؟ أهو من سمح بذلك، أم كان الاضطهاد نفسه عقاباً للشعب ودرساً ليستعيدوا ثقة الله الخالق؟ من جهة الشعب، إن العصيان على الله يؤدي إلى الزوال، ولكن الله، من جهته، لم يترك شعبه، وهذا ما اختبرناه منذ 2000 سنة معه كإله وإنسان ولا نزال نختبره.

الخطوة الثانية، تفعيل الوعد بين الله وشعبه: الله لم يهمل شعبه، فبواسطة علامات زمنية شتّى تَدخّل مرّات عدة لينهضه من سقطته ويُعيده إلى مقامه الأول، ولكن الأنانية وحُب الظهور ظلاّ مرافقَين للشعب الإسرائيلي، وقد اعتقد أنه بتحريف الشريعة وتطبيق حذافيرها دون النظر بأبعاد روحانيتها يُمَكّنه من إعادة تأهيل ذاته، مما دفع البعض، وهم أنبياء كذبة، إلى إعلان إدّعاءات كاذبة أوهمت شعب الله بالخلاص. ولكن لله مشروعُ خلاصٍ خاصٌ به. يقول النبي إرميا :

"ها إنها أيام ستأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديدا، فيصبحون لي شعبا ويعرفونني كلُّهم صغارهم وكبارهم … " (إرميا 31،31)

وعلى لسان حزقيال النبي:

ليس لأجلكم انا صانع يا بيت إسرائيل، بل لأجل إسمي القدوس الذي نجستموه في الأمم حيث جئتم، فأقدس إسمي العظيم … فتعلم الأمم أني أنا الرب يقول السيد الرب حين اتقدس فيكم أمام أعينهم" (حزقيال 36، 22-23).

من هذه الشهادات النبوية يمكننا فهم امر مهم أن الرب لا ينوي إبطال الشريعة ولا حتى إبدالها ولا تغييرها، لا يريد تشديدها أو جعلها أقسى، ولكنه وعد بأن يعطي الشعب شريعةً ذاتَ قوة كافية لتطبيقها، شريعةً ليست من أحرف كما أنها ليست نظرية، بل قوة تعطي القدرة على التأمل بها والنظر إليها وتملكها. هذا هو جديد العهد، فالشريعة الجديدة هي الروح القدس.

والسؤال المطروح: متى وعد الله بتحقيق ذلك؟ إن حالةَ ووضعَ إسرائيل السياسي ما بعد السبي لم يكونان أفضل، مازال الشعب تحت سيطرة الأباطرة، كما أن أورشليم والمدن الأخرى مازالت تحت الاستعمار الروماني بامتياز؛ فهل هنالك من أمل بعد في الخلاص وفي عهدٍ جديد؟

إن الروحَ القدس هو هبةُ العهد الجديد، فمع القيامة تمّ تفسير أمور كثيرة تكلم بها الملوك وتنبأ عنها الأنبياء وبشر فيها يسوع بشخصه، وكأننا نتصور أتباع يسوع وكل من شَهِد على حدث القيامة واختبره يصرخ ويهتف: تحقق وعد الله، فيسوع المسيح أعطى حياته كفارة عن خطايانا والله وهبنا الروح، فالشريعة الجديدة تحققت.

لنتصور كم شخصاً بفضل هذه الشريعة تغيرت وتبدلت حالته؛ في بادئ الأمر، خان يسوعَ المقرّبون منه ونكروه، وها هم الآن الاوائل على مسرح الشهادة والإعلان عن هذا التحول الجذري، الكل في بادئ الأمر شهد على ضعفهم، على عماهم وجهلهم، ولكن الآن ومع حلول الروح القدس لم يعودوا كذلك. تحولُهم سبّب شكا وإعجابا لمن رأوهم، لم يؤلفوا أي اختراع جديد للشفاء من ضعفهم، ولم يبتكروا أسطورة وهميّة، لكنّهم عالمون ومدركون وعلى يَقَظةٍ ويقين لمن يسكن فيهم ويجعلهم ينطقون بشجاعة دون تردد بكلمة الحق التي حصلوا على مكافأتها بالشهادة والدم إكراماً، محبة وشغفاً بواهب الروح. فمشكلتهم أنهم لم يستطيعوا الإلتزام بالصمت بل تحدّوا كل ضعف فتحول ضعفهم إلى قوة وجهاد. فالحق ينصرهم كما كان يقول لهم معلّمُهم، إتخذوه سلاحاً وقوة لردع كل شر. 

الروح يعطي قلبا جديدا وروحا جديدا.

هذا هو عمل الروح، فتعاليم يسوع لم تكفِ التلاميذ، والبرهان على ذلك في بستان الزيتون، عندما تشتتوا عند ساعة الموت والاستشهاد. ولكن فيما بعد، عند لقاء يسوع القائم من الموت، يسوعَ الحي، عند قبول غفرانه بواسطة الروح، عندها تحولوا وتَجَلّوا بمظهر الحواريين الممتلئين من قوة القيامة.

الروح لا يهمل ولا يحطّ من عزيمة الإنسان، ولا يحوّل طبعه بل يخلقه من جديد. هو الغفران، هو الحياة، هو مجددها، هو البشارة الجديدة لأن الإنجيل أي البشارة، ليست مجرد كتاب أو نص أو حتى شريعة، كما يقول القديس اغوسطينوس ومن بعده القديس توما الأكويني " لو كان لدينا فقط كتاب الإنجيل، لأصبحنا معدومين، لا نفع لنا"، بمعنى أننا على مثال الشعب القديم، أبناء الحرف دون الروح، أناس لا تختلف عن الحجارة بشيء.

اليوم وبعد 50 يوم من القيامة، من زمن صلاة واختبار لمفاعيل القيامة الامتلاء منها، هل سنفتح مجالا للروح ليتكلم ويعمل فينا؟ هل سنبقى مسيحيين فارغين من الروح بدلا من إن نَلقى نَفْخَ الروحِ القدس ليدفعنا للشهادة، لشهادة الحق؟ لمرات عدة نتوقف، نمتنع، نتردد، نتراجع، "نضغط على الفرامل" كي لا نتقدم ونسير نحو الهدف المرجو، لأننا نخاف المغامرة التي تُحدِث صخبا وتحولا جذريا، تفرغنا من أنانيتنا وتفتح آفاقاً جديدة في علاقتنا مع الله.

هل نمتلك القدرة؟ تلزمنا الشجاعة لنُقدِم عليها. الروح القدس لا يعمل فينا كآلة "تحريك عن بُعد" (Remote Control)  ولا يعتدي حتى على حريتنا أو يجبرها على الخضوع له؛ لا بل يحترم ذاتنا، يحترم الكائن البشري: جسدنا وأفكارنا، قلبنا وحواسنا؛ يبقى على كل واحد منا إن يستقبله ضمن طاقاته ومدى استيعاب قوته وبحسب حاجاته، بتمهيد الطريق له، أي بفتح ذراعه، قلبه وفكره له.

الكنيسة لا تملك الروح القدس إلاّ إذا كانت سائرة على درب الصليب والجلجلة، على خطى سيدها، لذلك فهي ليست مؤسسة، إنّما جماعة؛ والإيمان ليس مشروعاً بل أساساً فيها ومبدأ؛ والذبيحة ليست عادة بل الموضع الذي فيه نرتبط بالرب المخلص بواسطة نار الروح المحوِّل والعامل في الإفخارستيا.

فالشريعة عندها تصبح نعمة، والإماتة فرحاً، والجماعة الرهبانية والرعوية تتحول إلى عائلة فيها نتقاسم المواهب الروحية، والرسالة لا تُعد فقط للنشر بل تصبح ضرورة تحمل في طياتها عدوى فرح الإيمان.

لنرفع البرقع عن أعيننا، لينفخ روح الله فينا ولتصبح البشرى الجديدة عنصر محرر لكل ضعيف، خاصة لعُبَّاد الشريعة وحرفيتها.

إخوتي، نحن اليوم وفي زمن العنصرة في غمرة حضور الروح، إنه موسم جديد ومتجدد من العطاء في زمن تصبح القيامة ومفاعيلها منطبعة ومختومة في كياننا. فكل ما جاهدنا من أجله في زمن الصوم، وجنيناه في زمن القيامة وحافظنا عليه، ونود حمله والاستفادة منه، فالروح وبحلوله يضمن وجوده فينا، يحافظ عليه ويَختمه بزيت البهجة ويثبّته بميرون الخلاص، فيساعدنا على تنميته فينا وتفعيله، لتنتشر بين المحيطين بنا مواهبه الفياضة:

فموهبة الحكمة تساعدنا على الاشتراك في الحكمة الإلهية والمعرفة السرية والعليا، أي حكمة الله، فهي تشكل جذور كل معرفة حقّة مبنية على المحبة والتي من خلالها تحصل النفس على صفات إلهية سامية، منها فعْلُ التمييز بحق.

موهبة الفهم والتي تساعدنا على معرفة حقيقة الأمور كي نبتعد عن الخطأ والخطيئة، تعطينا الرغبة في معرفة الحقيقة الإلهية على مثال تلميذي عمّاوس فيصبح نظرنا نقيا، طاهرا، فَتَنْجَلي الأمور أمامنا.

موهبة العلم، وهي بمقدورها أن تساعدنا على معرفة قيمة الكون والمخلوقات، أي قيمة الحياة، هي فضيلة النمو والتطور دون المس سوءاً بحياة الإنسان، بجمال ما أبدعه الله.

موهبة المشورة، تضيء الوعي لدى المؤمن في خياراته الخلقية، الاجتماعية منها والفردية. من هذا المنطلق على الكنيسة أن تكون الشاهد الأول على هذا الخط لتحصل على نجدة الوعي الإلهي في تعليمها لكمال الرسالة وللقدوة الصالحة، فهذا هو روح ضمير الحق والصلاح. 

موهبة القوة، ليست القوة الجسدية أو قوة السلاح أو الكلام القاسي والنابي أللاخلاقي، بل هي موهبة قوة كلمة الله التي تسند الضعف البشري والتي على أساساها تُبنى الحياة الخلقية في كل جوانبها، فهي نبضها.

موهبة التقوى، ظاهرة في الصلاة وهي عامل أساسي فيها، فهي قديرة وتوجه وتغذي كل حاجة روحية للحصول على النعمة المطلوبة؛ التقي هو من يحسب ذاته ابناً لله ويسعى للقرب منه بتتميم إرادته، مما يدفعه للقيام بأمور الخير والصلاح.

موهبة مخافة الله، ليست خوف من الله ومن أعماله أو الهروب منه، بهدف إخفاء ضعف ما أو خطأ مرتكَبٍ يهين محبة الله، بل مخافة الله إنما هي هذا الإحساس الصريح والصدق الذي يكنّه المؤمن لله خالقه، فيقوم أمام الله بكل إحسان وتواضع قابلاً منه كل عفو وغفران، مُتَيقِّناً وعالماً بكل خطأ قام به، إنه المؤمن المُخلص لكلام الله وتعليمه. 

الختام

هذا الروح ومواهبه الغنية، كيف نحصل عليه؟

نحن نختبره في حياتنا المسيحية كصدى للكلمة النبوية "بالسكون وبالجوع تخلصون وبالهدوء والطمانينة تكون قوتكم" (أشعيا 36). إننا بحاجة ماسة إلى الصمت الداخلي وإلى بصيص أمل لا يخيب للحصول على هبة سماوية نابعة من مواهب روح الله، فالصمت له رابط قوي بالكلمة، نصمت لنصغي إلى الكلمة، لنحصل عندها على النعمة، نصمت أولا لتكون أفكارنا موجَّهة نحو الكلمة ونصمت بعد أن نسمع الكلمة لأنها لا تبرحُ تكلِّمُنا على حدّ قول اللاهوتي اللوثري  " Dietrich Bonhöffer" إذ أنها تسكن فينا. يتابع " Bonhöffer" ويقول بأننا نصمت عند الصباح الباكر لأن الكلمة الأولى هي لله ونصمت مساء لأن الكلمة الأخيرة له.

فالصمت يتم احتراماً للكلمة ومحبةً بها، لإجلالها ولنحصل عليها كما يجب ويليق. الصمت يعني انتظار كلمة الله ونعمته فينا، لتعملَ بعدها وبكل تأني في ذواتنا، كلٌ منّا ضمن طاقاته ومدى استيعابه للكلمة.

لتطبيع ثمار ومفاعيل قيامة المسيح فينا، لا بد لنا من أن نتقبَّلَ مواهب الروح الذي يُصدّق على هذه الثمار، يحفظها في داخلنا، يعتني بها ويعمل على تنميتها وتغذيتها كي تعطي أضعافا وتكون فينا سمات و فضائل حيّة وفعّالة.