المقابلة الصحفية الأولى مع البابا فرنسيس – النص الكامل

المقابلة الصحفية الأولى مع البابا فرنسيس – النص الكامل

ترجمة موقع “أليثيا”

ملاحظة المحرر: أجريت هذه المقابلة مع البابا فرنسيس على مدار ثلاثة لقاءات عُقدت معه في آب 2013 في روما. وأجرى الأب أنطونيو سبادارو، رئيسُ تحرير المجلة الإيطاليّة اليسوعيّة “الحضارة الكاثوليكية” و”أمريكا” وغيرها من الصحف اليسوعيّة البارزة من حول العالم. وقد حضّرت فرق التحرير في كلّ من هذه المجلات أسئلة وأرسلتها الى الأب سبادارو الذّي نظمها ونسقها. وتمّ اجراء المقابلة باللّغة الإيطالية.

والتقى الأب سبادارو البابا في شقته في كازا سانتا مارتا في الفاتيكان التّي اتخذها مقرًا له منذ انتخابه. واستهل الأب سبادارو المقابلة بوصف المقر البابوي.

إن الإطار بسيط ومتقشف. لم أتعجب فقط ببساطة الأثاث بل بالأعراض الموجودة في الغرفة وهي قليلة جداً ومنها أيقونة للقديس فرنسيس وتمثال لسيدة لوجان شفيعة الأرجنتين وصليب وتمثال للقديس يوسف نائم. إذ لا تنبع روحانيّة خورخي ماريو برغوليو من “الطاقات المنسقة” كما يحلو له أن يُسميها بل من الوجوه البشريّة: المسيح والقديس فرنسيس والقديس يوسف والعذراء مريم.

وتحدث البابا عن زيارته الى البرازيل مُعتبراً ان الأيام العالميّة للشبيبة التّي كانت بالنسبة إليه “لغزاً” لنعمة حقيقيّة. فيقول أنّه لم يكن معتاداً على التحدث مع هذا العدد الكبير من العالم: “يمكنني أن أجول بنظري على الأفراد الواحد تلو الآخر للتواصل مع كلّ واحدٍ منهم بصورةٍ فرديّة إلا أنني لستُ معتادًا على الجموع”.

كما تحدث عن الفترة التّي بدأ يُدرك فيها خلال انعقاد مجمع الكرادلة أنّه قد يتمّ انتخابه بابا. فقد شعر يوم الاربعاء 13 آذار عند الغداء بسلام داخلي عميق لا يمكن وصفه بالإضافة الى احساس بغموض كبير. ورافقته هذه المشاعر الى حين انتخابه بابا في وقت لاحق من ذلك اليوم.

وكان البابا قد تحدث في وقتٍ سابق عن الصعوبة التّي تعترضه خلال اجراء المقابلات، مُشيراً الى انّه يفضل التفكير على إعطاء الأجوبة المباشرة خلال المقابلات. وخلال هذه المقابلة، توقف البابا مرّات عديدة عن الإجابة على سؤال معيّن للعودة الى إجابةٍ سابقة وإضافة بعد الأفكار عليها. إن الحديث مع البابا فرنسيس أشبه بتدفق بركاني لأفكار مرتبطة ببعضها البعض فكان تدوين رؤوس الأقلام حتّى يُزعجني وكأنني بذلك أحاول اخماد جزءٍ من أجزاء الحوار المتوهج.

من هو خورخي ماريو برغوليو؟

سألت البابا فرنسيس بكلّ صراحة: “من هو خورخي ماريو برغوليو؟” فلزم الصمت محدقاً إليّ. سألته إن كان يسمح لي بطرح هذا السؤال. فأومأ برأسه مُجيبًا: “لا أعرف ما قد يكون الوصف المناسب … أنا خاطئ. هذا هو التوصيف الأكثر دقة. وأنا هنا لا أطلق كلاماً منمطاً أو معلباً فأنا بكلّ بساطة شخص خاطئ”.

ويستمر البابا في التفكير والتركيز كما ولو أنّه لم يكن ينتظر مثل هذا السؤال وكما ولو ان عليه الغوص أكثر في افكاره. “يمكنني القول إنّني مخضرم الى حد ما وانني استطيع التأقلم مع مختلف الظروف إلاّ أنني ساذج بعض الشيء أيضاً. لكن وبمختصر مفيد ومن القلب أقول: إنني خاطئ واللّه يرعاني”. ويعيد ويكرر “إن اللّه يرعاني ولطالما اعتبرت الشعار “بعين الرحمة نظر اليه واختاره” ينطبق عليّ تماماً”.

وأخذ البابا هذا الشعار من عظة الطوباوي بيدي الذي كتب في تعليقاته حول قصة دعوى متى في الإنجيل: “رأى يسوع عشاراً وما أن نظر إليه بحبٍ واختاره، قال له: اتبعني”. وأضاف البابا: “اعتقد أنّه يُصعب ترجمة المصدر اللاتيني miserando  الى كلّ من الإيطالية والإسبانية لذلك أحبّ ترجمته الى مصدر آخر غير موجود باللغة اللاتينيّة:  misericordiando  (رَحِمَ).

ويستمر البابا فرنسيس في التفكير منتقلاً الى موضوع آخر: “لا أعرف روما جيداً. أعرف منها القليل أي بازيليك القديسة مريم الكبرى التّي لطالما كنتُ اقصدها وبازيليك القديس بطرس… لكن عندما انتقلتُ الى روما، لازمت (جوار) فيا دي لاسكورفا حيث سنحت لي الفرصة زيارة كنيسة القديس لويس الفرنسي وتأمل رسومات كارافاجيو “دعوة القديس متّى”.

“أشعر أنني متّى ويسوع يُشير إليه باصبعه. أشعر انني اشبهه”. وهنا بدأ البابا حازماً وكأنّه وجد وأخيراً الصورة التّي يبحث عنها: “إن موقف متّى هو الذّي يُدهشني فهو متمسكٌ بماله وكأنّه يقول “لا، ليس أنا فهذا المال لي”. وهذا أنا الخاطئ الذي التفت إليه الرب وهذا ما قلته عندما سُئلت إن كنتُ أقبل انتخابي بابا”. ومن ثمّ همس البابا باللاتينيّة قائلاً: “أنا خاطئ إلاّ أنني أؤمن برحمة الرب يسوع وصبره اللامتناهي وأقبل مهمتي هذه بروحٍ من التوبة”.

قداسة البابا، ما الذّي دفعك الى اختيار الرهبنة اليسوعيّة؟ وما الذي لفتك عند اليسوعيين؟

“كنتُ أريد شيئاً إضافياً لكنّني لم أكن أعرف ماذا تحديداً. دخلتُ اكليريكيّة الأبرشيّة. أحببتُ الدومنيكان وكان لي أصدقاء من الآباء الدومنيكان إلاّ أننّي اخترتُ الرهبنة اليسوعيّة التّي كنتُ اعرفها تمام المعرفة لأن الإكليريكيّة كانت في عهدة اليسوعيين. ثلاثة أمور جذبتني إلى اليسوعيين: روح الإرساليّة والجماعة والإنضباط. وهذا غريب لأنني شخص غير منضبط أبداً. إلاّ ان الإنضباط في الرهبنة وطريقتهم في إدارة الوقت أمران دائماً ما أذهلانني”.

“وهناك أمر بالغ الأهميّة بالنسبة إلي وهو الجماعة. فلطالما بحثتُ عن الجماعة. فلم استطع ان اتخيّل نفسي كاهناً يعيش وحده فأنا بحاجة الى جماعة. واعتقد ان اختياري سانتا مرتا مقراً لاقامتي لدليل على ذلك. أمضيتُ فترة انعقاد المجمع في الغرفة 207 (علماً أنّه تمّ اختيار الغرف بالقرعة). إن الغرفة التّي نحن متواجدين فيها هي غرفة ضيافة وأنا اخترت ان أعيش هنا في هذه الغرفة لأننّي عندما تسلمت الشقة البابويّة، سمعت صوتاً في داخلي يقول “كلا”. إن الشقة البابويّة في القصر الرسولي ليست فخمة. إنّها قديمة، مصمّمة بذوقٍ رفيع وكبيرة إلاّ أنّها ليست فخمة. لكنّها كالقمع المقلوب فهي كبيرة وفسيحة إلاّ ان مدخلها ضيّق جداً. فلا استطيع استقبال الناس فيها إلا بالتنقيط وأنا لا أستطيع العيش من دون الناس. فلا يمكنني ان اعيش حياتي من دون الآخرين”.

ما أهميّة أن يكون يسوعياً بابا روما؟

تحدثتُ مع البابا فرنسيس عن كونّه أوّل يسوعي يتبوأ سدّة خليفة بطرس. “ما هو تصوّرك لدور الخدمة الذي دعيت الى تأديته للكنيسة جمعاء ضمن إطار الروحانيّة الأغناطية؟ وما أهمية ان يتمّ انتخاب يسوعياً بابا روما؟ وما هي جوانب روحانيّة القديس اغناطيوس التّي تُساعدكَ على اتمامكَ مهامكَ هذه؟.

فأجاب قائلاً: “حسن التمييز. فحسن التمييز هو من الأمور التّي تفاعلت داخل القديس اغناطيوس إذ يعتبره أداة كفاح من أجل معرفة اللّه والتقرب منه. ولطالما أعجبني قولٌ يصف نظرة القديس أغناطيوس: “لا تحده عظمة إلا ان أصغر الكائنات تستطيع احتواءه: هذا هو الله”. فكرت كثيراً بهذه الجملة ذات الصلة بموضوع الأدوار المختلفة داخل الكنيسة أي ان يكون هناك رئيس ومرؤوس فمن المهم ان لا  يتقيد المرء بما هو أكبر ومن المهم ان يتمكن من البقاء أيضاً في أماكن مقيّدة. وهذه الفضيلة ذات الصلة بالكبير والصغير ليست سوى تجسيد للشهامة التّي تسمح لنا بالنظر دائماً الى الفضاء الرحب من أين ما كنّا. وهذا يعني أن نتمكن من القيام بالأمور الصغيرة اليوميّة بقلبٍ كبير منفتح على اللّه والآخرين وان نتمكن من تثمين الأمور الصغيرة داخل الفضاء الرحب وهذا ما يقربنا من ملكوت الله”.

ويُضيف البابا، “يقدم لنا هذا الشعار المعايير لاتخاذ الموقع المناسب الذّي يسمح لنا بحسن التمييز لكي نسمع كلام اللّه من وجهة نظر الله. وبحسب القديس أغسطينوس، من الضروري أن تتجسد المبادئ الأساسيّة حسب مقتضيات المكان والزمان والأشخاص. وسار يوحنا الثالث والعشرون في هذا الإتجاه على طريقته الخاصة في ما يتعلق بإدارة الكنيسة مُردداً هذا الشعار: “راقب كلّ شيء، غضّ الطرف عن الكثير وصحّح القليل”. فقد تمكن يوحنا الثالث والعشرون من رؤية الكثير أي البعد الأرحب إلاّ أنّه اختار ان يصحح القليل أي البعد الأدنى. فحتّى لو كانت مشاريعك كبيرة، يُمكن ان تطبقها من خلال أمور صغيرة أو يُمكنكَ ان تستخدم وسائل بسيطة قد تكون اكثر فعاليةً من الوسائل القويّة كما قال بولس في رسالته الأولى أهل كورنثوس”.

“ويتطلب حسن التمييز وقتاً فعلى سبيل المثال قد يعتقد البعض أنّه من الممكن تحقيق التغيير والاصلاح في فترةٍ قصيرة. أعتقد اننا دائماً بحاجةٍ الى الوقت لإرساء أسس التغيير الحقيقي والفعلي. وهنا أهميّة حسن التمييز ففي بعض الأحيان يدفعنا حسن التمييز الى القيام بدايةً بما اعتقدنا انّنا سنقوم به في مرحلةٍ لاحقة. وهذا ما حصل معي في الأشهر الماضيّة ودائماً ما يقود الله عملية حسن التمييز هذه فنبحث عن العلامات ونستمع الى ما يحصل من حولنا والى مشاعر الناس خاصةً الفقراء منهم. وترتبط خياراتي بما في ذلك تلك المتعلقة بجوانب الحياة اليوميّة مثل استخدام سيارة متواضعة من حسن تمييز روحي يتماشى مع  حاجة انبثقت عن رؤيتي للأمور والأشخاص وقراءة علامات الزمن. فحسن التمييز من خلال اللّه بوصلتي لإدارة شؤون الكنيسة”.

“إلاّ ان الشكوك لا تنفك تُساورني بشأن القرارات التّي تُتّخذ على عجل. ودائمًا ما احاول توخي الحذر من القرار الأوّلي أي أوّل شيء يتبادر الى ذهني ان كان علّي اتخاذ قرار إذ غالباً ما تكون هذه الفكرة الأوليّة خاطئة ما يدفعني الى التروي والتقييم والغوص عميقاً في بحور نفسي وأخذ كلّ الوقت اللازم. “فتسمح الحكمة في حسن التمييز بإزالة الغموض وتُساعد على ايجاد افضل السبل التّي لا تتماشى دائمًا مع ما هو رائع وقوي”.

الرهبنة اليسوعيّة

إن حسن التمييز إذاً من ركائز روحانيّة البابا فرنسيس إذ يُظهر من خلاله بشكل خاص هويته اليسوعيّة. فسألته كيف باستطاعة الرهبنة اليسوعيّة ان تكون في خدمة الكنيسة اليوم وما هي مميزاتها كما سألته عن التحديات التّي تواجه الرهبنة اليوم.

فأجاب البابا “إن الرهبنة اليسوعيّة مؤسسة عملت منذ نشأتها في ظروفٍ فيها الكثير من التوتر. إن اليسوعي شخص لا تتمحور حياته حول نفسه فللرهبنة ايضًا مركز اهتمام خارج عنها وهو المسيح وكنيسته. وإن كانت حياة الرهبنة تتمحور حول المسيح والكنيسة، تكون لها مرجعيتان لضمان توازنها وقدرتها على الاستمرار في العمل على الهامش وفي الظل. فإن ركزت كثيراً على نفسها ووضعت نفسها في الوسط، تضع نفسها وسط هيكليّة محصنة إلا أنّها تخاطر بأمنها واكتفائها الذاتي.. فعلى الكنيسة ان تضع اللّه الدائم العظمة نصب عينَيها والسعي دائماً الى تحقيق مجد اللّه الأعظم من خلال الكنيسة عروسة المسيح الحقيقيّة والمسيح الملك الذّي يملك على ذواتنا والذّي نقدم له ذواتنا بكليتها وعملنا الشاق حتّى وان كنّا أواني فخاريّة فارغة. ويجعلنا هذا التوتر نتخطى أنفسنا بصورةٍ دائمة. إن ما يجعل الرهبنة اليسوعيّة غير متقوقعة على ذاتها وقويّة جدًا هو حساب الضمير الأبوّي والأخوي في آن إذ يُساعد الرهبنة على تحقيق مهمتها بصورة أفضل”.

ويُشير البابا في هذا الإطار الى الشرط الوارد في دستور الرهبنة اليسوعيّة ومفاده ان على اليسوعي أن “يُحكّم ضميره” أي حالته الروحيّة الداخليّة فيكون رئيسه أكثر دراية وإدراكاً بالشخص المرسل في مهمة.

ويُتابع البابا فرنسيس قائلاً إنّه “من الصعب الحديث عن الرهبنة.  فقد يُساء فهمكَ ان اعطيتَ الكثير من التفاصيل. فلا يسعنا وصف الرهبنة اليسوعيّة سوى بطريقةٍ سرديّة فالسرد يسمح للآخرين بالفهم والإدراك في حين ان التفسير الفلسفي واللاهوتي يفتح الباب أمام النقاش. إن نمط الرهبنة لم يحدد النقاش بل حسن التمييز الذّي يتطلب دون أي شك مناقشة للوصول الى غايته. لا حدود للبعد الروحاني لحسن التمييز وهو لا يسمح ببلورة الفكرة. فعلى اليسوعي أن يكون صاحب أفكار غير مكتملة بمعنى ان مدى تفكيره مفتوحًا لا يحده شييء. وقد عرفت الرهبنة حقبات حيث عاش اليسوعيون في بيئة منغلقة على أفكارها، بيئة تظعى فيها الثقافة والتقشف على الجانب الروحاني وأدى هذا الإختلال في الحياة اليسوعيّة الى انشاء Epitome Instituti  أي المؤسسة النموذجيّة”.

ويُشير البابا هنا الى مجموعة من الإجراءات وُضعت لأهداف عمليّة واعتبرت مع مرور الزمن بديلاً عن الدساتير وحدّد هذا نص الإجراءات هذا لفترةٍ طويلة تدريب اليسوعيين لدرجة ان البعض منهم لم يقرأ أبدًا الدساتير التّي تُعتبر النص التأسيسي. ويعتبر البابا أن خلال هذه الفترة، طغت القواعد على الروح وخضعت الرهبنة لاغراء تفسير وتحديد شخصيتها على نطاق ضيق جدًا.

ويُضيف البابا فرنسيس قائلاً: “كلا، إن اليسوعي يُفكر دائمًا ودون انقطاع متأملاً بالفضاء الأرحب ويسوع نصب عينَيه. وهذه هي قوته الحقيقيّة. وهذا ما يدفع الرهبنة لكي تكون في حالة بحث مستمرة ومبتكرة وسخيّة لذلك عليها ان تعيش اليوم وأكثر من أي وقتٍ مضى التأمل في العمل وان تقترب أكثر فأكثر من الكنيسة جمعاء أي من “ابناء اللّه” ومن “الكنيسة الأم المقدسة” ويتطلب ذلك تواضعًا كبيرًا وتضحيّة وشجاعة خاصةً عندما يكون المرء عرضةً لإساءة الفهم والافتراءات إلاّ ان هذا هو الموقف الأكثر نجاعة. فلنتذكر ما شهده التاريخ من توترات خلال القرون السابقة ومنها الجدل الذّي قام حول الطقوس الدينيّة الصينيّة وطقوس مالابار والمستوطنات اليسوعيّة في الباراغواي”.

وأنا لمستُ بنفسي الالتباسات والمشاكل التّي واجهتها الرهبنة في الفترة الأخيرة فقد شهدت فترات صعبة خاصةً عندما تمّ التطرق الى مسألة انسحاب تطبيق النذر الرابع أي طاعة البابا على كلّ اليسوعيين. وحافظتُ على ثقتي بالرهبنة خلال هذه الفترة بفضل الأب أروبي (المدبر العام للرهبنة اليسوعيّة من 1965 حتّى 1983) إذ كان رجل صلاة، يقضي فترات طويلة يُصلي. أتذكره وهو يصلي جالسًا على الأرض على الطريقة اليبانيّة فغالباً ما اتخذ المواقف والقرارات الصحيحة.

النموذج: بيتر فابر “الكاهن المصلح”

كنت أتساءل ما إذا كانت أي شخصيّة يسوعيّة منذ نشأة الرهبانيّة حتّى أيامنا هذه قد أثرت فيه بصورةٍ خاصة لذلك طلبت منه ان يُعدد هذه الشخصيات مُبررًا اختياره. بدأ بذكر اغناطيوس دي لويولا (مؤسس الرهبنة اليسوعيّة) وفرانسيس كزافييه قبل ان يُركز على شخصيّة لا يعرفها الجمهور حقّ المعرفة: بيتر فابر (1506 – 1546) من سافوي. كان من أوّل مرافقي القديس اغناطيوس، الأوّل بالأحرى إذ تقاسما الغرفة نفسها عندما كانا طالبَين في جامعة باريس وكان رفيق السكن الثاث فرانسيس كزافييه. أعلن بيوس التاسع فابر مكرمًا ولا تزال دعوى تطويبه مفتوحة.

وذكر البابا بعضًا من اعمال فابر ومنها إصدار طلبَ من العالمَين اليسوعيَين ميغيل فيوريتو وخايمي اماديو تحريره ونشره عندما كان مسؤولاً عن المحافظات في الرهبنة في الأرجنتين. ومن الإصدارات التّي كان يحبها نسخة حررها ميشال دي سيرتو. وسألتُ البابا عن سبب اعجابه الكبير بفابر.

فأجاب البابا قائلاً: “حواره مع الجميع حتّى مع الأكثر بعدًا والخصوم بالإضافة الى تقواه البسيطة التّي تلامس السذاجة ربما وجهوزيته الدائمة وقدرته الداخليّة على حسن التمييز بالإضافة الى كونه رجل قادر على اتخاذ قرارات كبيرة ومهمة وقادر على التعامل بحب ولطف.

ووصف ميشال دي سيرتو فابر على أنّه وبكلّ بساطة “الكاهن المصلح” الذّي يعتبر التجربة الداخليّة والتعبير العقائدي والإصلاح الهيكلي أمور مرتبطة ببعضها البعض. ويستطرد البابا متطرقًا الى الوجه الحقيقي لمؤسس الرهبنة.

“إن اغناطيوس صوفي لا ناسك. انزعج لدى سماعي ان الرياضات الروحيّة “اغناطيّة” فقط لكونها تتم في الصمت. في الواقع، باستطاعة الرياضات ان تكون “اغناطيّة” أيضًا في الحياة اليوميّة بعيدة عن الصمت. فاعتبار ان الرياضات الروحيّة هي رياضات تُركز على  النسك والصمت والتوبة لتفسيرٌ غير دقيق أصبح شائعًا داخل الرهبنة خاصةً في إسبانيا. أنا أقرب شخصيًّا الى الحركة الصوفيّة تلك التّي أسسها لويس لالومان وجان جوزيف سورين وفابر كذلك.

الخبرة في إدارة الكنيسة

ما هي التجربة على صعيد إدارة الكنيسة كمسؤول في الرهبنة اليسوعيّة التّي ساعدت على بلورة شخصيّة الأب برغوليو؟ إن نمط الإدارة في الرهبنة اليسوعيّة يفرض على الشخص المسؤول ان يتخذ قرارات وان يقوم بمباحثات مستفيضة مع المستشارين الرسميين. لذلك سألت: “هل تعتقد ان تجربتكَ التدبريّة السابقة قد تُساعدكَ الآن على تدبير شؤون الكنيسة جمعاء؟ وبعد التفكير لبرهة أجاب قداسته قائلاً:

“لأقول لكَ الصدق لم أتصرف على هذا النحو عندما كنت مسؤولاً في الرهبنة لجهة الألتزام دائمًا بالاستشارات المُلزمة وهذا لم يكن بالأمر الجيد. فطريقتي في الإدارة في بدياتي في الرهبنة تخللتها شوائب كثيرة. وكانت الرهبنة تمر بفترات صعبة بعد رحيل جيل كامل من اليسوعيين. لذلك تمّ تعييني اسقف أبرشيّة في سنٍ مبكرة جدًا إذ كنت في السادسة والثلاثين. وكان هذا ضرب جنون فكان عليّ أن اتعامل مع ظروفٍ صعبة وكنت أتخذ القرارات بنفسي.  وعليّ أن أضيف أمراً: عندما كنتُ أكلّف شخصاً ما بمهمة كنتُ أثق بهذا الشخص كلّ الثقة وكان على هذا الشخص أن يقترف خطأً جسيماً قبل ان أوبخه لكن وبالرغم من ذلك، تعب البعض في نهاية المطاف من تسلّطي”.

“قد تسبب لي تسلّطي وطريقتي السريعة في اتخاذ القرارات بمشاكل خطرة فاتُهمتُ بأننّي محافظ مُتشدّد وعشتُ أزمةً داخليّة عميقة عندما كنتُ في قرطبة. لم أكن يومًا كالطوباويّة إيميلدا (شخص فاضل على نحو متكلف) إلا أنّني لم أكن يومًا يمينيًا. فكانت طريقتي الاستبداديّة في اتخاذ القرارات هي التّى تسببت لي بالمشاكل”.

“ما أقوله نابعٌ من خبرتي في الحياة ومن رغبتي بالقول صراحةً ان المخاطر موجودة. فمع الوقت، تعلمتُ أمورًا كثيرة فقد سمح اللّه بتعزيز معرفتي في الإدارة من خلال اخطائي و خطاياي. لذلك عندما تبؤأت منصب رئيس أساقفة بوينس آيرس، كنتُ أعقد لقاء مع الأساقفة المساعدين الست كلّ اسبوعَين كما كنتُ اجتمع مرّات عديدة خلال السنة مع مجلس الكهنة.

فكانوا يطرحون الأسئلة قبل ان نفتح المجال للنقاش. وقد ساعدوني كثيرًا على اتخاذ أفضل القرارات لكن الآن أسمع من هنا وهناك من يقول: “لا توّسع دائرة الاستشارات واتخذ قراراتكَ بنفسكَ” إلاّ أنّني اعتبر الاستشارات أمرًا بالغ الأهميّة.

تُشكل مجامع الكرادلة والأساقفة على سبيل المثال فرصًا حقيقيّة لاجراء مناقشات بنّاءة وفعالة إلاّ أّنّه علينا أن نضعها في إطار أكثر بساطة. أنا لا أريد مشاورات رمزيّة بل مشاورات حقيقيّة. ولم تكن نشأة المجموعة الاستشاريّة المؤلفة من ثمانية كرادلة نتيجة قرار اتخذته وحدي بل تجسيدًا لإرادة الكرادلة على النحو الذّي تمّ التعبير عنه خلال الاجتماعات التّي سبقت انعقاد المجمع وأوّد ان تكون نقاشات هذه المجموعة نقاشات حقيقيّة لا احتفاليّة”.

التفكير مع الكنيسة

سألتُ البابا عن تصوره الفعلي لمقولة القديس إغناطيوس “التفكير مع الكنيسة” الواردة في كتابه “الرياضات الروحيّة” فأجاب مستخدمًا هذه الصورة.

“إن صورة الكنيسة التّي أُحب هي صورة شعب اللّه القديس والمؤمن. فهذا هو التعريف الذّي غالبًا ما استخدمه وهو أيضاُ ما ينص عليه العدد 12 من “نور الأمم”. فللإنتماء الى شعب قيمة لاهوتيّة كبيرة. وفي تاريخ الخلاص، انقذ اللّه شعبه. فما من هويّة كاملة بغياب الإنتماء الى شعب. فلا أحد يخلُص وحده  كفردٍ معزول بل يجتذبنا اللّه من خلال شبكة العلاقات المُعقدة التّي تُنسج بين البشر. فيدخل اللّه هذه الديناميكيّة مُشاركًا في شبكة العلاقات الإنسانيّة هذه”.

“تُشكل مسألة الشعب هذه موضوعاً بحدّ ذاته والكنيسة هي شعب الله في مسيرته التاريخيّة مع كلّ الأفراح والآلام وبالتالي فإن التفكير مع الكنيسة هو طريقتي في المشاركة مع الشعب.

والمؤمنون كجماعة معصومون في مسائل الإيمان وهم يعبرون عن ذلك من خلال فعل الإيمان وهو شعور خارق يشعرون به وهم يمشون معًا. هذا هو تصوري اليوم لمقولة القديس إغناطيوس. فعندما يُقام حوار حقيقي بين الشعب والاساقفة والبابا وفقًا لهذا النهج يتدخل الروح القدس. لذلك لا يقتصر التفكير مع الكنيسة على اللاهوتيين وحسب”.

“وهذه هي الحال بالنسبة لمريم: إن اردتَ ان تعرف من هي اسأل اللاهوتيين وإن اردت ان تعرف كيف تحبها اسأل الشعب. وبدورها أحبّت مريم يسوع بقلب الشعب وهذا ما نقرأه في نشيد التعظيم. لذلك لا مجال حتّى للتفكير بأن “التفكير مع الكنيسة” يعني فقط التفكير مع الكنيسة الرسميّة”.

وبعد وقفة قصيرة، ركز البابا فرنسيس على النقطة التاليّة من أجل تلافي اي التباس: ” بالطبع لا يجب أخذ كلّ المؤمنين على أنهم وحدةٌ واحدة فأنا أتحدث عن ذلك على ضوء الفكرة الشعبويّة التّي خرج بها المجمع الفاتيكياني الثاني. كلا، فأنا اتحدث عن تجربة الكنيسة  الأمّ المقدسة بكلّ مكوناتها” كما يُسميها القديس إغناطيوس أي الكنيسة التّي تجمع شعب اللّه أي قادتها والمؤمنين معًا فالكنيسة تجمع كل شعب اللّه”.

ويُضيف البابا: “أرى القداسة من خلال المؤمنين في كلّ يوم”. “فهناك طبقة وسطى قديسة يمكننا ان نكون جميعاً جزءاً منها على النحو الذّي كتبه ماليغ.” ويُشير البابا هنا الى جوزيف ماليغ، الكاتب الفرنسي (1876–1940) الذّي شارك في كتابة الثلاثيّة غير المُكتملة الحجارة السوداء: طبقات الخلاص الوسطى”.

ويُضيف قداسته قائلاً: “أرى القداسة في صبر شعب اللّه أي من خلال أم تُربي أطفالها وأب يعمل لتأمين لقمة العيش ومن خلال المريض والكهنة الطاعنين في السن الذّين تُثقلهم الجراح لكنّهم لا ينفكون يبتسمون لأنهم يخدمون اللّه والراهبات اللّواتي يتعبنّ في العمل ويعشنّ حياة قداسة في الخفاء. بالنسبة إليّ، هذه هي القداسة فغالباً ما أربط بين القداسة والصبر : ولا أعني بالصبر هنا hypomoné (الكلمة اليونانيّة في العهد الجديد) وحسب أي التحلي بالمسؤولية إزاء احداث وظروف الحياة بل الثبات في المُضي قدماً يوماً بعد يوم. وتُجسد الكنيسة المُجاهدة هذه القداسة أيضاً على النحو الذّي ذكره القديس إغناطيوس. وهذه هي القداسة نفسها التّي ميّزت أهلي: أمي وأبي وجدتي روزا التّي أحبتني كثيرًا. أحتفظ في كتاب صلواتي بوصيّة جدتي الأخيرة وغالبًا ما أقرؤها. فهي بالنسبة لي كالصلاة فجدتي قديسة تألمت في حياتها كثيرًا على المستوى الروحي أيضًا إلا أنّها كانت شجاعة ولم تستسلم أبداً”.

“إن الكنيسة التّي علينا ان نُشاركها أفكارنا هي ملجأ الجميع لا معبدًا صغيرًا  يستقبل فقط مجموعة صغيرة من الأشخاص المُنتقين. فلا يسعنا ان نجعل من حضن الكنيسة الجامعة عشًا صغيرًا لحماية رداءتنا. فالكنيسة أمّ والكنيسة معطاءة وعليها أن تكون كذلك. فأول ما يتبادر الى ذهني عند ملاحظة سلوك سيء من قبل خدّام الكنيسة أو المُكرسين أو المُكرسات هو” ها هي ثمرةٌ غير جيدة” فلا يُمكن اعتبار هؤلاء آباء لجهة عدم قدرتهم على إعطاء الحياة الروحيّة.  إلاّ أنّني عندما أقرأ  سيرة حياة المبشرين الساليزيان الذين ذهبوا إلى باتاغونيا على سبيل المثال، أقرأ قصة حياة كاملة ومثمرة”.

“ومن الأمثلة الأخرى التّي استحوذت على اهتمام الصحف في الأيام الأخيرة: الإتصال الذي اجريته مع شابٍ صغير كان قد وجّه إليّ رسالة. اتصلتُ به لأن رسالته هذه كانت جميلة جداً وبسيطة جداً ويُشكل ذلك بالنسبة إليّ فعل سخاء بين الأجيال. فأدركتُ أنّه شاب ينمو وجد فيّ أباً يُخبره من خلال هذه الرسالة أمراً معيناً فلا يستطيع الأب ان يسمح لنفسه بعدم المبالاة فهذا النوع من التبادل المثمر مهم جدًا بالنسبة إليّ“.

الكنائس الجديدة والقديمة

وعن موضوع الكنيسة أيضاً، سألتُ البابا سؤالاً على ضوء الأيام العالميّة للشبيبة الأخيرة إذ سلّط هذا الحدث الكبير الضوء على الشباب إنّما أيضاً على “الرئة الروحيّة” أو الكنائس الكاثوليكيّة التّي تمّ انشاؤها في الفترات الأخيرة. فسألته: “ما الذّي تنتظره من هذه الكنائس الجديدة لجهة مساهمتها في ازدهار الكنيسة جمعاء؟”.

فأجاب البابا: “تُطور الكنائس الكاثوليكيّة الناشئة لدى نموّها نمطاً من الإيمان والثقافة والحياة مختلفة عن التّي طورتها الكنائس القديمة. أنا أُشبّه علاقة الكنائس الناشئة والكنائس القديمة بعلاقة الشباب بكبار السن في المجتمع. فيبني الشباب المستقبل بسواعدم والكبار بحكمتهم. إن المخاطر موجودة  دون أي شك فقد تميل الكنائس الناشئة الى الشعور بالاكتفاء الذاتي في حين قد تريد الكنائس القديمة فرض نمطها على الكنائس الناشئة. إلاّ أننا نبني مستقبلنا معاً”.

الكنيسة كمستشفى ميداني

قال البابا بندكتس السادس عشر لدى الاعلان عن استقالته إن العالم اليوم يشهد تحولات سريعة وهو يتخبط وسط قضايا ذات تأثير كبير على الإيمان. ويتطلب التعامل مع هذه المسائل قوّة الجسد والنفس. سألتُ البابا فرنسيس: “ما هي حاجة الكنيسة الكبرى في هذا الظرف التاريخي وما هي الاصلاحات المتوخاة؟ وما هي امنياتك للكنيسة في السنوات التاليّة؟ وكيف هي الكنيسة التّي تحلم بها؟”.

استهل البابا فرنسيس جوابه بالتعبير عن محبته الكبيرة واحترامه البالغ لسلفه قائلاً: “لقد قام البابا بندكتس بعمل قداسة وبطولة وتواضع فهو رجلٌ من رجال الله”.

ويُضيف البابا قائلاً: “اعتقد ان اكثر ما تحتاج إليه الكنيسة اليوم هو القدرة على لئم الجراح وتبريد قلوب المؤمنين. اعتبر الكنيسة مستشفى ميداني بعد المعركة. فمن غير المُفيد سؤال مُصاب إن كان لديه الكوليسترول أو ان كان مستوى السكر في دمه مرتفعاً! فعليكَ تضميد جراحه وبعدها يمكنكَ الحديث عن كلّ الأمور الأخرى. فالأولويّة هي لتضميد الجراح ويجب الانطلاق من الصفر”.

“تقوقعت الكنيسة في بعض الأحيان على نفسها وعلى قوانينها الضيّقة. يبقى الإعلان الأوّل “يسوع خلّصك” هو النداء الأكثر أهميّة وعلى خدام الكنيسة ان يكونوا خدام رحمة قبل كلّ شيء. فكاهن الاعتراف على سبيل المثال دائمًا ما يعترضه خطر التشدد أو التراخي المفرط. ولا يكون الكاهن رحومًا في كلا الحالتَين لأنّه لا يتعامل مع الشخص أمامه بالقدر الكافي من المسؤوليّة. فالمتشدد يغسل يديه ويترك الأمر للوصايا والمتراخي يغسل يديه بقوله بكلّ بساطة: “هذه ليست خطيئة” أو ما شابه. فعلينا كخدام اللّه أن نرافق المؤمنين ونضمد جراحهم”.

“فكيف نعامل أبناء اللّه؟ أحلم بكنيسة أمّ ترعى أبناءها. فعلى خدام اللّه ان يكونوا رحومين وان يتحملوا مسؤولية المؤمنين وان يُرافقوهم كالسامري الصالح الذّي يهتم ويعتني بجاره. فهذا هو الإنجيل. إن اللّه أعظم من الخطيئة في حين تأتي الإصلاحات الهيكليّة والتنظيميّة في المرتبة الثانيّة. ويجب ان يطال الإصلاح الأوّل المواقف فعلى خدّام الإنجيل ان يتمكنوا من طمأنة قلوب الناس وهم من يستطيع مرافقتهم خلال الأوقات العصيبة والتحاور معهم والنزول معهم الى حدّ الظلام دون التخبط والضياع. يبحث المؤمنون عن رعاة لا عن رجال دين يتصرفون  كالبيروقراطيين أو موظفي الدّولة. فعلى الأساقفة خاصةً ان يُساندوا اللّه في عمله وسط شعبه بصبر فتطال نعمه الجميع كما عليهم مرافقة الأشخاص الذّين يميلون الى اتباع مسارات جديدة”.

“فعوض أن نكون كنيسة ترحب وتستقبل فقط من خلال ابقاء الأبواب مُشرعة، فلنحاول ان نكون كنيسة تبحث عن مسارات جديدة قادرة على تخطي ذاتها وملاقاة الجماهير خاصةً من استسلم منهم ومن هو غير مبالي. ففي بعض الأحيان، يترك البعض الكنيسة لأسبابٍ قد تسمح ان تمكنّنا من فهمها ومعالجتها بالصورة المناسبة بعودة البعض منهم إلاّ ان ذلك يتطلب جرأةً وشجاعة”.

وقلتُ للبابا فرنسيس ان هناك بعض المسيحيين الذّين يعيشون في ظروفٍ غير نظاميّة بالنسبة للكنيسة أو في ظروفٍ معقدة تترك لديهم جراح منفتحة. وذكرتُ الأزواج المُطلقين ومن نفس الجنس وحالات صعبة أخرى وسألته ما نوع العمل الراعوي الواجب اتمامه في هذا الصدد؟ وما هي الأدوات التّي نحن بحاجةٍ إليها؟

قال البابا: “علينا ان ننشر الإنجيل في كلّ زاوية من كلّ شارع ناقلين البشرى السارة مُحاولين ان نشفي حتّى من خلال تبشيرنا كلّ أنواع الأمراض والجراح. كانت تصلني في بوينس آيرس رسائل من مُثليين جنسيين “مجروحين اجتماعيًا” لأنهم اخبروني أنّه لطالما شعروا ان الكنيسة تدينهم. إلاّ ان الكنيسة لا تريد القيام بذلك. وخلال رحلة العودة من ريو دي جانيرو قلتُ إنّه لا يمكنني ان أحكم على أي مثلي جنسيًا إن كان حسن النيّة ويبحث عن اللّه. وبقولي هذا، قلتُ ما يقوله التعليم المسيحي. فيحق للدين ان يُعرب عن موقفه خدمةً للشعب إلاّ ان اللّه خلقنا أحراراً ومن غير الممكن التدخل روحيًا في حياة المرء”.

“فسألني شخص ذات مرّة بطريقة استفزازيّة ان كنتُ أوافق على المثليّة الجنسيّة فأجبتُ سائلاً:

“قُل لي: عندما ينظر اللّه الى شخص مثلي، هل يُبارك وجوده بالحب أم يرفضه ويدينه؟ يجب أن نفكر دائماً بالشخص وهنا ندخل في سرّ الكائن البشري. في الحياة، يُرافق اللّه الاشخاص وعلينا نحن أيضاً ان نرافقهم كلٌّ حسب ظرفه ومن الضروري مرافقتهم برحمة وعند حصول ذلك، يُلهم الروح القدس الكاهن ليقول ما الذّي عليه قوله”.

“وهذه الفائدة الكبرى من كون الاعتراف سراً من اسرار الكنيسة إذ يسمح بتقييم حالة بحالة واتخاذ القرار المناسب بشأن ما الذّي يجب القيام به لشخصٍ يبحث عن اللّه والنعمة. إن كرسي الاعتراف ليس غرفة تعذيب إنمّا المكان حيثُ تشجعنا رحمة اللّه على التقدم. كما أفكر في حالة امرأة عانت من زواج فاشل مثلاً واضطرت الى الإجهاض ومن ثمّ تقرر هذه المرأة الزواج مرّة جديدة وهي الآن سعيدة وأمّ لخمسة أطفال إلاّ ان حادثة الإجهاض تُلقي بظلالها على ضميرها وهي نادمة فعلاً وتوّد ان تُمضي قدماً في حياتها المسيحيّة. فما دور كاهن الإعتراف في هذه الحالة؟”.

“لا يمكننا ان نركز فقط على حالات الإجهاض وزواج المثليين واستخدام وسائل منع الحمل. فهذا غير ممكن. لم أتطرق كثيراً الى هذه المسائل وانتقدتُ على ذلك إلاّ أنّه من الواجب لدى التطرق الى هذه المسائل أن نضعها في سياقها المناسب وتعاليم الكنيسة في هذا الإطار واضحة وأنا ابن الكنيسة لكن من غير الضروري التطرق دائماً الى هذه المسائل”.

“إن تعاليم الكنيسة العقائديّة والأخلاقيّة ليست كلّها متشابهة. فمن غير الممكن ان يكون هاجس الخدمة الراعويّة الكنسيّة نقل سلسلة من العقائد المفككة والإصرار على فرضها. ومن الضروري أن يُركز التبشير على الأساسيات أي على الأمور الضروريّة: فهذا ما يُبهر ويجذب أكثر وما يجعل القلب يحترق كما حصل مع التلاميذ في عماوس. تدعو الحاجة الى ايجاد توازن جديد وإلاّ قد ينهار حتّى بنيان الكنيسة الأخلاقي كما ينهار بيتٌ من الورق بعد خسارة عذوبة الإنجيل وعطره. فيجب ان تكون الدعوة الى عيش الانجيل أكثر بساطة وعمقًا واشعاعًا إذ هي قادرة على ترك اثر أخلاقيّ”.

“أقول ذلك وانا أفكر بالتبشير وبمحتوى تبشيرنا. فالعظة الجميلة والحقيقيّة تبدأ بالإعلان الأوّل أي اعلان الخلاص. فما من شيء أكثر صلابة وعمقًا وتأكيدًا. ومن ثمّ يأتي دور التعليم المسيحي الذّي يمكن من خلاله استخلاص الاثر الاخلاقي. إلاّ ان الإعلان عن حبّ اللّه المخلّص يسبق كلّ الاعتبارات الاخلاقيّة والدينيّة. ويبدو لنا اليوم ان العكس هو السائد. إن العظة هي المعيار لقياس قرب الكاهن من شعبه وقدرته على الالتقاء به إذ على المبشر ان يُميّز قلب جماعته النابض وان يرى اين يتركز الطوق الى اللّه حيّ ومُتقد. وبالتالي من غير الممكن حدّ رسالة الإنجيل ببعض الجوانب التّي لا تظهر وحدها وعلى الرغم من صوابيتها جوهر رسالة يسوع المسيح“.

ماذا يقول البابا عن الرهبان والراهبات؟

إن البابا فرنسيس هو أوّل حبر أعظم ينتمي الى رهبنة بعد البابا غريغوريوس السادس عشر الذي كان ينتمي الى رهبانية الكملدوليين والذّي تمّ انتخابه عام 1831. فسألته: “ما دور الرهبان والراهبات في الكنيسة اليوم؟”

فقال البابا: “إن الرهبان والراهبات أنبياء. فهم اختاروا المسيح والتشبه به من خلال إطاعة الآب وعيش الفقر وحياة الجماعة والعفة. وبالتالي من غير الممكن تصوير النذور الرهبانيّ على أنها رسوماً كاريكاتوريّة  وإلاّ اصبحت حياة الجماعة جحيماً والعفة نمط حياة غير مجدي. فعلى نذر العفة ان يكون نذراً مثمراً. وفي الكنيسة، يُدعى رجال الدين الى ان يكونوا انبياء من خلال التشبه بالحياة التّي عاشها المسيح على الأرض والاعلان عن كمال ملكوت اللّه.

وعلى الراهب ألا يتخلى أبداً عن وحي اللّه وهذا لا يعني التعارض مع الهيكليّة الهرميّة للكنيسة علماً ان هذين العالمين لا يلتقيان. وأتحدث هنا عن اقتراح دائماً ما يكون إيجابياً إلاّ أنّه لا يجب ان يُسبب الخجل.

فلنأخذ مثال ما فعله العديد من القديسين الكبار والنساك والرهبان والراهبات من القديس أنطونيوس الكبير حتّى الآن. لا أعرف كيف أفسر ذلك إلا ان التنبؤ يؤدي الى مشاكل…. ويُحدث ضجةً وضوضاء وقد يقول البعض فوضى. لكن في الواقع، فإن كاريزما الرهبان والراهبات كالخميرة فالنبوءة تعلن روح الإنجيل”.

الكوريا الرومانيّة

سألت البابا عن رأيه بمكاتب الكوريا الرومانيّة أي مختلف الإدارات التّي تساعد البابا في مهمته.

فقال البابا: “إن مكاتب الكوريا الرومانيّة في خدمة البابا والأساقفة ومن مهامها مساعدة الكنائس والمجالس الأسقفيّة فهي أدوات مساعدة إلاّ أنّها قد تُصبح في بعض الحالات إن لم تؤدي وظيفتها بشكلٍ جيد مؤسسات رقابة. ومن المدهش سماع الاستنكارات القائلة بأن استقامة الرأي تغيب حالياً عن روما. أعتقد ان على مجالس الأساقفة المحليّة أن تُحقق في مختلف الحالات وروما جاهزة لمدّها بالمساعدة اللازمة. فمن الأفضل حلّ هذه المسائل على المستوى المحلي إذ باستطاعة المحافل الرومانيّة ان تلعب دور الوسيط لا السمسار او المدير”.

وفي 29 يونيو خلال حفل مباركة وتثبيت 34 أسقف، تحدث البابا فرنسيس عن “مسار الزمالة” معتبراً إياه الطريق الذّي يسمح للكنيسة ان “تنمو تماشياً مع خدمة سلطة البابا العليا” فسألته: “كيف يمكننا التوفيق بين سلطة البابا العليا والزمالة؟ وما هي المسارات الممكنة أيضاً على الصعيد المسكوني؟”.

فأجاب البابا: “علينا ان نمشي معاً: الشعب والأساقفة والبابا. فمن الضروري عيش الروحيّة المجمعيّة على مختلف المستويات وربما قد آن الآوان لتغيير الاساليب المتبعة في مجمع الأساقفة إذ يبدو لي ان الاسلوب المُتّبع حالياً غير ديناميكي. ومن شأن ذلك أن يكون له قيمة مسكونيّة جامعة أيضاً خاصةً مع أشقائنا الأرثوذكس. فنستطيع ان نتعلم منهم أكثر عن معنى الزمالة الأسقفيّة والتقاليد المجمعيّة فمن شأن الجهد المشترك للتفكير في مسألة إدارة الكنيسة في القرون الأولى قبل حدوث الشرخ بين الغرب والشرق ان يؤتي بثمار في الوقت المناسب. فضمن إطار العلاقات المسكونيّة، المهم ليس معرفة بعضنا البعض بصورةٍ أفضل وحسب إنّما الإعتراف بما زرعه الروح في الآخرين كهديّة لنا. وأوّد ان استكمل النقاش الذّي بدأته عام 2007  اللجنة الكاثوليكيّة الأرثوذكسيّة المشتركة حول كيفيّة ممارسة سلطة البابا العليا التّي أدّت الى توقيع وثيقة رافينا؛ فعلينا المضي قدمًا في هذا الإتجاه”.

وسألتُ البابا فرنسيس على ضوء هذه الإجابة ما هو تصوّره لمستقبل وحدة الكنيسة فأجاب: ” علينا أن نمشي معًا بالرغم من اختلافاتنا فما من سبيل آخر للوحدة سوى المسيح”.

البحث وايجاد اللّه في كلّ شيء

أعلن البابا فرنسيس خلال الأيام العالميّة للشبيبة في ريو دي جانيرو مراراً: “اللّه حقيقة وهو يُظهر نفسه اليوم. إن اللّه في كلّ مكان”. ويتردد صدى هذه العبارات مع عبارة القديس اغناطيوس “البحث وإيجاد اللّه في كلّ شيء” لذلك سألتُ البابا: “كيف تبحث وتجد اللّه في كلّ شيء؟”.

فأجاب قائلاً: “ما قلته في ريو كان للإشارة الى الوقت الذي نبحث خلاله عن الله. فنحن نميل الى البحث عن اللّه في الماضي والمستقبل. فاللّه كان حتماً موجوداً في الماضي إذ ان بصماته واضحة، والله موجود حتماً في المستقبل كالوعد. إلاّ ان اللّه بالمعنى الملموس إذا جاز التعبير هو “اليوم”. ولهذا السبب، فإن التذمر لا يساعدنا أبداً على ايجاد اللّه فمن شأن الشكاوى التّي نسمعها اليوم حول “همجيّة العالم” ان تؤدي داخل الكنيسة حتّى الى ظهور رغبة بفرض النظام بهدف حماية النفس أو الدفاع عن النفس. كلا علينا ان نبحث عن اللّه في عالم اليوم”.

“يُظهر اللّه نفسه عبر التاريخ. يُطلق الوقت العنان للعمليات والفضاء يُبلورها فاللّه في التاريخ وفي العمليات”.

“علينا ان لا نركز على احتلال المواقع حيثُ تمارس السلطة بل على البدء بممارسات تاريخيّة طويلة الأمد. علينا ان نُطلق العمليات لا ان نحتل المواقع. فاللّه يُظهر نفسه ضمن الإطار الزمني وهو موجود عبر التاريخ. وهذا يُعطي الأولويّة للأنشطة التّي يُبصر من خلالها حراك تاريخي جديد النور ويتطلب ذلك صبرًا وطول أناة”.

“إن ايجاد اللّه في كلّ شيء ليس “بالحلّ التجريبي لكلّ شيء” فعندما نرغب بلقاء اللّه نميل الى التحقق منه فوراً باستخدام أساليب تجريبيّة. إلاّ أنّه من غير الممكن الالتقاء باللّه على هذا النحو فاللّه موجود في النسيم اللطيف الذّي رآه ايليا والحواس التّي تجد اللّه هي الحواس التّي يطلق عليها القديس اغناطيوس اسم الحواس الروحيّة. فيطلب منا القديس اغناطيوس ان نطلق العنان لأحاسيسنا الروحيّة ليتخطى لقاؤنا باللّه المقاربة التجريبيّة البحتة. وتظهر هنا الحاجة الى التأمل في الشعور بالمضي قدمًا على الطريق الصحيح اي طريق المودة والتفاهم نحو الأشياء والحالات”.

اليقين والخطأ

سألت: “إن لم يكن اللقاء باللّه “حلاً تجريبياً” وإن كانت رحلةً نرى من خلالها  بعينَي التاريخ، تُصبح الأخطاء إذاً مباحة؟”

أجاب البابا: “في سعينا الى البحث وايجاد اللّه في كلّ شيء هناك قسطٌ  كبير من الشك وهذه هي طبيعة الحال.  فإن قال شخص انّه على يقين تام بلقائه باللّه وانّه لم يشك ولو بقدرٍ قليل فهذا ليس دليل عافية. فبالنسبة إاليّ، هذه النقطة نقطة حساسة. فإن ادّعى كائن من كان أنّه يملك الأجوبة لكلّ الأسئلة فهذا دليل ان اللّه ليس معه. وهذا يعني انّه نبي متصنع يستخدم الدين لغاياته الشخصيّة. فلطالما ترك كبار قادة شعب اللّه مثل موسى مجالاً للشك. فعلينا ان نفسح المجال في حياتنا للّه لا لثوابتنا وان  نحافظ على تواضعنا. فالشك موجود في كلّ محاولةٍ لحسن التمييز نقوم بها من اجل ايجاد الجواب اليقين في التعزيّة الروحيّة”.

“إن الخطر في البحث عن اللّه وايجاده في كلّ شيء هو بالتالي الرغبة في الافراط في التفسير والقول بثقة وغطرسة “اللّه موجود” إذ سنجد فقط إله يُناسب مقاساتنا. فعلينا ان نتشبه بالقديس اغسطينوس الذّي كان يعتبر ان من الضروري البحث عن اللّه لايجاده وإيجاده للاستمرار في البحث عنه للأبد.” “ويقول الإنجيل غالبًا ما نبحث عنه وكأننا عميان وهذه هي تجربة كبار الآباء في الإيمان الذّين هم مثالنا الأعلى. علينا ان نُعيد قراءة الفصل الحادي عشر من الرسالة الى العبرانيين حيثُ يترك ابراهيم منزله دون ان يعرف وجهته مُتسلّحًا بالإيمان. مات كلّ اسلافنا في الإيمان وعيونهم شاخصة ولو عن بعد نحو الخير الموعود… فيحاتنا ليست مكتوبة بل تفترض منا الذهاب والبحث والفعل والاطلاع…فهي دعوة لعيش مغامرة البحث عن اللّه وعلينا بالتالي ان نسمح لللّه بالبحث عنا وملاقاتنا”.

“لأن اللّه أولاً، دائمًا ما يأتي اللّه أولاً ويقوم بالخطوة الأولى. فهو كزهرة اللوز في صقلية مسقط  رأسك  أنطونيو التّي دائمًا ما تُزهر أوّلاً. وهذا ما نقرأه في اسفار الأنبياء إذ نلتقي اللّه ونحن نمشي على الطريق. وقد يقول البعض عند هذه المرحلة ان هذا الموضوع نسبي. هل هو كذلك؟ نعم، إن أسيء فهمه على انّه نوع من انواع وحدة الوجود غير الواضحة.  لكنّه ليس بالموضوع النسبي إن اخذناه من منظور انجيلي أي ان اللّه دائمًا ما يأتي فجأةً فلا يسعنا ان نعرف اين وكيف نلقاه. نحن لا نحدد لا وقت ولا زمان اللقاء وعلينا بالتالي أن نميّز هذا اللقاء فحسن التمييز ضروري”.

“ان كان المسيحي مُصلحًا ويحترم القوانين أي ان اراد كلّ شيء واضح وآمن، لن يجد شيء. فعلى التقاليد وارث الماضي مساعدتنا للتحلي بالشجاعة وفتح مجالات جديدة أمام اللّه. فأولئك الذّين لا ينفكوا يبحثون اليوم عن حلول انضباطيّة والذّين يسعون الى “الأمن” العقائدي المفرط والذّين يُصرون على العودة الى الماضي الذّي لم يعد موجودًا – لديهم نظرة جامدة وباطنيّة للأمور. وفي هذه الحالة، يُصبح الايمان ايديولوجيا من بين الايديولوجيات. لدي ثابتة عقائديّة وهي ان اللّه في حياة كلّ انسان حتّى وان كانت هذه الحياة كارثة، حتّى ولو دمرتها الرذائل أو المخدرات أو غيرها. فباستطاعتنا وعلينا ان نحاول ايجاد اللّه في حياة كلّ انسان فعلى الرغم من ان حياة البشر أرض تملؤها الأشواك والاعشاب الضارة إلاّ أنّه دائمًا ما هناك فسحة تنمو عليها البذور الجيدة. فجلّ ما علينا القيام به هو تسليم ذواتنا لله“.

هل علينا ان نكون متفائلين؟

ذكرتني كلمات البابا ببعض الأفكار التّي عبّر عنها سابقاً عندما كان كاردينالاً إذ كتب ان الله يعيش بالفعل في المدينة وسطنا جميعاً مُتحداً معنا. وبرأيي إنّها طريقة اخرى لقول ما كتبه القديس اغناطيوس في كتاب الرياضات الروحيّة أي ان اللّه “يكدّ ويعمل” في عالمنا. لذلك سألتُ البابا: “هل يتوجب علينا ان نكون متفائلين؟ وما هي علامات الأمل في عالمنا اليوم؟ وكيف عسانا نكون متفائلين في عالمِ تملؤه الأزمات؟”.

ويقول البابا: “لا أحب استخدام كلمة متفائل إذ ان لذلك علاقة بالموقف النفسي بل أفضل استخدام كلمة الرجاء حسب ما جاء في الفصل 11 من الرسالة الى العبرانيين التّي اتيتُ على ذكرها سابقاً. فآباء الإيمان لم يتوقفوا عن المضي قدماً متحدّين كلّ الصعاب. وتؤكد الرسالة الى الرومانيين ان الرجاء لا يخيّب من يتسلح به”. ويُضيف البابا مقترحاً “فلنفكر باللغز الأوّل من اوبرا بوتشيني “توراندوت”.

“أتذكر عن ظهر قلب تقريباً أبيات اللغز التّي ترددها الأميرة في الأوبرا وحلّها الرجاء: في الليل القاتم، شبح برّاق يطير/ يعلو رافعاً جناحَيه/ على الانسانيّة الكاحلة اللامتناهيّة/ والعالم بأسره يُناشده/ والعالم بأسره يتوسل إليه/ إلاّ ان الشبح يختفي مع الفجر/ ليولد من جديد في القلب/ فيخلق مع طلوع كلّ ليل/ ويموت مع كلّ صباح”.

ويُضيف البابا فرنسيس قائلاً: “ان الايمان المسيحي ليس شبحاً وليس خدّاعا بل هو ذات قيمة لاهوتيّة وهو بالتالي هديّة من اللّه لا يمكن اقتصارها بالتفاؤل وهو قيمة انسانيّة بحتة. فاللّه لا يُضلل الأمل ولا يستطيع ان ينكر نفسه فاللّه وعد“.

الفن والابداع

أدهشني البابا بذكره أوبرا بوتشيني وهو يتحدث عن سر الرجاء فأردت ان اعرف أكثر عن ميوله الفنيّة والأدبيّة. وأتذكر أنّه ذكر في العام 2006 ان الفنانين الكبار يعرفوا كيف يعرضوا الحقائق المأساويّة والمؤلمة في إطار جميل. لذلك سألته عن الفنانين والكتّاب المُفضلين لديه وإن كان لديهم شيء مشترك.

“لقد احببت مجموعة متعددة من الكتّاب. أحبّ دوستويفسكي وهولدرلين كثيراً. أتذكر قصيدة جميلة جداً أغنتني على المستوى الروحي كثيراً كتبها هولدرلين بمناسبة عيد جدته. وتنتهي القصيدة بهذا البيت “عسى الرجل يتمسك سريعاً بما وعده طفلاً”. أحببتُ هذه القصيدة لأنني كنتُ أحبّ جدتي روزا كثيراً وفي هذه القصيدة يُقارن هولدرلين جدّته بالعذراء مريم التّي انجبت يسوع، صديق الأرض الذّي لم يعتبر احد من ابنائها غريبًا”.

“لقد قرأتُ كتاب الخطيبَين للكاتب اليساندرو مانزوني ثلاث مرّات وهو الآن على طاولتي لأنني أريد قراءته مرّة جديدة. عندما كنتُ صغيرًا علّمتني جدتي عن ظهر قلب مقدمة الكتاب: “ويتجه ذاك الفرع من بحيرة كومو جنوبًا بين سلسلتَين لا مُتناهيتَين من الجبال…” كما احب جيرارد مانلي هوبكنز كثيرًا”.

“وأعشق من بين الرسامين الكبار كارافاجيو فرسوماته تؤثر فيّ بالغ التأثير. كما أحبّ شاغال ولوحته “الصليب الأبيض”. ومن بين الموسيقيين، احب موزارت دون أدنى شك فلا مثيل لمقطوعته Et incarnatus est التّي تأخذك مباشرةً الى السماء. أحب كثيراً عزف كلارا هاشكيل لمقطوعات موزارت. لكنني لا استطيع التفكير بهذه الموسيقى بل عليّ ان استمع إليها. أحب الاستماع إلى بيتهوفن لكن بنسخة مبتكرة والأداء الأحب الى قلبي هو اداء فورتوانغلر. كما أحب باخ ومقطوعاته بعنوان الآلام ومن أجملها بالنسبة إليّ مقطوعة دموع بطرس من آلام القديس متى. رائعة! ومن ثمّ احب فاغنر لكن بصورة مختلفة. أحب ان استمع اليه لكن في أوقات معيّنة فقط. واعتبر ان اداء فورتوانغلر لمقطوعة فاغنر “العصابة” في لا سكالا في ميلانو  عام 1950 هو الأفضل”.

“وعلينا ان لا ننسى السينما والفيلم الأحب الى قلبي هو فيلم “لا سترادا” لفيليني. فأنا أتماهى مع هذا الفيلم الذّي يُشير بشكل ضمني الى القديس فرنسيس. كما أننّي شاهدتُ كلّ افلام آنا ماغناني وألدو فابريزي عندما كنتُ بين سن الـ10 و12 سنة. ومن الأفلام التّي احببتها أيضاً: “روما، مدينة مفتوحة”. أدين بثقافتي السينمائيّة لوالدَي اللذان غالباً ما كانا يصطحبانا الى دار السينما”.

“على كلّ الأحوال وبصورةٍ عامة، أحبّ الفنانين الدراميين وخاصة الكلاسيكيين. واستشهد هنا بالتعريف الذّي وضعه سرفانتس على شفاه كاراسكو للثناء على قصة دون كيشوت: “الصغار يحملونها والشباب يقرأونها والبالغين يفهمونها وكبار السن يُقدرونها.” فبالنسبة إلي، هذا هو التعريف الأنسب للأعمال الكلاسيكيّة.

وسألتُ البابا عن تجربته في تعليم الأدب في الصفوف الثانويّة.

فقال: “كانت تجربة محفوفة ببعض المخاطر. فكان علّى فرض قراءة كتاب “السييد” على طلابي إلاّ أن الشباب لم يحبوا قراءته فكانوا يُريدون قراءة غارسيا لوركا. ففكرتُ أنّه ربما بإمكانهم دراسة “السييد” في المنزل ليتسنى لي التطرق معهم الى الكتّاب الأحبّ الى قلبهم”.

“بالطبع أراد الشباب قراءة اعمال أدبيّة مفعمة بالحيويّة كالزوجة الخائنة أو سيليستينا لفيرناندو دي روخاس. ومن خلال قراءة هذه المؤلفات بدأوا يحبون الأدب والشعر فانتقلنا بعدها الى كتّاب آخرين. وكانت هذه تجربة فريدة بالنسبة إليّ. أكملتُ المنهج لكن بطريقة غير منظمة وأعني غير منظمة بحسب ما توقعناه في بداية الدروس لكن بطريقةٍ عفويّة تبلورت من خلال قراءة الكتّاب. وناسبني هذا الوضع تمامًا فلم أكن أحب التقيّد بجدول زمني بل التقدم حسب ما تقودنا القراءات مع التركيز دائمًا على الهدف المرسوم. ومن ثمّ بدأت أحثّ التلاميذ على الكتابة ومن ثمّ قررت ان ارسل قصتَين كتبهما الشباب الى بورخيس. فكنتُ اعرف سكرتيره الذّي كان استاذي في البيانو. واحب بورخيس القصص كثيراً من ثمّ قرر كتابة مقدمة لسلسلة من هذه المؤلفات”. فسألته حينها: “إذاً أيها الاب الأقدس، للابداع أهميّة في حياة الانسان؟”، ضحك وقال: “بالنسبة ليسوعي، الابداع بالغ الأهميّة فعلى اليسوعي أن يكون مبدعاً”.

الجبهة والمختبرات

خلال زيارة قام بها آباء وموظفي صحيفة La Civiltà Cattolica، تحدث البابا عن أهميّة المثلث “حوار، تمييز، جبهة”، مُركزاً خاصةً على النقطة الأخيرة مستشهداً ببولس السادس وما قاله في خطابه الشهير عن اليسوعيين: “في أي جزء من الكنيسة، حتّى في أكثر المجالات صعوبةً وتطرفاً عند مفترق الطرق بين الأيديولوجيات وفي الخنادق الاجتماعية كان ولا يزال الحوار قائم بين أعمق رغبات الانسان ورسالة الإنجيل الدائمة واليسوعيون كانوا ولا يزالوا في صلب هذا الحوار”. فسألتُ البابا ما عساها تكون أولويات الصحف الصادرة عن الرهبنة اليسوعيّة.

“لخصتُ وصيتي لزواري من La Civiltà Cattolica بثلاث كلمات قد تُطبق على كلّ الصحف الصادرة عن الرهبنة بدرجات مختلفة جسب طبيعة الصحيفة وأهدافها. وعندما أركز على الجبهة، أقصد بصورةٍ خاصة حاجة الاشخاص الذّين يعملون في مجال الثقافة على التقيّد بالسياق الذّي يعملون فيه ويفكرون من خلاله. فدائمًا ما يعترضهم خطر العيش في مختبر. فإيماننا ليس “إيمان مختبرات” بل “رحلة إيمان” امتدّت عبر التاريخ. فقد أظهر اللّه نفسه لا على انّه مجموعة من الحقائق المجردة  بل التاريخ بحدّ ذاته. أخشى المختبرات لأّنّه في المختبر تأخذ المشكلة ومن ثمّ تأتي بها الى المنزل لتروضها وترسمها خارج إطارها في حين انّه عليك العيش على الجبهة  واختبار الأمور بجرأة”.

فطلبتُ منه اعطاء بعض الأمثلة من تجربته الشخصيّة

“في ما يتعلق بالمسائل الإجتماعيّة، يختلف الأمر بين عقد لقاء لدراسة مشكلة المخدرات مثلاً في حي من الأحياء الفقيرة والتوجّه الى ذاك الحيّ والعيش فيه وفهم المشكلة من الداخل ودراستها. وأذكر في هذا الإطار ما جاء في رسالة الأب أروبي الرائعة التّي وجهها الى مراكز البحوث الإجتماعيّة والعمل لمكافحة الفقر حيثُ يقول صراحةً أنّه من غير الممكن التحدث عن الفقر من دون معايشة الفقر والتواصل بشكلٍ وثيق مع الأماكن التّي تعيش الفقر. إن كلمة “الإدماج” خطيرة جدًا إذ اعتبرها بعض رجال الدين بدعة ما أدى الى كوارث بسبب غياب حسن التمييز إلاّ ان هذه المسألة بالغة الأهميّة”.

“إن الجبهات كثيرة. فلنفكر في الراهبات اللواتي يعشنّ في المستشفيات فهنّ يعشنّ على الجبهة  وانا حيّ الآن بفضلهن. فعندما خضعتُ لعلاج الرئة في المستشفى، وصف لي الطبيب جرعات محدّدة من البنسلين والستربتوميسين. زادت الأخت الممرضة الجرعات ثلاثة أضعاف إذ كانت مخضرمة في هذا المجال لأنّها كانت تعمل يوميًا مع المرضى. أمّا الطبيب وهو طبيبٌ جيّد عاش في مختبره في حين عاشت الأخت على الجبهة في تفاعلٍ يومي. تطويع الجبهة يعني التحدث من مكانٍ بعيد والتقوقع داخل المختبر. إن المختبرات مفيدة إلاّ انّه علينا الإنطلاق في تفكيرنا من الخبرة المُستقاة”.

فهم الذات البشريّة

سألتُ البابا فرنسيس عن التغيرات العميقة التّي يشهدها المجتمع وعن طريقة إعادة تقييم البشر لانفسهم. فوقف وتوجّه نحو مكتبه وأخذ كتاب الصلاة وهو باللغة اللاتينيّة غير المُستعملة الآن. ففتح صفحة قراءات يوم الجمعة من الأسبوع الـ27 من الزمن العادي وقرأ مقطعاً من Commonitorium Primum  للقديس منصور من رينس: “على العقيدة المسيحيّة حتّى ان تتبع هذه القوانين التي تمّ تعزيزها وتطويرها وتعميقها مع مرور السنين”.

ويُعلق البابا قائلاً: يُقيم القديس منصور مقارنة بين التطور البيولوجي للإنسان والإنتقال من حقبة الى أخرى على مستوى الإيمان الذّي ينمو ويتعزز مع الوقت. وهنا يتغير فهم الذات البشريّة مع الوقت ما يزيد من عمق الإدراك البشري أيضاً. فلنفكر متّى تمّ قبول العبوديّة أو السماح بعقوبة الإعدام دون أي مشكلة. إذاً نحن ننمو في فهم الحقيقة. ويُساعد المفسرون واللاهوتيون الكنيسة على انضاج حكمها الذاتي حتّى ان العلوم الأخرى وتطورها تُساعد الكنيسة على تعزيز قدرتها على الفهم. هناك بعض القوانين والتعاليم الكنسيّة التّي كانت فعالة في ما مضى إلا انّها خسرت اليوم كلّ قيمة ومعنى. ففكرة ان تعاليم الكنيسة تعاليم متجانسة يجب الدفاع عنها دون أي تمييز أو تأويلات مختلفة خاطئة”.

“ففي نهاية المطاف، يحاول البشر في كلّ الحقبات التاريخيّة فهم أنفسهم والتعبير عنها بطريقةٍ أفضل. لذلك يُغيّر البشر مع الوقت تصورهم لانفسهم. فالأمر سيّان بالنسبة لرجل يُعبر عن نفسه من خلال نحت “النصر الجامح” لساموثراكي وآخر لكارافاجيو أو شاغال أو حتّى لدالي. فقد تكون أشكال التعبير عن الحقيقة متعددة ولذلك من الضروري نقل الإنجيل بمعناه العابر للزمن.

“يبحث البشر عن انفسهم ومن الممكن طبعاً خلال بحثهم هذا ان يقترفوا الأخطاء. فقد عرفت الكنيسة فترات مجد كالفترة التّي عاشها توما الأكويني إلاّ انّها عرفت أيضًا أوقات عجزت فيها عن التفكير بالشكل الصحيح. فعلينا على سبيل المثال ان لا نخلط بين عبقريّة توما الأكويني وحقبة تعليقات التوماوية المنحطة. فأنا درستُ ولسوء الحظ الفلسفة من كتب تابعة لهذه المدرسة وبالتالي عند التفكير بالإنسان على الكنيسة ان تبحث عن العبقريّة لا الانحطاط.

“متّى تصبح صياغة فكرة غير صالحة؟ ومتّى تُشيح بنظرها عن الإنسان أو تخاف منه أو تتوهم بشأنه؟ يمكن تشبيه الفكرة الخداعة بيوليسيس يسمع صفارات الإنذار أو ببرسيفال في الفصل الثاني من أوبرا فاغنر في قصر كلينغسور. على الكنيسة ان تستعيد عبقريتها وان تفهم أكثر إدراك البشر لذواتهم من أجل تطوير وتعميق تعاليم الكنيسة”.

سألتُ البابا فرنسيس كيف يحب الصلاة؟

“أصلي في كتاب الأدعيّة يومياً. أحبّ ان أصلي المزامير وبعدها أحتفل بالقداس الإلهي وأصلي الوردية. لكن ما أفضله هو الصلاة ليلاً حتى إن كنت مشتتاً وافكر بأمور أخرى أو حتّى عندما أشعر بالنعاس وانا لا زلتُ أصلي. وفي المساء بين الساعة السابعة والثامنة أبقى أمام القربان المقدس في ساعة سجود؛ لكنّني أصلي في ذهني وأنا في انتظار طبيب الأسنان مثلاً أو في أوقات أخرى من النهار”.

“إن الصلاة بالنسبة إليّ صلاة تملؤها الذكريات. ذكريات من حياتي أنا أو من ما فعله الرب داخل كنيسته أو في رعيّة معينة. وبالذاكرة أعني الذاكرة التّي تحدث عنها القديس اغناطيوس في الاسبوع الأوّل من الرياضات عندما تطرق الى لقاء المسيح الرحوم المصلوب.

وأسال نفسي: “ماذا فعلتُ من أجل يسوع؟”، “ما الذي عليّ القيام به من أجل يسوع؟”. فهذه هي الذاكرة التّي يتحدث عنها إغناطيوس في “التأمل في تجربة الحبّ الإلهي” عندما يطلب منا ان نتذكر النعم التّي حصلنا عليها. لكن الأهم هو أنني أتذكر من خلال الصلاة ان اللّه يتذكرني فأنا قد أنساه إلاّ أنني أعرف انّه لا ينساني أبدًا. للذاكرة دورٌ أساسي في قلب اليسوعي، الذاكرة المذكورة في سفر التثنية، ذكرى اعمال اللّه التّي هي أساس العهد بين اللّه وشعبه فهذه الذاكرة هي التّي تجعلني ابنه واباً أيضاً.

المرأة في حياة الكنيسة

وماذا عن دور المرأة في الكنيسة؟ سبق للبابا ان أشار في مناسبات عديدة الى هذا الموضوع. فقد تطرق الى هذه المسألة خلال عودته من ريو دي جانيرو معتبراً ان الكنيسة لا تزال تفتقد بشكلٍ كبير الى لاهوت المرأة. فسألته: “ما هو دور المرأة في الكنيسة وكيف عسانا نسلّط الضوء أكثر على هذا الدور اليوم؟”.

فأجاب: “أخشى الحلّ الذي يمكن اقتصاره بنوع من “الأنثويّة الذكوريّة” لأن المرأة بطبيعتها مختلفة عن الرجل. لكن كلّ ما أسمعه عن دور المرأة مستوحاً في أغلب الأحيان من إيديولوجية ذكوريّة. تطرح النساء أسئلة عميقة من الواجب معالجتها. فلا تستطيع الكنيسة أن تكون هي هي بغياب المرأة ودورها. فالمرأة من أركان الكنيسة فمريم المرأة أكثر أهميّةً من الأساقفة.

أقول ذلك لأنّه علينا ان نفصل تمامًا بين المهام والكرامة. وعلينا بالتالي أن نعزز أكثر بعد دور المرأة في الكنيسة وان نبذل المزيد من الجهود من أجل تطوير لاهوت عميق للمرأة إذ هذه الخطوة ضروريّة للتفكير أكثر بمهام المرأة داخل الكنيسة فنحن بحاجة الى العبقرية النسائيّة في كلّ مرّة نتخذ القرارات المهمة أمّا التحدّي اليوم هو التفكير في المواقع المحدّدة للنساء في الأماكن حيث تُمارس سلطة الكنيسة في مجالات كنسيّة مختلفة“.

سألتُ الحبر الأعظم: “ما الذّي حققه المجمع الفاتيكاني الثاني؟”

فأجاب قائلاً: “شكل المجمع الفاتيكاني الثاني فرصةً لإعادة قراءة الإنجيل على ضوء الثقافة المعاصرة وقد أدّى الى حركة متجدّدة نابعة بكلّ بساطة من الإنجيل نفسه وثمار هذا المجمع كثيرة ويكفيني أن أذكر منها النتائج على الصعيد الليتورجي. فقد أتى الإصلاح الليتورجي خدمةً للمؤمنين لجهة إعادة قراءة الإنجيل ضمن إطار تاريخي ملموس. وهناك دون أدنى شك نوع من الاستمرارية أو الانقطاع على صعيد بعض التأويلات إلاّ ان ما هو واضحٌ تماماً هو ان ديناميكيّة قراءة الإنجيل وتحديث رسالته حسب مقتضيات حقبتنا الحاليّة – وهذا ما حصل تماماً في المجمع الفاتيكاني الثاني – أمر لا رجوع عنه أبداً.

وهناك بعض المسائل كالطقوس الدينيّة بحسب Vetus Ordo أو النظام القديم. أعتقد ان قرار البابا بندكتس بهذا الشأن (القرار الذّي اتخذه في 7 يوليو 2007 والذّي يقضي بالسماح بالاحتفال بالقداس حسب الطقس الروماني الذّي تمّ اعتماده في مجمع ترينتو) كان حكيماً ونابعاً من رغبته في مساعدة الأشخاص الذين يتحسسون من هذه المسألة إلاّ ان ما يبعث على القلق هو خطر تجميد النظام القديم واستغلاله”.