حول سينودس الكنيسة الكاثوليكية في الشرق

جريدة الشروق المصرية 24\\5\\2010

عقب جريمة نجع حمادى التى جرت فى يناير الماضى أطلق الفاتيكان بيانا يندد فيه بالحادث.. ولفت نظرى آنذاك هو هذا الاهتمام، العابر للحدود، الذى أبداه الفاتيكان بواقعة تحدث فى مصر ــ فيما أتصور ــ للمرة الأولى. وأعلن رسميا ــ وقتئذ ــ بأن هناك وثيقة جارٍ إعدادها عن وضع مسيحيى المنطقة ومستقبلهم، حيث تناقش الوثيقة، فى صورتها النهائية، (بعد أن تمر فى أكثر من جولة نقاشية كما جرت العادة عند إطلاق وثائق هكذا) فى لقاء يضم الأساقفة الكاثوليك فى المنطقة، وذلك فى أكتوبر المقبل بلبنان.. ويلتئم اللقاء تحت عنوان «الجمعية الخاصة من أجل الشرق الأوسط..

الكنيسة الكاثوليكية فى الشرق الأوسط: شركة وشهادة». ومؤخرا بدأ بعض الأصدقاء من أعضاء الفريق العربى للحوار الإسلامى المسيحى الذى أنتمى لعضويته ــ التعليق على ما جاء فى الوثيقة، ومن ثم باتت خاضعة للنقاش العام. وعليه طلبت الوثيقة وقرأتها، ولأهميتها نقدم للقارئ أهم الملامح الرئيسية التى وردت فى الوثيقة.

حول مصطلح الشرق الأوسط
يمكن القول، إجمالا، بأن الوثيقة بقدر ما حلت بعضا من الإشكاليات التى لم تزل محل جدل لدى الفكر المسيحى الشرقى تمييزا عن الفكر المسيحى الغربى بقدر ما أثارت إشكاليات موضع خلاف مسيحى مسيحى من جهة، وبين التيارات الفكرية والسياسية فى المنطقة من جهة أخرى. وبقدر أيضا ما حاولت الوثيقة أن تؤكد على أهمية البقاء المسيحى فى المنطقة، بقدر ما تثير التساؤلات حول الكيفية، أخذا فى الاعتبار اختلاف السياقات.

بداية، وكملاحظة تمهيدية، أقول يبدو لى أن الوثيقة الحالية وكأنها قد أعدت بغير تواصل مع وثائق أساسية مهمة صدرت فى هذا المقام عن مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك. من هذه الوثائق نشير إلى وثيقتين لا يمكن إغفالهما هما: «الحضور المسيحى فى الشرق: شهادة ورسالة» (صدرت 1992) ووثيقة «معا أمام الله فى سبيل الإنسان والمجتمع: العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين فى العالم العربى» (صدرت 1994).

ومصدر عدم التواصل أو الانقطاع، من حيث المبدأ، ينطلق من التحول فى الحديث عن السياق المكانى والجغرافى للمسيحيين من «الشرق» و«الوطن العربى» فى الوثيقتين الأوليين إلى الشرق الأوسط فى الوثيقة الحالية. وبالطبع فإن المسألة ليست مجرد تحول لفظى لأن المسألة فى الأساس تعكس رؤية من ساهم فى صياغة الوثيقة وأن نطاق اهتمامه هو الشرق الأوسط وليس الوطن العربى أو المشرق. والوثيقة بالفعل تتحدث عن مسيحيى تركيا وإيران، كما تشير إلى المسيحيين المهاجرين إلى الشرق الأوسط من إفريقيا وتحديدا السودان وإثيوبيا، ومن آسيا وخصوصا من الفلبين ومن سريلانكا وبنجلاديش ونيبال والباكستان والهند..

وظنى أن هناك إشكالية منهجية فيما يتعلق باختيار مصطلح الشرق الأوسط؛ فمن المعروف فى أدبيات العلوم السياسية أن هذا المصطلح هو أقرب إلى السياسة أكثر منه إلى الجغرافيا، كما أنه متغير بتغير المصالح وموازين القوة (راجع كتاب النظام الإقليمى العربى لجميل مطر وعلى الدين هلال) وفى تعاطى كثير من الأطراف الدولية والغربية تحديدا مع المنطقة وبخاصة فيما يتعلق بالمسألة الدينية، تاريخيا، حيث تراوحت مواقفها بحسب التحديد السياسى للجغرافيا، وهو ما تتبعناه فى كتابنا الأول الحماية والعقاب: الغرب والمسألة الدينية فى الشرق الأوسط. واقع الحال أن الوثيقة لم تأخذ فى اعتبارها أن التوسع الجغرافى ربما يفقد الوثيقة هدفها من جانب، ويجعلها عامة جدا من جانب آخر حيث عليها أن تتعامل مع إشكاليات مسيحية عابرة للقارات.

المسيحيون والتحديات التى تواجههم
وبسبب ما سبق نجد الوثيقة لا تستطيع أن ترصد بدقة ما هى التحديات التى تواجه الحضور المسيحى، لأن الإشكاليات قطعا سوف تختلف من سياق إلى آخر؛ فالسياق العربى يختلف عن السياق الإيرانية وعن السياق التركى الذى وصفته الوثيقة بالعلمانى. وهو ما نجحت فيه الوثائق الكاثوليكية السابقة والذى فيه توافقت فيه، وإلى حد كبير، مع وثائق مجلس كنائس الشرق الوسط (راجع وثيقة الحضور المسيحى فى الشرق ــ 1998والمسيحية فى الشرق على عتبة الألف الثالثة ــ 2001). والتحديات التى تم رصدها يمكن أن نوجزها فى الآتى:
1 ــ الصراعات السياسية فى المنطقة.
2 ــ حرية العقيدة وحرية الضمير.
3 ــ تطور الإسلام المعاصر.
4 ــ الهجرة.
5 ــ الهجرة المسيحية من دول أخرى إلى الشرق الأوسط.

ويلاحظ أن بعضا من هذه التحديات صحيح ولكن هناك ما يمكن ألا يكون صحيحا أو محل جدل، كما أن تحدى الصراعات السياسية فى المنطقة هو تحدٍ شديد العمومية. وهنا ينبغى الإشادة بوثيقة «معا أمام الله» لأنها رسمت ملامح العيش المشترك بدقة وتفصيل أكثر وبمنهجية تسمح بالحوار الجدى حولها.

والمفارقة أن بعض مما جاء فى الوثيقة قد يفتح ليس فقط جدلا مسيحيا إسلاميا وإنما جدلا مذهبيا ــ وخصوصا فيما يتعلق بتاريخ المسيحية فى المنطقة وهو ما يمكن أن يجد ملاحظات كثيرة لدى العائلة الأرثوذكسية. كذلك الموقف من الإنجيليين ووصفهم بالجماعات المسيحية، وهى أمور كانت الوثائق الكاثوليكية السابقة الصادرة عن المنطقة تتجاوزها حيث تركز على المشترك.

بيد أن الوثيقة ــ وبالرغم مما سبق ــ قد وضعت بنعومة شديدة وبشكل مباشر وجيد فى حدود ما يستطيع النص أن يحمل، فكرة التكامل بين الانتماء الدينى والوطنى للمسيحى، فالمسيحى فى منطقتنا مواطن ومسيحى فى آن واحد، مواطن له نفس اللغة ونفس الثقافة مع مواطنيه من المسلمين ومسيحى وسط جماعته ويستلهم القيم المسيحية فى حياته المجتمعية. وهنا ــ ربما ــ يتم تجاوز مفهوم الطائفة إلى أن المسيحى مواطن من جهة وعضو جماعة المؤمنين من جهة أخرى. كما لمست كثير من القضايا ــ وإن كان بسرعة ــ مثل: قضية الحداثة، وقضية المعرفة المتبادلة، ومدى الحضور المسيحى فى المجتمع المدنى..، إلخ.

كما أثارت الوثيقة إشكاليات يتلبسها الغموض مثل ما جاء فى الفقرة 87 حول «أن الحضور المحدود، هو ثمرة التاريخ. ولكننا نستطيع أيضا بتصرفنا أن نحسن حاضرنا وكذلك المستقبل. فمن جهة، تشكل السياسات العالمية عنصرا سوف يؤثر على قرارنا بالبقاء فى بلادنا أو بالهجرة منها». وأظن أن هذه العبارة تحتاج إلى مزيد من الاستيضاح، على الرغم من أن الوثيقة تذكر بعدها عبارة طيبة تقول: «ومن جهة أخرى، فإن قبولنا لدعوتنا المسيحية فى مجتمعاتنا ومن أجلها، ستكون عاملا رئيسيا لحضورنا وشهادتنا فى بلدنا. فهذا الأمر هو فى الوقت نفسه مسألة سياسية ومسألة إيمان»..

وماذا بعد؟
لقد اجتهدت الكنائس فى تقديم تصورات متنوعة حول وضع المسيحيين فى المنطقة، وأظن أنه قد حان الوقت أن تكون هناك مساهمات ذات طابع أكاديمى تقترب من أوضاع المواطنين المسيحيين فى «الوطن العربى» من حيث تاريخهم وأنهم ليسوا وافدين أو جاليات طارئة، ومن حيث شراكتهم فى بناء الأوطان التى يعيشون فيها كونهم مواطنين ومن خلال الحضور الفاعل يتم تأمين مستقبلهم.. إنها مهمة لابد أن تستنهض الهمم لكل من يؤمن «بالشرق التعدد» (إن جاز التعبير استلهاما لتعبير زكى نجيب محمود «الشرق الفنان»)، ونثق أن ما يهدد الجزء هو فى الواقع تهديد للكل..

إن عدم الحضور المسيحى أو ما يمكن أن نطلق عليه «الغياب الإرادى» سواء فى داخل الأوطان أو خارجها أو «التغييب القسرى» بالاستبعاد والتهميش أو بالحضور المشروط أو المواطنة المنقوصة، ملف لابد من فتحه ونقاشه أخذا فى الاعتبار كل المساهمات السابقة. وأتذكر كلمة للمفكر محمد سيد أحمد تقول: «إن سكوت العرب على هجرة مسيحييهم هو سلاح يضرب به العرب أنفسهم بأنفسهم».

سمير مرقس – مصر