الإرشاد الروحي عند أباء الصحراء 1

الإرشاد الروحي عند أباء الصحراء 1

للأب هاني باخوم

          كثيرا ما فراءت عن الإرشاد الروحي وكيفية متابعة الأشخاص روحيا ومساعدتهم كي يصلوا إلى معرفة قيمة الدعوة التي دعانا الرب إليها . أن نكون أشخاص مسيحيين، ننعم بنفس طبيعة الله وكيانه وجوهره، وأمام هذه الدعوة إلى القداسة يصبح كل شي ثانوي. حيث هناك الأهم. نعم ان أكون مسيحي أهم من ان أكون متزوج او أعزب أو كاهن…… حيث يكمن في العماد كل الكرامة، كرامة أبناء الله، والذي لا يفوقها كرامة، وتأتي كل الدعوات من بعدها كخدمات وسائل لتحقيق الذات حسب مشيئة الله، ولخدمة الجماعة المسيحية ، الكنيسة. لكن هذا الأمر ليس بموضوعنا هنا، فموضوعنا هو الإرشاد الروحي.

          وجدت العديد من الكتب وكثير من الطرق الحديثة للإرشاد الروحي والمساعدة المعنوية والنفسية ولكن وجدت نفسي في طريقة الآباء. فما هو الإرشاد الروحي حسب آباء الصحراء؟

١. الإرشاد الروحي لدى الآباء لا ينبع فقط من الدراسة أو تعلم وسائل تقنية لكن من التأمل في خبرتهم الشخصية مع الله، بمعنى أن الخبرة الشخصية مع الله هي المصدر الأولي لكل مرشد. في المسيرة الروحية الذاتية لكل من الآباء في الصحراء اكتشفوا وتعمقوا في أعماق ذواتهم، تعلموا تفسير الأحاسيس التي يشعروا بها والتمييز على أفكارهم الشخصية ، تعلموا كيف يهربوا من التجارب ، تعلموا أن يصارعوا الأفكار المسببة للخطيئة والتي تقود إلى الحزن، تعلموا كل هذا من خبرتهم الشخصية، من تأملهم في عمل الله معهم. وهكذا أصبحوا أباء لآخرين. هكذا أصبحوا مرشدين لآخرين. فالمرشد إذا هو شخص اختبر لذا يخبر. حيث المرشد هو أب. والأب هو الشخص القادر على أن يعطي الحياة ولكن كيف له أن يعطيها أن كان يفتقدها؟ كيف يمكنه ان يعلن عمل الله في حياة شخص ، ان كان غير قادر ان يرى عمل الله في حياته هو الشخصية. الأمر هنا لا يتعلق بمثل أعلى أو أخلاقيات بحته، هنا الحديث عن خبرة واقعية مع الله في أحداث الحياة مستنارة من الكلمة ومؤسسة على الأسرار المقدسة. فلكي نصبح أباء نحتاج ان نكون دائما أبناء.

٢. المرشد الروحي لدى الآباء يجب ان يكون روحاني . وهنا مهم تفسير الكلمة، حيث كلمة روحاني قد تفهم بأنه شخص لا علاقة له بالماديات ، يحيا منعزل ، يأكل القليل، ولا يتنعم بأي شئ عالمي. نعم هذا تفسير ودعوة لبعض الأشخاص ولكن ليس المقصود هنا. فالمرشد الروحاني هو الشخص الذي يضع كل شيء يكتشفه في ذاته تحت عمل الروح القدس، كي يحوله هذا الروح ويجليه إلى صورة المسيح. فصفة الروحانية ليست صفة شخصية بل هي طريقة حياة ، فيها يضع الإنسان ما يكتشفه في ذاته، كل يوم وفي كل موقف ، من عيوب ونواقص وخطايا وأفكار ومشاعر وأحاسيس، أي كل شئ جيد كان أو سيء تحت عمل روح القدس. كل شيء جسدي ونفسي وروحي، فلا شيء يجنب. فالإنسان الروحاني هو الذي لا يترك جانب فيه وفي حياته دون ان يصله بالروح القدس .

٣. المرشد الروحي يجب ان يكون cardiognosi بمعني داري وعارف بالقلوب، نعم المرشد الروحي يجب ان بقراء قلب المتكلم مع سماعه لكلماته. فلا يتوقف فقط عما يسمع لكنه قادر ان يخترق القلب وبقراء ما يوجد بداخله. ولكن كي يقوم بذلك كما ذكرنا سابقا لا يكفي الدراسة لكن يجب ان يكون قد على دراية بما يوجد في قلبه من مشاعر وأحاسيس، يستطيع تفسيرها ، ووضعها في مخطط خلاص الرب، تحت الهامات الروح القدس.

هذا يتطلب نظره عميقة تخترق الظواهر وتصل الى العمق حيث تري ما لا يمكن رؤيته بالعين الطبيعية ، حيث يمكنه ان يري بعيني الرب. نفس العينين التي رأت في زكا العشار رغبة خلاص، وبنوة لإبراهيم، ورأت في السامرية دعوة التبشير، حيث كان يراها الآخرين امرأة للمتعة فقط، حيث رأي في المجدلية، شاهدة على القيامة، حيث رآها الآخرين امراة بها كمال الشيطان، سبعة أرواح نجسة. عن هذه العين نتحدث. هذه العين العارفة للقلوب، والفاحصة له.

ولكن ما هو الإرشاد الروحي حسب الآباء؟

       ٤.  شخص يتميز بالتمييز: نعم التمييز عطية من الروح القدس يكتسبها الشخص من تمييزه على ذاته وعلى أفكاره الشخصية، منها ينبع تمييزه على أفكار وأقوال الآخرين. فبمقدار تمييزه على نفسه يمكنه ان يميز علي الآخرين. وهذا هو الخاص للآباء، الخبرة الذاتية والنابعة من مسيرة خاصة مع الرب، معضدة بدراسة أو قرأه لكن الأساس هو الخبرة مع الله.

          فعلى المرشد ان يتعلم ان يميز على أفكاره ويصارع مع الأفكار التي مصدرها ليس بالرب، يتعرف عليها ويصارع معها، وهنا تكمن الخبرة ، من مقدار صراعه، فالمسيحي هو مصارع في حلبة يسعى على ان يحصل على الانتصار المحسوم له من الرب.

٥. المرشد الروحي هو شخص اختبر انتصار وذاق معنى البتولية، أي لمس معنى الجوهر الإلهي العفيف، الكلي للآخر ولا شئ لذاته. نعم لمس وذاق، وهذا الانتصار يعطيه القوة والشجاعة لدعوة آخرين إلى الصراع وإلا كلمات ونصائح تسقط كأوراق شجر الخريف مع مرور قليل من الرياح. فالمرشد الروحي يصبح مرشد حقيقي مع خبرته الخاصة وانتصاراته مع الرب ، وإلا يتحول لعاجز وان كانت لديه العديد من الرغبة. فبذرة المرشد حسب الآباء هي خبرته الخاصة. ( أقوال الآباء- مورا توري- ١٩٨٦- رقم ٦٦).

          نعم شخص انتصر على صراعاته وإلا يصبح حليف ومساعد لصراعات من يسمعه. فيقول ايفاجريو، ان لم يتحرر المرشد من صراعاته الخاصة يقود من يسمعه إلى الهلاك حيث من السهل ان يشفق عليه و يسقطا سويا. حيث هناك عديد من الرغبات الدفينة فينا لا تظهر إلا مع التجربة وقد تكون التجربة سماع شخص آخر، أو الشفقة عليه وتنتج الكارثة، يصبح عون له على الخطيئة بدلا من عون لقيامة منها ( ايفاجريو- رسالة إلى سنتريون- ٦- ٥٢-)

٦. المرشد عالم بالنفس البشرية، دارس لعلم نفس الإنسان، وهذا ليس لحد ذاته، لكن كي يدرك عمل الله في هذه النفس ، هكذا يؤكد اوريجانوس وآيفارجيو. فبدون معرفة قد يتشتت المرشد بين ما هو طبيعي للنفس وما هو الهي. قد يتشتت بين ما هو مرض طبيعي ومرض نابع من خطيئة وعادة سيئة أصبحت رفيقة للشخص وأثرت على نفسه. حيث الإرشاد الروحي هو دعوة النفس، من ظلمة الجهل ألي معرفة رحمة الرب يسوع المسيح ( رسالة ايفاجريو ٥٢). ولكن في نفس الوقت المرشد هو طبيب للنفس على مثل المسيح حيث انه قادر ان يقود النفس إلى خلاص الرب ويرفعها مما هو عليها إلى ما يجب ان تكون عليه. فالمرشد هو طبيب النفس حسب قوله. ولكن هل من نصائح خاصة في الإرشاد حسب الآباء ؟

المرشد الروحي هو على مثال موسي المدعو أن يقود الشعب من ارض العبودية، من مصر إلى الحرية، إلى ارض الميعاد. هو موسى المدعو ان يقود الشعب من الصراع مع الخطيئة من الحزن والألم، من مصرائيم، أي مصر والتي تعني بالعبرية ارض الضيق والعذاب إلى ارض الميعاد، حيث يجد الإنسان الرب ، فيراه ويتأمله.

          الإرشاد الروحي هو هذا الطريق في الصحراء، والذي لا يري فيه الشعب الرب، بل يرى بعض العلامات، ولكن قسوة الطريق قد تنسيه ما راه من الرب. فيتمرد ويرغب في العودة للخلف، وهنا يجب ان تظهر وداعة موسي، الأكثر وداعة بين بني البشر، حسب قول الكتاب. تلك الوداعة تكمن في معرفة المرشد لحالته الشخصية وضعفه وتمرده وخطيئته، وإدراكه ايضا إلى رحمة ومحبة الله المجانية، تلك التي فاقت تلك الخطيئة وأغرقت هذا التمرد في بحر العرفان والامتنان. من هنا تولد الوداعة، عندما يرى ويمسك المرشد واقعه الملوث بيديه ويرى من يدعوه يطهره وينقيه. فلا يحكم على الشعب، هكذا تعلم موسي، هكذا لا يتطلب من الشعب، بل يقوده بصبر، وبحسم تجاه معرفة الرب، تجاه ارض الميعاد.

          نعم الوداعة التي هي من المسيح، حيث يقول تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب. هو الذي بلا خطيئة جعل من نفسه خطيئة لأجلنا، هو الذي بلا عيب، جعل من نفسه محتقر ومرذول وارتضي بان يعلق على خشبة ، نعم مات موت المجدفين، موت أعداء الرب. وهناك منحنا رحمة ومحبة. هذه هي الوداعة ، تعالوا وانظروا إنسان يقبل ان يأخذ على عاتقه إثم الآخرين، ويعتبره إثمه وشره هو، ولا يديره علينا، بل يمنحنا مكانه حياة، وطبيعة جديدة. هذا هو الوديع، هذا هو المرشد الروحي وعلاقته بمن يرشده.

          هو التاجر الذي يأخذ منا شرنا ويعطينا مكانه حياة. فياله من تبادل عجيب، ياله من واقع غريب. ما من احد فعل معى هكذا، لا قريب، ولا حبيب، لا عزيز، ولا شقيق، وانا ما فعلت هذا قط بأحد، لكنه هو، يسوع المسيح، الوحيد الذي فعل هذا التبادل العجيب، معى ومعك ومع كل من يرغب فيه.

          نعم هذا هو المرشد الروحي، لا كلمات، لا نصائح، بل كلمات ونصائح ملتحمة بفعل. فحياه المرشد مرتبطة بقدرته على الإرشاد .

          وهنا نبدأ الحديث عن فن الإرشاد. 

          الإرشاد الروحي عند الآباء لا يكمن في لقاءات متعددة ولكنها لقاءات من حين إلى آخر يوجه فيها الشخص سؤال واضح للمرشد:،ماذا يجب على ان افعل؟ أو قل لي كلمة؟ إذا الإرشاد هناك موقف واقعي يثير أزمة الشخص ويطلب من المرشد ان يعطيه جواب عنه.

          وهنا يدرك المرشد أمر هام: الإرشاد ليس إعطاء حل معين للمشكلة ولكن هو طريق شخصي يجب ان يسلكه الشخص. فالشخص مثل المريض الذي يعاني من مرض. وهذا المرض هو ان في هذا الوقت، وهذه الظروف،  لا يتمكن ان يرى عمل الله ولا يتمكن ان يبحث عنه ويتأمله. ودور المرشد هو إعطاء نصيحة واحدة عملية ، كالدواء، تساعده مع الوقت على استرجاع وتنمية هذا الصحة الروحية.

           فمثلا؛ يأتي احد الشبان إلى القديس أنطونيوس ويطلب منه، كيف يمكنني ان اصبح راهبا جيدا؟ هذا هو الطلب ، هذا هو الاحتياج. فيرد أنطونيوس ويقول له 🙂 لا تثق في عدالتك، ولا تهتم بما هو زائل، واحرص على لسانك ومعدتك). تلك هى الوصية الوحيدة، الدواء الذي يصفه أنطونيوس لهذا الراهب، ويصف غيرها لغيره. فهذا هو الدواء المناسب له. وإذا طاع الراهب الشاب هذا الكلام يصبح بالفعل راهبا جيدا. فليس الأمر إذا بكثرة النصائح أو الأقاويل ، ولكن بحكمة التمييز للمرشد كي يصف الدواء المناسب لهذا الشخص. هذا الدواء يجعل من الشاب قادر ان يرى ضعفه وحدوده وفي نفس الوقت يرى حب الرب ودعوته له، وهذا ما يغير القلب. فتغير القلب لا يأتي من أفعال كثيرة، لكن رد فعل للامتنان على عمل الرب.

          ولشخص آخر يقول القديس بومنيوس : في كل موقف تذكر من أنت ولا تحكم على احد. هكذا تصبح راهبا جيدا. هنا الدواء مختلف لان الشخص مختلف والعلة مختلفة. فليست هناك طريقة واحدة وثابتة للجميع. من هنا تأتي أهمية معرفة القلوب وفحصها.

          لشاب مجرب بخطيئة الجنس يقول القديس أنطونيوس احفظ مكانك بالقلاية وهي ستعلمك كل شئ. إي ان العلاج لهذا الراهب ان يسكن قلايته ولا يتجول كثيرا. ولآخر يقول أمام التجربة كرر: يارب ساعدني وهذا يكفي.

          وهنا تأتي أهمية الطاعة للمرشد والثقة في نصائحه وان كانت بسيطة وتبدو غير مجدية في حد ذاتها. فأمر الطاعة في حد ذاته هو نصف الشفاء، وان لم يكن معظمه. لان بالطاعة الانسان يدرك انه ليس باله نفسه ويحتاج لغيره كي يرى الرب ويتأمله، وهذا هو التواضع المقدس، أو بالأحرى التواضع باب القداسة.

          العديد من الأشخاص غير صابرين يحتاجوا إلى تغيير سريع فيغيروا مرشد إلى آخر ونصيحة إلى أخرى إلى ان يتولد بداخلهم إلياس الروحي، أي عدم الثقة ان شئ قادر ان يتغير أو من الممكن تغييره: هكذا كنا وهكذا نكون وسنكون، هذا هو فقدان الرجاء. لذا من المهم متابعة مرشد ثابت، رأيت فيه علامات موسي، التي ذكرناها سابقا، وليس فقط جميل الحديث .

          فللمرة القادمة