سيرة حياة القديس كريستوفر شفيع المسافرين

سيرة حياة القديس كريستوفر شفيع المسافرين

إعداد ناجى كامل- مراسل الموقع من القاهرة

– نشأته : ولد روبروبس في إقليم ليكيا بأسيا الصغرى نحو سنة 200 م، وهو من نسل الكنعانيين، وكان يعبد الأوثان مثل سائر عشيرته،وقد شب عملاقاً طويل القامة، ضخم الجثة، فبات مخيفاً في منظره، ولما بلغ من العمر أشده، فاق كثيرين عمن سبقوه من العمالقة ضخامة إذ بلغ طوله نحو 12 قدماً.

وهو اسمه الوثني قبل معموديته أي عديم القيمة. Reprobus – وكان وجهه يحمل ملامح عنيفة ومخيفة، بعد أن قضى فترة صباه بأقليم ليكيا، عاش روبروبس شبابه في سوريا، و نظراً لضخامة جسمه درب نفسه منذ صباه ليكون مقاتلاً، وأحب هذا النوع من العمل لا لشيء إلا لكي يظهر فيه قوته البدنية والوحشية وكان يستطيع أن يحمل أي ثقل مهما كان، ولذلك دعي في لغة الناس ” أوفيرو ” أي الحمّال، وكان هو معجباً بقوته ومفتخراً بذلك.

– تحول روبروبس إلى الغابات يمارس أعماله الوحشية، فجال يسحق الوحوش التي تهاجمه بيديه القويتين، ويقتلع الأشجار الضخمة، ويرمى بها في الغمر العظيم، ويجتاز فوقها بجسارة، وكان يجوب البحار في سفن التجار الكبيرة، ويجتاز الصحارى مع القوافل الضعيفة يحرسها، ويجتاز الوديان، ويصعد أعلى الطرق الجبلية… وأخيراً سمع عن ملك اليونان العظيم فجاء إليه يقدم له خدماته، ووقف أمام عرشه وقال له: أيها الملك الأعظم، أنى نذرت أن أخدم فقط أعظم ملوك العالم، فهل تقبلني عندك؟ وأن ملك الإغريق انبهر من منظر هذا العملاق العجيب الذي لم يرى نظيره قط، وضمه إلى رجاله العظام ونظراً لضخامة جسمه وقوته، عينه رئيساً لحرسه الامبراطورى، فتألق نجمه وظل يخدم مليكه العظيم، في عرشه الذهبي مستخدماً قوته الجسدية في خدمة هذا السيد

– انكسر الإمبراطور في حرب، فانطلق أوفيرو يطلب خدمة الملك الغالب معتقدًا أنه أعظم ملك في العالم. في أحد الأيام كان المغني في حضرة الملك يغني أغنية فيها ذكر لاسم “الشيطان”. لاحظ أوفيرو على الملك – الذي كان مسيحيًا – أنه كثيرًا ما يرشم نفسه بعلامة الصليب كل مرة يُذكَر فيها اسم الشيطان. تعجب كريستوفر من ذلك، وسأل الملك عن معنى العلامة التي يكرر رشمها ملكه وسبب رشمه لها، فأجابه بعد تردد: “كل مرة يُذكَر فيها الشيطان أخاف أن يتسلط عليَّ، فأرسم تلك العلامة حتى لا يزعجني”. تعجب كريستوفر وسأله: “هل تشك أن الشيطان يمكنه أن يؤذيك؟ إذن فهو أقوى وأعظم منك”. شعر أوفيرو أن ملكه ضعيف أمام إبليس فقرر أن يخدم الملك العظيم. وفي الليل انطلق من القصر، وجال من مكان إلى آخر يسأل عن إبليس. وإذ دخل صحراء واسعة فجأة وجد فرقة من الفرسان تتجه نحوه، وكان منظرهم كئيبًا للغاية. في شجاعة وقف أوفيرو أمام قائد الفرقة يعترض طريقه، وكان منظره مرعبًا. عندئذ سأله القائد عن شخصه وسبب مجيئه إلى الغابة، فقال أنه يبحث عن الملك الذي يسود على العالم. أجابه القائد بكبرياء: “أنا هو الملك الذي تبحث عنه!” فرح أوفيرو وأقسم له أنه مستعد أن يخدمه حتى الموت، وأنه سيطيعه في كل شيء، وسيتخذه سيدًا له إلى الأبد. كان عدو الخير يثيره للهجوم على المدن في الظلام وقتل الكثيرين ليعود في الفجر إلى الصحراء مع جنود الظلمة. وكان أوفيرو معجبًا بهذا الملك العاتي وجنوده الأشرار الأقوياء إدراكه قوة الصليب في ذات ليلة عاد أوفيرو إلى الصحراء، وفي الطريق وجد الفارس القائد ساقطًا، وكاد كل كيانه أن يتحطم. وكان جواده ساقطًا علي ظهره متهشمًا.

تطلع ليري ما وراء هذا كله فوجد صليبًا ضخمًا من الخشب على حافة الطريق، وقد أشرق نور منه. كان القائد مرتجفًا غير قادرٍ علي الحركة نحو الصليب. تعجب أوفيرو مما حدث وسأل الشيطان عن ذلك فرفض الإجابة، فقال له أوفيرو: “إذا لم تخبرني سوف أتركك ولن أكون خادمك أبدًا”. اضطر الشيطان أن يخبره: “كان هناك شخص اسمه المسيح عُلِّق على الصليب، وحين أرى علامته أخاف وأرتعد وأهرب من أمامها أينما وُجِدت”. إذا بخيبة الأمل تحل على أوفيرو الذي قال له: “بما أنك تخاف من علامته فهو إذن أعظم وأقدر منك. لقد كنت مخدوعًا حين ظننت أني وجدت أعظم سيد على الأرض. لن أخدمك فيما بعد وسأذهب لأبحث عن المسيح لأخدمه”. هرب القائد وكل جنوده وبقي أوفيرو أمام الصليب.

– روبروبس يُترك وحيداً، يالمحبة الله الفائقة ورغبته في خلاص كل أحد فقد هيأ الله القدوس هذه اللحظة لكي يجتذب روبروبس إلى معرفته، فما كان نور الفجر الوردي ينبثق لحظة شروق الشمس حتى وجد روبروبس نفسه وحيداً أمام الصليب الذي انعكس عليه ضوء الفجر ووضع يده بدون وعى منه على غمد سيفه وأمسك به، وعبرت الساعات الطوال وإذ كان غارقاً في أفكاره وأماله الضائعة، نعم فقد ندم كثيراً على الوقت الطويل الذي أضاعه في خدمة هذا الملك الأسود، مضحياً بكل شيء في خدمته، وظهرت بعدها هزيمة هذا الجبار واضحة. وانكساره عظيما ثم رفع روبروبس عينيه في هدوء رهيب نحو الصليب مقترباً يتأمله، فشعر أن قلبه القوى يتحطم ويذوب أمامه، فصرخ من أعماقه ( أريد أن أعرفك !!) إذ تأكد أنه ربما وصل أخيراً إلى أعظم قوة في الوجود لكنه لا يعرف عنها شيئاً

أخذ يبحث عن وسيلة ليجد السيد المسيح، وأخيرًا اهتدي إلى شيخ راهب قديس يعيش في كهفٍ مجهولٍ في حياة السكون حدثه عن الإيمان المسيحي.و قال له الشيخ الراهب: “إن الملك الذي تريد أن تخدمه يطلب منك الصوم المستمر”. فأجاب أوفيرو: ” ” أطلب شئ آخر، لأنني لا أستطيع تنفيذ ما تطلبه”. قال المتوحد: “إذن عليك بالتبكير كل يوم من أجل الصلوات الكثيرة”، فأجاب أوفيرو: “وهذا أيضًا لا أستطيعه”. ثم قال المتوحد مرة أخرى: “هل تعرف النهر الفلاني حيث يبتلع كثير من المسافرين أثناء الفيضان، ولا تستطع القوارب أن تقاوم تياره؟” أجاب أوفيرو: “أعرفه جيدًا”، فقال المتوحد: “بما أن بنيانك قوي فعليك بالسكنى إلى جوار النهر وعليك أن تحمل كل من يريد أن يعبر النهر، وهذا العمل سوف يسعد الرب يسوع المسيح الذي تريد أن تخدمه، وأرجو أن يأتي اليوم الذي يظهر ذاته لك”. كان رد كريستوفر : “بالتأكيد هذه خدمة يمكنني تنفيذها وأعِدَك بذلك”. مضى أوفيرو إلى ذلك المكان بجوار النهر وبني لنفسه كوخًا من الحجارة وغطاه بأغصان الشجر ليسكن فيه، وأحضر عصا كبيرة يمسكها بيده لتساعده على حفظ توازنه في الماء، وكان يجلس عند الشاطئ يساعد كل العابرين، وفي نفس الوقت كان يبعث فيهم السلام الداخلي بكلماته الروحية العذبة، واستمر يفعل ذلك مدة طويلة بدون توقف. عاد أوفيرو إلى الراهب ليتدرب علي حياة العبادة الصادقة والخدمة لله. أخيرًا طلب منه أن يعود إلى النهر. امتلأت حياته بالفرح، ووجد لذته في التعب من أجل الآخرين غير أنه أحيانًا كان يحزن لعدم إمكانية الصلاة المستمرة.

– اختبار محبته للمسيح في شخص الآخرين : في إحدى الليالي بينما كان الجو عاصفًا والأمطار شديدة سمع صوت طفلٍ يناديه من الخارج: “خريستوفر أخرج إليَّ، واحملني عبر النهر”. استيقظ وفتح باب كوخه ليري ذاك الذي يتجاسر علي طلب العبور في وسط هذا الجو العاصف في الليل وسط الظلام. لكنه لم يرَ أحدًا فظنّ أنه كان يحلم. إذ أغلق الباب وتمدد على الأرض لينام سمع الصوت يناديه مرة أخري بوضوح باسمه طالبًا أن يحمله عبر النهر. وقف للمرة الثانية علي باب كوخه فلم يرَ أحدًا. دخل كوخه وأغلق بابه وظل ينتظر فجاءه الصوت خافتًا في هذه المرة. قفز من مكانه وانطلق يبحث عن مصدر الصوت فوجد طفلاً على الشاطئ يطلب منه أن يحمله ويعبر به. بشجاعة حمله ونزل في الماء البارد، وسط التيار الجارف الخطير، وعرّض حياته للخطر. سار به لكن بدأ ثقل الطفل يزداد عليه جدًا وسط هذا الجو الخطير. بالكاد عبر النهر بجهد جهيد وبلغ الضفة الأخرى ففرح انه خدم هذا الطفل وعبر به. وقال له: “لقد عرضتني إلى خطر عظيم، وكنت ثقيلاً حتى تصورت أنني أحمل العالم كله فوقي ولا أعتقد أنه بإمكاني أن أحمل أكثر مما حملت اليوم”. قفز الطفل من على كتفيه، وأعلن عن شخصه ثم قال له: “سيكون اسمك من الآن خريستوفر لأنك حملت المسيح”. لا تتعجب لأنك لم تحمل العالم بل من خلق العالم كله فوق كتفيك. أنا هو يسوع المسيح الملك الذي تخدمه بعملك هذا، وحتى تتأكد مما أقول اغرس عصاك بجانب الكوخ وسترى أنها غدًا تُخرِج لك زهورًا وثمارًا”، ثم اختفى الطفل عنه. نفذ خريستوفر الأمر وفي الصباح وجد عصاه مثل النخلة وتحمل زهورًا وأوراق وبلحًا.

عاد خريستوفر يخدم الجميع بوداعةٍ وحبٍ شديدٍ.

ذهب القديس إلى مدينة ليسيا، وأثناء صلاته ظنه الناس مختلاً فتركوه ومضوا، فلما فهم لغتهم غطى وجهه ومضى إلى مكان استشهاد المسيحيين فعزَّى الموجودين باسم الرب. لما رأى القاضي ذلك ضربه على وجهه، فرد قائلاً: “لولا وصية المسيح التي تعلمني ألا أقابل الإساءة بمثلها لما كنت أنت وجنودك تحسبون شيئًا أمامي”. شهادته للسيد المسيح غرس عصاه في الأرض وصلَّى إلى الله أن تحمل زهورًا وثمارًا من أجل إيمان الموجودين، فتم له ذلك حتى آمن ثمانية آلاف رجل. أرسل القائد إلى ديسيوس الملك يروي له ما حدث، حينئذ أرسل الملك اثنين من فرسانه ليبحثا عنه، فوجداه يصلي ولم يجسرا على الطلب منه. أرسل إليه الملك عدة مرات وأخيرًا أرسل مائتين جنديًا. سألهم القديس بعد انتهائه من الصلاة: “ماذا تريدون؟” فلما نظروا في وجهه أجابوه: “أرسلنا الملك لنحضرك مقيدًا إليه”. قال لهم: “لن تأخذونني إليه مقيدًا أو غير مقيد”، فأجابوه: “اذهب إذن في طريقك وسوف نقول للملك أننا لم نجدك”. أجابهم خريستوفر: “لا يكون هكذا بل سأذهب معكم”. وفي الطريق إذ فرغ الطعام ولم يبقَ سوى القليل جدًا من الخبز، صلى القديس على الخبز وبارك فصار كثيرًا جدًا، حتى دهش الجند وآمنوا بالسيد المسيح. وحين بلغوا إنطاكية اعتمد الجند على يديّ البطريرك بولا. حين رآه الملك ارتعب من منظره حتى سقط عن كرسيه، ثم سأل القديس عن اسمه ومدينته، فأجاب خريستوفر: “قبل أن أتعمد كان اسمي ريبروبُس وبعد المعمودية خريستوفر”. قبل المعمودية كنت من كنعان، وبعدها أنا إنسان مسيحي”. قال الملك: “إن لك اسم غبي إذ تتذكر المسيح المصلوب الذي لم يستطِع أن يساعد نفسه وبالتالي لن يكون ذا منفعة لك فلماذا إذن تلعن كنعان ولماذا لا تقدم قرابينك للآلهة؟”

كان رد القديس حادًا: “إنك بالحقيقة تدعى داجنَس لأنك تحمل موت العالم وتابع للشيطان، وآلهتك ما هي إلا صنعة أيدي الناس”. أجاب الملك: “لقد تربيت وسط الحيوانات المتوحشة ولذلك لا يمكنك النطق إلا بلغة متوحشة وكلمات غير معروفة للناس، وإذا قَرَّبت الآن للآلهة فسوف أمنحك عطايا وكرامة جزيلة، أما إذا رفضت فسوف أدمرك وأقضي عليك من فرط الألم والتعذيب”. رفض القديس الوعود والتهديد فسجنه الملك بينما أمر بقطع رؤوس كل فرسانه الذين آمنوا على يد خريستوفر.

– أرسل الملك امرأتين إلى السجن ووعدهما بعطايا جزيلة إذا استطاعا إسقاط خريستوفر معهما في الخطية، أما القديس فحين رأى ذلك أخذ يصلي طالبًا المعونة من الله. وقف أمامهما قائلاً: “ماذا تطلبان؟ وما الذي أتى بكما إلى هنا؟” خافت المرأتان من منظره وتأثرتا بصفاء وجهه فقالتا: “أشفق علينا يا قديس الله حتى نؤمن بالإله الذي تبشر به”. حين سمع الملك بذلك أمر بإحضارهما أمامه وهددهما بالتعذيب والقتل إن لم يقرِّبا للآلهة، فأجابتاه: “إذا كانت رغبتك أن نقرِّب للأوثان فأمر بإعداد الهيكل وتنظيفه وأحضر كل رجالك إليه”. وحين تم لهما ما طلباه دخلا الهيكل ولفَّا حزاميهما حول أعناق الآلهة وجذبوها بقوة فسقطت إلى الأرض وتحطمت، ثم قالتا للموجودين بسخرية: “استدعوا الأطباء لعلاج آلهتكم”. أمر الملك فعُلِّقت واحدة ورُبِط ثقل عظيم في قدميها حتى تمزقت أعضاؤها وأسلمت الروح، أما الأخرى فأُلقِيت في وسط النار فلم تؤذِها فقطعوا رأسها واستشهدت.

– تعذيبه: أُحضِر خريستوفر أمام الملك فأراد أن يذيقه الآلام، فأمر بإلقائه في قدر وأن يُوقد نار تحته. فوقف في القدر يخاطب الحاضرين كمن هو في فردوسٍ مفرحٍ أو داخل كنيسة، يعلن لهم عن محبة الله ورعايته وخلاصه الأبدي. تأثر الحاضرون ودهشوا كيف يحول الله النار إلى بردٍ ويعطي شهداءه حبًا للآخرين وسلامًا، فآمنوا بالسيد المسيح وعندئذ أمر الملك بتقطيع أجسادهم بالسيوف.

– استشهاده: أمر بضربه بقضبان حديدية ووضع صليب من حديد ملتهب فوق رأسه، ثم أعد له كرسيًا من حديد أجلسه عليه وأشعل تحته، فاحترق الكرسي مثل الشمع بينما لم يتأثر القديس وخرج سالمًا. إذ رأى الملك ذلك أمر بربطه وضربه بالسهام بواسطة أربعين من فرسانه الأشداء، فلم تصبه أيِّ من السهام بل كانت تتعلق في الهواء دون أن تلمسه، وحدث أن ارتد أحد هذه السهام وأصاب عين الملك فأعماه. فقال له القديس: “غدًا سوف أموت فاصنع طينة صغيرة من دمي واطلي بها عينيك وسوف تشفى”. أمر الملك فقطعوا رأسه بحد السيف وهكذا نال إكليل الاستشهاد. ثم أخذ الملك قليل من دمه ووضعه على عينيه وقال: “باسم إله خريستوفر” فبرئ في الحال.

– فعلينا أن نمتثل بهذا القديس حين نخدم كل اى أحد مهما كان صغيراً،بالمحبة والتواضع، نتمثل به في تواضعه، وبساطة ملابسه ومسكنه وعمله الحقير أمام الناس، فالخدمة ليس لها شكل معين كما أنها تحتاج إلى إنكار الذات والإيمان والمحبة، خريستوفر هو قديس من رجال النصف الأول من القرن الثالث، نال شهرة عظيمة في بلاد وسط أوروبا بسبب كثرة معجزاته.

– أخيراً لقد صار هذا القديس شفيعاً وصديقاً للمسافرين ومخلصاً للعربات من أخطار الطريق فشاع صيته في كل المسكونة، يعلقون أيقونته التي تحمل اسمه في كل مكان.

– عيد استشهاده حسب سنكسار الكنيسة القبطية في 2 برمودة، شفاعته تكون معنا. آمين.