لا أؤمن بهذا الإله (جزء2)

بقلم: الكاتب/ خـوان أريـاس

أجـل, فـقـير هـو إلهى…
إلهى, مسيحى, كان وديعـًا متواضعـًا :
[ اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ اَلْقَلْبِ فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ ] [ متى 11: 29]…
لقـد عـمل بيديه…
ولم يكن له بيت يأويه:
[ لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ ] [ متى 8: 20, لوقا 9: 58 ]…
لـذا فإن إلهى حـرّ…

لم يحبب ما يقيدنا: القـدرة, والجاه, والغـنى…
بلّ أحبّ ما يحـرّرنا: الخير, والعتدالةو والرحمة, والطبيعـة…
لقـد أحب الآب…
إلهى فـقـير, ولذلك يحب الصغـار, والبسطاء, والمنسيين, والضعـفاء, والأطهار, والأقحـاح…
إلهى ماء صافٍ, ماء الينابيع, ماء نقى…
فى عينيه النور, كـلّ النور…
الشمس غنى الفقراء…
والنهار غنى من يعيش بعرق جبينه…
أمّا الليل فيستأثر به الأغنياء…
إلهى هو النور والشمس والنهار لأنه فقير…
إلهى ليس بالسهل…
إلهى الطاهر, إلهى الفقير, إلهى الحـر, إلهى المحب…
لا يتساهل مع الإنسان المتعطش إلى كل ما يكبّله, الشغـوف بالبوارق والزوائد…
إلهى لا يتساهل مع الإنسان العـديم الإحساس الذى لا يتفاعل مع العشب النضـير…

كـثر الذين يتصورون الله من الأغـنياء…
فيثقلون كنائسهم وأيقوناتهم بالذهب…
ويُلبسون قساوستهم الحرير…
ويفسحون المجال وينزعون قبعاتهم ويركعـون عـند الضرورة أمام من فاقهم سلطانـًا أو تقـدمهم شوطـًا فى الغـنى…
[ يَا إِخْوَتِي، لاَ يَكُنْ لَكُمْ إِيمَانُ رَبِّنَا يَسُوعَ اَلْمَسِيحِ، رَبِّ اَلْمَجْدِ، فِي اَلْمُحَابَاةِ.
فَإِنَّهُ إِنْ دَخَلَ إِلَى مَجْمَعِكُمْ رَجُلٌ بِخَوَاتِمِ ذَهَبٍ فِي لِبَاسٍ بَهِيٍّ، وَدَخَلَ أَيْضاً فَقِيرٌ بِلِبَاسٍ وَسِخٍ،
فَنَظَرْتُمْ إِلَى اَللاَّبِسِ اَللِّبَاسَ اَلْبَهِيَّ وَقُلْتُمْ لَهُ: { اجْلِسْ أَنْتَ هُنَا حَسَناً }. وَقُلْتُمْ لِلْفَقِيرِ: { قِفْ أَنْتَ هُنَاكَ } أَوِ: { اجْلِسْ هُنَا تَحْتَ مَوْطِئِ قَدَمَيَّ }
فَهَلْ لاَ تَرْتَابُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَتَصِيرُونَ قُضَاةَ أَفْكَارٍ شِرِّيرَةٍ؟
اسْمَعُوا يَا إِخْوَتِي اَلأَحِبَّاءَ، أَمَا اِخْتَارَ اَللَّهُ فُقَرَاءَ هَذَا اَلْعَالَمِ أَغْنِيَاءَ فِي اَلإِيمَانِ، وَوَرَثَةَ اَلْمَلَكُوتِ اَلَّذِي وَعَدَ بِهِ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ؟ ]
[ يعقوب: 1 ـ 5 ]…

إلا أن إلهى لا يتبدّل…
إلهى فـقـير…
صديق الفـقـراء…
إلهى إله الناس الأحـرار…
إله الذين يحبونه حبـًا شامـلاً فلا يحتفـظـون لأنفسهم بشئ…
إلهى يعطى ذاته لمن يكتشفـون فى أعمـاق الـفقـر غـناه…
غـنى ليس له سواه…
إن هـو إلا نـور المحبّـة…
[ إِنَّ اللهَ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ قَطُّ. وَلكِنْ، حِينَ نُحِبُّ بَعْضُنَا بَعْضاً، نُبَيِّنُ أَنَّ اللهَ يَحْيَا فِي دَاخِلِنَا، وَأَنَّ مَحَبَّتَهُ قَدِ اكْتَمَلَتْ فِي دَاخِلِنَا]
[ 1 يوحنا 4: 12]…
الكنيسة التى أحبها

كنت فى حديث عن الكنيسة مع جماعـة من الملحدين…
فسألونى أن أرسم لهم صورة الكنيسة التى أحبها…
وكان رجاؤهم أن أخاطبهم بلغـة يقبلونها وعـلى الأخص أن أخاطبهم بإخـلاص…

من المستحيل أن نرسم صـورة كاملة…
فللكنيسة مئات الوجوه…
وهى تعنى ألف شئ…
لذا أرانى مضطرًا إلى إظهار بعض الخطوط الرئيسية فقط…
مما يساعد على تكوين فكرة اولى عنها…

الكنيسة التى أحبها:
W تلك التى لا تقول: ” عليك أن تطيعنى”, بل تقول:” علينا جميعـًا أن نطيع خالقنا”…
W تلك التى تثق بأن المسيح هو الميناء وبأنها ليست إلا المنارة , وتقيم البرهـان عـلى ذلك…
W تلك التى تؤمن ان الروح اكثر حضـورًا فى إنسان يحب, منه فى سائر تنظيماتها…
W تلك التى لا تقـترن بأى برنامج ولا تبيع نفسها له, سواء كان سياسيـًا, أو اجتماعيـًا, أو دينيـًا, لأنها تعلم أن رسالتها إنما إخصاب ” النعم” أو رفض ” اللا” فى كل برنامج بشرى؟؟؟؟
W تلك التى, إذا شاهدت ضحل الإيمان عـند الناس وشعرت بأن الزورق يكاد يغـوص فى المياه, لا تمسك بالسوط, وتكتفى بأن تقـول:” لماذا تخافون؟”, بل كما قال المسيح بكل الحب والحنان والتفهم والعـمل: [ تَشَجَّعُوا ! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا… يَا قَلِيلَ اَلإِيمَانِ لِمَاذَا شَكَكْتَ؟… وَلَمَّا دَخَلاَ السَّفِينَةَ سَكَنَتِ اَلرِّيحُ ] [ متى 14: 27, 31, 32] …
W تلك التى تفضل أن تزرع الآمال عـلى أن تحصـد الدموع…
W تلك التى, إذا التقت الهراطقة, تفضل ان تقاومهم وتتغـنى بإيمانها الخالد غير المتزعزع الذى أساسه الوحى الإلهى…
W تلك التى تقول ببساطة إن ما نعرفه عـن الله أقـل بكثـير مما نجهـله, ولكن نؤمن أنه الألف والياء الأول والآخـروالبداية والنهاية…
W تلك التى تسمح لنفسها بأن تسير دومـًا فى الطليعة وأن تواجه أى خطـر, لأنها تؤمن بوعـد إلهى لا يزول, [ وَأَبْوَابُ اَلْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا ] [ متى 16: 18 ]…
W تلك التى تعـى أنها إذا ما خطئت أو ضلّت, فلا ضـير فى ذلك على المسيح…
W تلك التى تقـول بصـدق ودون تجـبّر:” نحن شعب يسير نحو هـدف واحـد, ويتوجبّ علينا أن نسير معـًا اليد فى اليد, ونشرب من الماء الواحد, ونجتاز المخاطـر نفسها”…
W تلك التى, إذا ما أخطأتُ, تساعدنى على الاهتداء إلى مستقيم السبيل, ولا تدفعنى إلى الخروج عـنها خروجـًا ما بعـده خروج…
W تلك التى تـبرهن للعالم أنه من الممكن التوفيق بين أقصى حد من الحـرية الإنسانية والطاعة للخالق : ” الحرية المنضبطة”…
W تلك التى تحسن إعطـائى ” مجانـًا” ما أخذته ” مجانـًا”…
W تلك التى تقيم البرهـان عـلى أن السعادة فى هذه الدنيا ممكنة دون المال والقدرة…
W تلك التى لا تفرض أحمالاً لاتستطيع هى حملها, مما تنوء به كواهل الفقراء…
W تلك التى تقـدم لى بسخاء كل غـناها الروحى, دون أن تفـرضه عـلىّ تحت طائلة العـقاب…
W تلك التى تؤكد لى أننى أزداد مسيحية بقدرما أزداد بحثـًا وتساؤلاً وتعـمقـًا من أجل المزيد من الإيجـاد…
W تلك التى تصغـى بجدية وآمال معـقـودة إلى أصوات الفقراء والضعـفاء, أكـثر منها إلى أصوات الأغـنياء والمقـتدرين, لأنها تعلم أن الفقراء أوفـر حرية وأقـل تورطـًا وأكـثر انفـتاحًا عـلى الإله الذى لا ينفـك يدعـو البشر…
W تلك التى دعوتها هى المدافعـة عـن كل حق إنسانى, وليست حماية للامتيازات, سواء كانت لها أو لسواها…
W تلك التى تخلّص وهى تبارك وتسامح وتعـذر, أكـثر منها وهى تعاقب…
W تلك التى تؤمن بالمسيح أكـثر منها بالمصارف والسياسة…
W تلك التى تبتغى النصر لا عـن طـريق القـدرة, بلّ عـن طريق القـوة العجيبة المقـدسة الكامنة داخلها وتحفظها…
W تلك التى تمنح الذين يؤمنون بها والذين يناهضونها, على حد سواء, الحرية والثقـة…
W تلك التى تشكّ فى أمانتها للمسيح إن هى لم تُعان, لفـترة طويلة, من اضطهاد الذين يسحقـون الشعب والحريات…
W [ حِينَئِذٍ يُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى ضِيقٍ وَيَقْتُلُونَكُمْ وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنْ جَمِيعِ الأُمَمِ لأَجْلِ اسْمِي ] [ متى 24: 9]…
W تلك التى لا تكتفى بألا تكون غـنية إلا فى إيمانها وشعبها…
W تلك التى يختار خدّامها الجماعة المسيحية بارشاد الروح القدس, لا الذين يمارسون الضغـوط…
W تلك التى تؤثـر لرعاتها صدقـًا يؤلم ولكنه يوقـظ, عـلى تبخـير يدغدغ ولكنـه يبعث عـلى الرقـاد…
W تلك التى تُعجَب بالجروح التى أصيب بها أبناؤها وهم يناضلون فى سبيلها, أكـثر منها بما يتحلى به من نزاهـة أخلاقية وعقلية ودينية أولئك الذين يعيشون فى دفء الوظائف والمراتب: [ وَلاَ تَخَافُوا مِنَ اَلَّذِينَ يَقْتُلُونَ اَلْجَسَدَ وَلَكِنَّ اَلنَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ اَلَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ اَلنَّفْسَ وَاَلْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ ] [ متى 10: 28]…
W تلك التى إذا واجهتنى أية من مشاكل الحياة, تستطيع أن تعطينى لا جوابها هى, بل جواب المسيح, وإن عَـجَزَتْ عـن الإجابة فتدعـونى إلىالمساهمة معها فى بحث مشترك…
W تلك التى تعـترف متواضعـة بأنه لم يثفسّر حتى الآن من الوحى تفسيرًا نهائيًا ثايتـًا سوى جزء ضئيل…
W تلك التى تقبل مسرورة أن يزرع الله فى حقول غـير حقولها, ويحصد هناك ما قد يفوق الحصاد عـندها…
W تلك التى تدرك أنها معـرضة للخطأ فى بحثها ونضالها, ولكنها لا تشك البتة فى المسيح رجائها…
W تلك التى لا تقدّم لى إلهًا مثلجـًا جامـدًا, بل إلهـًا حيـًا, حاضـرًا, لا يزال يتكلم, إلهـًا نستطيع اكتشافه فى كل لحظة لأنه معين لا ينضب…
W [ أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ ] [ يوحنا 5: 17 ]…
W تلك التى بوسعها أن تزرع فى كل ثقافة, وكل لغـة, وكل فـن راقٍ, وكل تقنية, وكل تاريخ من تواريخ البشر…
W تلك التى لا تخشى أن تخطئ من جـرّاء تمسكها الزائد بروح الإنجيل, بقدر ما تخشى الخطأ من جرّاء التشبث المفرط بسلطتها وصلاحيتها…
W تلك التى تكلمنى عن الله أكثر منها عن الشيطان, وعـن السماء أكثر منها عـن الجحيم, وعـن الجمال أكـثر منها عـن الخطيئة, وعـن الحـرية اكـثر منها عـن الطاعـة, وعـن الرجاء أكـثر منها عـن السلطة, وعـن المحبة أكـثر منها عـن الأبدية, وعـن المسيح أكـثر منها عـن ذاتها, وعـن العالم أكـثر منها عـن الملائكة, وعـن جوع الفقراء أكـثر منها عـن المساهمة مع الأغـنياء, وعـن الخـير أكـثر منها عـن الشرّ, وعمّا هو حـلال أكـثر منها عمّا هو حـرام, وعمّا هو لا يزال قابلاً للبحث والتنقيب أكـثر منها عمّا هو فى حـيّز العلم, وعـن اليوم أكـثر منها عـن البارحة…
W تلك التى لا تخشى الذين يخوضون فى سبل ومجالات جديدة, بل تدفعهم فيها وتحميهم…
W تلك التى تدافع عن القديسين فى حياتهم لا بعـد مماتهم…
W تلك التى لا تخاف كل ما يستجد عليها ولم تختبره بعد…
W تلك التى تختلى على رأس الجبل إذا ما حاولوا أن يجعلوا منها ملكة, وتقـدم يديها طوعـًا للمسامير, لأنها على ثقة من أن الموت فى سبيل المسيح تعقبه الحياة, فيما انتصار الجـبروت يعقبه الخـذلان…
W تلك التى توفـق بين أن تكون معلمة وتلميذة فى آن واحـد…
W تلك التى هى النقطـة المركزية لكل ما يُبذل من محاولات ليصبح الإنسان أكـثر إنسانية…
W تلك التى تسير دومـًا أمام القطيع عـلى غـرار الرعـاة الشرقيين, وهى مستعـدّة أبدًا لمواجهة هجمات السارقين, بدل أن تنتظـر فى المؤخـرة ليضحّى الآخـرون بحياتهم, فتبارك ما قاموا به بعد أن تكون دانت تهورّهم…
W تلك التى تعـتبر أن المسيح هو مقياس الإنسان, فى حين أن الإنسان هو مقياس الخليقـة جمعـاء…
W تلك التى لا تفـرض عـلىّ أن أتخلّى عـن شخصيتى لأكون مسيحيـًا, ولكنها تساعـدنى عـلى اكتشاف ما زرعـه الله فىّ من عجـائب وثروات…
W تلك التى تؤكد لى أن الفصـح قد انتصـر وأننا بدأنا نُبعث من الأموات, وأننا نمهّد السبيل لأرض الغـد التى لن تزول ولن تدول, وأن إلهنا الحى هو هنا, يعجز عنه الوصف, هـو لنا ويختلف عن كل شئ, هو يبحث بطبيعـة حاله إلى المتعـثرين, والمهانين, والمجهولين, والمشردين الذين لا موطن لهم, والمتضورين جوعـًا, والآخـرين الذين هم سواء والعـدم, ليقيمهم كما كان هو باكورة القائمين من بين الأموات…
W تلك التى كل همها ان تسعى إلى الأصالة لا العـدد, أن تكون بسيطة تشـرّع نوافـذها للنـور لا مقــدرة, أن تكون مسكونية لا عقائدية جازمة, أن تكون قديسة لا أن تكسب تصفيق الجماهير, أن تكون للجميع لا أن تكون جامدة منعزلة…
W تلك التى تترك لى الحرية كاملة لأتخذ قراراتى بما يرضى ضميرى…
W تلك التى بوسعها أن تدرك وتقـدّر, كما لا يدرك ولا يقـدّر سواها, عـمل الروح القـدس فى أعـماق ذاتى…
W تلك التى تـنير ضمـيرى دون ان تحـلّ محـلّه…
W تلك التى لا خُـلقية لها إلا تفـوّق المحبّـة عـلى كل شئ…
W تلك التى تقـدّم لى إلهـًا أستطيع أن أكلمّه وأتعامل معه, وهو من الاختلاف عنى بحيث أستطيع أن أجـد فيه ما لا قِبَل لى به حتى فى الحـلم…
W تلك التى هى أم اكـثر منها ملكة, ومحـامى أكـثر منها قاضٍ ديّـان, ومعلّم أكـثر منها شرطى…
W تلك التى رسالتها وجوهرها وكلامها وحياتها ودعوتها هى ” نعم” , ” لتكن مشيئتك” , ” قم وامش” , ” اذهـبوا وعمدوا” ,” اطلبوا واقرعوا”,” وارموا الشباك ثانية” , بدل أن تكون ” كلا”, ” اتظروا” , ” عودوا إلى ماكنتم عليه”, ” وكفوا”, ” قفوا”…
W تلك التى تستطيع أن تكون رؤوفة بكل ضعف, وجبارة فى وجه كل رياء وخبث, ولا يمكنها ان ترمى بجواهرها للخنازير…
W تلك التى نارها مشتعلة أبدًا لمن يرتجفون بردًا, والتى خـبزها حاضر أبدًا لكل جائع, وبابها مشرّع, ونورها يضئ, وسريرها جاهـز للذين يسيرون تعـبين, باحثين عـن حقيقة وحب لم يُعط لهم بعـد العـثور عليهما…

قـد يرتاح غـيرى إلى وجه للكنيسة آخـر..

أمّا أنا فهكـذا أحبها لأنى بذلك أرى فيها, بما لا يدع مجـالاً للشك, حضـور المسيح الحىّ, المسيح المحب , المسيح المصلوب من أجلى, الذى لم يأت للدينونة بل للخـلاص…

إلهى رقـيق

إلهى ليس إلهـًا قاسيـًا, مُغْـلَق القلب, عـديم الشعـور والإحساس…
[ هُوَذَا فَتَايَ اَلَّذِي اِخْتَرْتُهُ حَبِيبِي اَلَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. أَضَعُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْبِرُ اَلأُمَمَ بِالْحَقِّ. لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي اَلشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ حَتَّى يُخْرِجَ اَلْحَقَّ إِلَى اَلنُّصْرَةِ. وَعَلَى اِسْمِهِ يَكُونُ رَجَاءُ اَلأُمَمِ ] [ متى 12: 18 ـ 21]…
إلهى رخص رقـيق…
أنـا من جبلته…
إنه تأنس, وجعلنى شريكـًا فى طبيعته الإلهية…
[ كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلَهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ،
اللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ ] [ 2 بطرس 1: 3, 4]…
يريدنى أن أتذوق الألوهـة, فيحبنى على تفاهتى…
إلهى جعـل الحب رخصـًا…
إلهى شارك أفراح البشر, عـرف الصـداقة وما توفـره الأرض والأرضيات من سعادة…
إلهى عرف الجوع والتعب والألم…
إلهى كان حساسًا…
[ وَبَكَى يَسُوعُ ] [ يوحنا 11: 35]…
إلهى غضب…
وكان وديعـًا كالطفـل…
إلهى ارتعـد أمام الموت…
إلهى حوته أم فى أحشائها ورضع حنان المـرأة…
[ يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَسَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُم ] [ متى 2: 3, 4]…
[ وَكَانَ خَاضِعاً لَهُمَا. وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هَذِهِ اَلأُمُورِ فِي قَلْبِهَا ] [ لوقا 2: 51]…
إلهى أبرأ المرضى والمتألمين…
[ وَعِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانَ عِنْدَهُمْ سُقَمَاءُ بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدَّمُوهُمْ إِلَيْهِ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَشَفَاهُمْ ] [ لوقا 4: 40]…
إلهى اضطهـدوه,
إلهى هللوا له…
[ أُوصَنَّا لاِبْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي! ] [ متى 21: 9]…
إلهى أحبّ كلّ ما يمت إلى البشر, إلا الخطيئة…
[ مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ ] [ يوحنا 8: 46]…
إلهى كان من أهـل زمانه…
لبس ما يلبسه جميع الناس, وتكلّم بلغـة بلاده, وعمل بيديه, وجلجل صوته كما دوىّ صوت أنبياءه…
إلهى كان ضعـيفـًا مع الضعـفـاء, وصارمـًا مع المتكبرين…
مات شابـًا لأنه كان صـادقـًا مخلصـًا…
قتلوه لأنه عـلى حـد زعمهم خـان الحقيقة…
[ اُصْلبْه أُصْلُبْه ] [ يوحنا 19: 6]…
إلا أن إلهى مات لا يعـرف الضـغـينة…
مات وهو يعـذر, وذلك أعظم الغـفـران…
[ يَاأَبَتَاهُ اِغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ ] [ لوقا 23: 34]…
إلهى رخص رقـيق…

إلهى ولّى ظهـره للخُلُقـية العـتيقة, خُلُقـية ” العين بالعين والسن بالسن”, خُلُقـية الثـأر السخيف, لينشئ نوعـًا جـديدًا من الحب…
[ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا اَلشَّرَّ بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضاً. مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ اَلرِّدَاءَ أَيْضاً. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَاذْهَبْ مَعَهُ اِثْنَيْنِ. مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ ] [ متى 5: 38 ـ 43]…
إلهى يُطـرح أرضـًا ويعـفـّرون جبينه فى التراب, ويخـونونه, ويخـذلونه, وهو إلى ذلك لا ينـفـك يحبّ…
لـذا فـقـد سار إلهى إلى الموت…
وبين يديه نبتت ثمـرة جـديدة, القيامـة…
المسيح قام…بالحقيقة قام
بها نُبعـث جميعـًا…
إلهى ليس بالسهل, إلهى رقيق, إلهى الذى يبكى, إلهى الذى لا يدافع عن نفسه…
إلهى الذى يجب عليه أن يموت لينتصـر…
[ وَاِبْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ اِبْنَ اَلإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً وَيُرْفَضَ مِنَ اَلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ اَلْكَهَنَةِ وَاَلْكَتَبَةِ وَيُقْتَلَ وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ ] [ مرقس 8: 31]…
[ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ اِبْنُ اَلإِنْسَانِ فِي أَيْدِي أُنَاسٍ خُطَاةٍ وَيُصْلَبَ وَفِي اَلْيَوْمِ اَلثَّالِثِ يَقُومُ ] [ لوقا 24: 7]…
إلهى الذى جعـل من لصّ مجرم أول قديس مطوّب فى كنيسته…
[ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ اَلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي اَلْفِرْدَوْسِ ] [ لوقا 23: 43]…
إلهى الشاب الذى مات وقـد اتهموه بأنه مشاغب سياسى…
إلهى الكاهن النى الذى حُكم عليه بالإعدام على خشبة, فكان موته أول وصمة عـار فى سجـل محاكم التفتيش الدينى فى التاريخ…
إلهى الرقيق ليس بالسهل المراس, إلهى صديق الحياة, إلهى الذى عضه ناب التجارب جميعـها ….
إلهى الذى تصبب منه العرق دمـًا يخضع لمشيئة أبيه…
[ وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى اَلأَرْضِ ] [ لوقا 22: 44]…

هذا الإله ليس بالسهـل…
إلهى الرقيق ليس بالسهـل مع جميع الذين لا ينتصرون إلا بالغلبة, ولا يدافعـون عـن أنفسهم إلا بزرع الموت…
ليس هو بالسهل مع الذين يجعلون الخـلاص مرادفـًا للاجتهاد لا العطـاء…
للذين يرون أن شئون البشر هى سواء والخطيئة…
للذين لا يرون فى القديس إلا حكيمـًا متقشفـًا, وما كان المسيح فى نظرهم سوى ملاك…

إلهى رقيق ليس بالسهل…
ما كان سهلاً للذين لا ينفكون يحلمون بإله لا يشبه الإنسان…
[ فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ.
هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ.
وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً ] [ يوحنا 1: 1, 2, 14]…

رجاء:
أرجو أن يستخرج القارئ آيات أخرى من الكتاب المقدس كتدريب للتأمل ومعايشة للمقال…

عـلامَ تقوم الدينونة

المسيح هو الديان…
[ وَأَعْطَاهُ سُلْطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً لأَنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ.
لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هَذَا فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ
فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ ] [ يوحنا 5: 27 ـ 29]…

ومن وجهة نظر أخرى …
فإننا نحن الذين ننطق بالحكم عـلى أنفسنا:
[ إِذاً لاَ شَيْءَ مِنَ اَلدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى اَلَّذِينَ هُمْ فِي اَلْمَسِيحِ يَسُوعَ اَلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ اَلْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ اَلرُّوحِ ] [ رومية 8: 1 ]…

إن الدينونة كما يؤكد الإنجيل بحسب القديس يوحنا تتم باستمرار طوال فترة وجودنا عـلى الأرض…
[ اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ ] [ يوحنا 12: 31]…
فكلما اخترنا الخير والصلاح فإننا سندخل مسبقـًا منذ الآن إلى الحياة الأبدية…
وحينما نختار الشر فإننا ننال من الآن تذوقـًا مسبقـًا للجحيم…
من الأفضل أن نفهم ” الدينونة الأخـيرة” عـلى أنها لحظة الحق…
حينما ينكشف كل شئ فى النور…
حينما تصير كل اختباراتنا مكشوفة لنا بكل ما تتضمنه من نتائج…
وحينما نعرف بوضوح كامل من نحن وماذا كان المعنى العميق لحياتنا وما هو هدفها؟…
وهكذا, فبعد هذا التوضيح الكامل ـ فإننا سندخل بالنفس والجسد متحدين معـًا ـ إما إلى السماء أو إلى جهنم…
أى إما إلى الحياة الأبدية أو إلى الموت الأبدى…

من أشد صفحات الإنجيل بعـثـًا عـلى الخوف, تلك التى تصـوّر لنا ” الدينونة الأخـيرة”…
فإننا نشعـر لدى مطالعـتها بأنها تحمـل لنا تعـليمًا للمسيح شديد اللهجة, عـسير القـبول, صعـب التفسير, محـيرًا…

ذلك بأننا ما زلنا نجـرّ وراءنا بعـد عـشرين قرنـًا من المسيحية, رواسب الروح اليهودية المتزمتة المتمسكة بالحـرف والشريعـة…
فـنربط بين الخـلاص والطـقـوس والشرائع والوصايا والبعـد الأفـقى فى حب الله…
وبطبيعـة الحال نشعـر بأن مثلاً كمثل الدينونة الأخيرة لا يبعـثنا عـلى الارتياح…

أهمية هذا المثل غـنية عـن البيان…
فالمسيح يخاطبنا فيه عـن الفـترة الحاسمة فى وجـود الإنسان, عـن الوقت الذى يُطـلب منه تأدية الحساب لخالقه…
وأسلوب المثل نفسه لا يخـلو من عظمة, كما أنه لا يدعـو إلى أى التباس…
فالكـلام يدور عـلى الدينونة والخـلاص, عـلى البركة واللعـنة, عـلى الدعـوة والرفـض, عـلى الأبدية…

والمسيح نفسه يكشف ثمة أحـد أعظـم الأسرار المطـروحة عـلى الإنسان…
سرّ سبق لعلماء الشريعـة أن سالوه عـنه مستفسرين…
فيكشف عـن مقاييس اختيار الله للبشر…
يكشف عـن الحقيقة المجردة لما هو مسيحى وما ليس مسيحى…
فيعلن لمّا تأزف ساعـة الحقيقة…
من سيدخـل ملكوته ومن سيبقى عـند الباب للأبـدّ…

المـثل بيّن, واضح كل الوضـوح, والأطفـال أنفسهم يحسنون فهمه…
ولعـل هذا الوضـوح العـظيم بالذات…
ولعل هذا النور الباهر المنبعـث منه هو ما يعـمى بصائرنـا…
وقد اعـتادت عـلى تقـويم أمـور الله بمقاييسنا المعـقـدة ومنطـقـنا الذى يحسب ألف حساب…

وما يحـيّر فى هذا المثل لا يمت على المثل نفسه…
بلّ إلى الإله الكامن فيه…
إله لا يقـاس بعـلومنا الرياضية…
إله أقـترب ما يكون إلينا ولكنه أبعـد ما يكون أيضـًا…
لأنه ” مختلف” …
لأنه ” متمـيّز”…
لأنه ” الآخـر”…

فماذا يقـول المثل؟…
فى إنقـضاء الزمان يجلس ابن الإنسان عـلى عـرشه ويدن العـالم…
وكما يفصل الراعى بين النعـاج والتيوس, سيفصل بين الأبرار عـن الأشرار…
وسيقيم الأبرار عـن يمينه…
وهو مقـام الشرف…
والأشرار عـن يساره…
وسيقـول المسيح للذين عـن اليمين:
[ تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ.
لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي.
عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ ] [ متى 25: 34 ـ 36 ]…
فيجيبون متعجبين:
[ يَارَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً فَأَطْعَمْنَاكَ أَوْ عَطْشَاناً فَسَقَيْنَاكَ؟
وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيباً فَآوَيْنَاكَ أَوْ عُرْيَاناً فَكَسَوْنَاكَ؟
وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ ] [ متى 25: 37 ـ 39 ]…
فيقـول الملك:
[ بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ ] [ متى 25: 40 ]…
ثم يقـول للآخـرين:
[ اِذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى اَلنَّارِ اَلأَبَدِيَّةِ اَلْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ
لأَنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي. عَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي.
كُنْتُ غَرِيباً فَلَمْ تَأْوُونِي. عُرْيَاناً فَلَمْ تَكْسُونِي. مَرِيضاً وَمَحْبُوساً فَلَمْ تَزُورُونِي ] [ متى 25: 41 ـ 43 ]…
فيجيبه هؤلاء أيضـًا:
[ يَارَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً أَوْ عَطْشَاناً أَوْ غَرِيباً أَوْ عُرْيَاناً أَوْ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً وَلَمْ نَخْدِمْكَ؟ ] [ متى 25: 44 ]…
فيجيبه الملك:
[ بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هَؤُلاَءِ اَلأَصَاغِرِ فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا ] [ متى 25: 45 ]…

لقـد سمّى أحدهم هذا المثل مثل ” الملحـدين” لأنه يشير إلى أن الجميع فى ذلك اليوم, المسيحيين وغـير المسيحيين, سيكتشفون أنهم لم يعرفوا المسيح حقـًا, وسيطرحون عـليه جميعـًا السؤال نفسه متعـجبين:
[ يَارَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ؟ ]…

وقـال لى ذات يوم أحـد العلمانيين المتشرّبين روح الإنجـيل:
{ فى هذا المثل يتم لنا ما اعـلنه المسيح لرسله: أنطق بالأمـثال لكيما يسمعونها ولا يفهمون }…
وأردف قائلاً: { مضت عـلينا قـرون من المسيحية وما زالت هذه الصفحة من الإنجيل تـثير منا العـجب بحيث لا نـزال نسئ فهمها, فنـؤثر التقـليل من أهميتها أو نسدل عـليها ستارًا من النسيان }…

أمّا سبب ذلك, فلنقـله بصـراحة:
هو أن المسيح هنا يحطم مفاهيمنا المصطنعـة المسبقـة, ويهدم بناءنا الدينى الجميل بأسره…
بناء أٌسّس عـلى الظـواهـر لا تهبّ فيه الروح…

لو قيض لنا ان نضرب هذا المثل, لجعـلنا للمسيح الديان معـيارين مختلفين لدينونة المؤمنين والملحـددين…
المسيحيين وغـير المسيحيين…
وأننا ولو كنا تحاشينا مواقف اليهود المتطرفة, التى تجـود بالرحمة عـلى إسرائيل وتقضى عـلى الوثنيين…
إلا أنّـا لمّا كنا ترددنا فى أن نمنـح المزيد من الرحمة للذين يموتون عـلى الإيمان…
بيد أن فى المثل أمرين هما فى غـاية الوضوح…
يقـول الإنجيل:
[ لأَنَّ جَمِيعَ اَلأُمَمِ سَيَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ، لأَنَّ أَحْكَامَكَ قَدْ أُظْهِرَتْ ] [ الرؤيا 15: 4]…
أى أن الجميع سيحاسبون …
لأن الجميع لله ولأنه تعالى كان حاضرًا فى تاريخ الجميع…

ولا يقـوم الاعـتراض الذى راجت سوقه فى ما مضى, من ان الدينونة لا تطال إلا المؤمنين لأن الجميع يكونون قد اهتدوا فى ذلك اليوم…
فقد كتب المفسر الشهير ” شميدت” منذ ربع قرن :
{ من المستحيل أن نقصر الدينونة على المسيحيين وحدهم, أو نفترض أن جميع الشعوب والإنسانية بأسرها ستكون فى يوم الدينونة عـلى إيمان الإنجـيل, ما يجـرى هـنا يهمّ فى الواقـع جميع الناس, الوثنيين منهم واليهود والمسيحيين }…

ستجـرى الدينونة بموجب مقياس وحـيد شامل يسرى عـلى الجميع:
[ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ حَقّاً أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ, فَهُوَ مَوْلُودٌ مِنَ الله. وَمَنْ يُحِبُّ الْوَالِدَ، فَلاَبُدَّ أَنْ يُحِبَّ الْمَوْلُودِينَ مِنْهُ أَيْضاً.
وَمَا يُثْبِتُ لَنَا مَحَبَّتَنَا لأَوْلاَدِ اللهِ هُوَ أَنْ نُحِبَّ اللهَ وَنَعْمَلَ بِوَصَايَاهُ.
فَالْمَحَبَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِلهِ هِيَ أَنْ نَعْمَلَ بِمَا يُوصِينَا بِهِ. وَهُوَ لاَ يُوصِينَا وَصِيَّةً فَوْقَ طَاقَتِنَا.
ذَلِكَ لأَنَّ الْمَوْلُودَ مِنَ اللهِ يَنْتَصِرُ عَلَى الْعَالَمِ. فَالإِيمَانُ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُنَا نَنْتَصِرُ عَلَى الْعَالَمِ.
وَمَنْ يَنْتَصِرُ عَلَى الْعَالَمِ إِلاَّ الَّذِي يُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ابْنُ اللهِ؟ ] [ 1 يوحنا 5: 1 ـ 5]….

سواء كانوا مسيحيين أو لم يكونوا…
وهـذا المقياس أنْ هو إلا ما فعـلوه من خـير…
لا ليستعطفوا بركات الله أو لينالوا أجـرًا كان القـريب فيه وسيلة…
بل حـبًّا للإنسان لمجرد حبّه ولمجـرد كونه إنسانـًا…
وهـذا المقياس سيُعمل بموجبه فى هذه اللحظة مع المؤمن والملحد على السواء…
لأن شريعة المحبة والنزعـة إلى الخـير والدعـوة إلى التآخى هى مكتوبة فى باطن كل إنسان قبل أن تتلى عـليه عـن طريق الوحى الخارجى…
وهـذا المعيار محـيّر جد محـيّر…
يذهـل له المسيحيون والتلاميذ أنفسهم…
فيهتفـون وكأنى بهم ملحدون: [ مَتَى َأَطْعَمْنَاكَ أَوْ َسَقَيْنَاكَ أَوْ َكَسَوْنَاكَ ؟] …
ذلك بأنهم كانوا واثقين من أنهم مارسوا الصلاة وأعلنوا الإنجيل, وأوجـدوا المسيح بين البشر تحت شكل سر الأفخارستيا, واعترفوا به أمام الملأ, وزاروه فى بيت القربان, وصاموا حبـًا له, وتألموا فى أجسادهم ليتحـدوا بآلامه وموته…
لأمّا أن يُدْعَـوا ” طوباويين” من أجـل مافعلوه للمسيح عـلى غـير عـلم وفهم ـ لأنهم أطعموه هو وزاروه هو فى سجنه ـ فذلك ما لا يفهمونه:
” أحقـًا فعلنا لك؟, ومت كان ذلك؟ “…

إن مقياس الدينونة هـذا, مقياس محـبّة القـريب, لا يحـيّرنا نحن المسيحيين…
فلو ضربنا نحن هذا المثل , لرويناه عـلى نحـو مختلف…
ولكنا راعينا, دون شك, جانب محية القريب, إلا أننا كنا أولينا الصـدارة لمقاييس أخـرى كالتوبة, والإيمان بالإنجيل
[ فَقَالَ يَسُوعُ: { الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ.] [ يوحنا 3: 3, 5]…
والاعتراف بالمسيح:
[ مَنِ اِسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي فِي هَذَا اَلْجِيلِ اَلْفَاسِقِ اَلْخَاطِئِ فَإِنَّ اِبْنَ اَلإِنْسَانِ يَسْتَحِي بِهِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِ أَبِيهِ مَعَ اَلْمَلاَئِكَةِ اَلْقِدِّيسِينَ ]
[ مرقس 8: 38 ]…
والوصايا العشر:
[ أَنْتَ تَعْرِفُ اَلْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. لاَ تَسْلِبْ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ ] [ مرقس 10: 19]…
وحب الله:
[ تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ] [ لوقا 10: 27 ]…
وطهارة القلب:
[ طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللَّهَ ] [ متى 5: 8]…
والتواضع, والتجـرّد عـن العواطف والأموال الأرضية:
[ مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ اَللَّهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَهُ ] [ مرقس 10: 15 ]…
والألم:
[ وَلاَ تَخَافُوا مِنَ اَلَّذِينَ يَقْتُلُونَ اَلْجَسَدَ وَلَكِنَّ اَلنَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ اَلَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ اَلنَّفْسَ وَاَلْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ ] [ متى 10: 28]…
والأمانة لأسرار المسيح و الكنيسة, إلى ما شابه ذلك…

لقـد انصرفت منذ اثنتى عشر سنة إلى الدراسة الجـدّية لكـلام الله, ولم أفـوّت عـلى فرصة واحـدة للتطـرّق إلى مفارقات هذه الصفحة { الآيات} من إنجيل متى مع من كنت التقيهم من خـيرة المفسرين واللاهوتيين والأساقفة…
ففى كل مرة كان السؤال نفسه يتبادر إلى لسانى:
لماذا لا يتكلّم المسيح إلا عن حب القريب, وعـن حب للقريب لا عـلاقة مباشرة مـع الله ـ إذ يشير الإنجيل إلى أن الأبرار يتعجبون لما يعزو المسيح إلى نفسه ما قد فعلوه للبشر: ” متى أطعمناك أنت”؟…

لقد جمعت مئات الأجوبة من مئات الإختصاصيين, وكلها تنطق بالمقال نفسه: إنها صفحة مذهلة غـريبة…
لا جـرم أنه من الخطورة بمكان…
ومن محـيّر الأمور بمكان فى رأينا, أن يضرب المسيح صفحـًا عـن كل المقاييس التى قد نجعلها نحن فى المقدمة…
بيد أنه من الواضح أن المسيح وإن لم يرفض المقاييس الأخـرى…
إلا أنه يميل إلى إعطاء الأهمية ساعة الدينونة, إلى محبة القريب…
إلهنا يعـتبر بارًا من أحبّ الناس بصـدق وسخاء من خلاله…
ويعـتبر مرذولاً من لم يحب قريبه…
حتى إن هو أكـثر من الصـلوات وبالغ فى الإيمان واجـترح المعجـزات…

أمّا المسيح فموقفه يذهلنا…
منطقنا البشرى ـ شتان ما بينه وبين المنطق الإلهى ـ يلجأ إلى الاستنتاج التالى:
فإن تكلّم المسيح عـن محبة القريب فلأنه يفترض وجود كل ما سواها…

ذلك بأنه يبدو لنا من باب المستحيل أن يحب المرء قريبه حبـًا مخلصـًا حقـًا دون الإيمان العميق بالله, دون التقـوى, دون إماتة الحواس, دون ممارسة الأسرار بتواتر, ونعـتبر بالنتيجة أن من يحب قريبه يقيم البرهان عـلى أنه كان أمينًا فى سائر الأمور الأخـرى…

أما منطق المسيح:
فهـو فى غاية الوضـوح, وكفى دليلاً الرجـوع إلى الإنجيل بحسب القديس متى
[ لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ اَلَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاوَاتِ ] [ متى 7: 21 ]…
فثمة يقول المسيح إنه إذا ما حلّت ساعة الدينونة, سيُبرز الكـثير من المؤمنين سجلاتهم…
ولكنها لن تجديهم نفعـًا ما لم تكن أيديهم ملأى بحب القريب:
[ كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذَلِكَ اَلْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟] [ متى 7: 22]…
فيقول الله لهم:
[ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اِذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي اَلإِثْمِ! ] [ متى 7: 23]…

ولقد خاطبهم قبل ذلك بقليل عن الشجـرة التى تأتى بالثمار الطيبة…
فما يستهوى المسيح هو القلب الطيب, الثمر اليانع اللذيذ, ولا يهمه أين وأنّى أيْـنَع, أكان فى الشرق أم فى الغـرب, عـلى ضفاف الإيمان الخصيبة أم فى صحارى الإلحاد القاحلة…
فإن كان الثمـر رديئـًا أو معـدومـًا, فما نـفـع القـول إن الشجـرة ارتـوت بمياه العـماد ودماء الذبيحة أو إنها تغـذت بشمس الإيمان الوهّاجة…
إن ذلك الثمـر لعـديم النفع, وإنه لردئ…
ولقد قال القديس بولس فى هذا المعنى:
[ إِنْ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ اَلنَّاسِ وَاَلْمَلاَئِكَةِ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَقَدْ صِرْتُ نُحَاساً يَطِنُّ أَوْ صَنْجاً يَرِنُّ.
وَإِنْ كَانَتْ لِي نُبُوَّةٌ وَأَعْلَمُ جَمِيعَ اَلأَسْرَارِ وَكُلَّ عِلْمٍ وَإِنْ كَانَ لِي كُلُّ اَلإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ اَلْجِبَالَ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلَسْتُ شَيْئاً.
وَإِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئاً] [ 1 كورونثوس 13: 1 ـ 3]…

أجـل إنه من الثابت أن أحـد السبل إلى الخـلاص, بحسب المفاهيم الإنجيلية…
هو الالتزام حبـًا للقريب والأخ…
هو الالتزام بحب القريب من أجل ذاته…
أى بدافع من متطلبات الحب الباطنة…
وما هذا الحب فى مصدره إلا الجوهر الإلهى …
[ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً: لأَنَّ الْمَحَبَّةَ تَصْدُرُ مِنَ اللهِ. إِذَنْ، كُلُّ مَنْ يُحِبُّ، يَكُونُ مَوْلُوداً مِنَ اللهِ وَيَعْرِفُ اللهَ .
أَمَّا مَنْ لاَ يُحِبُّ، فَهُوَ لَمْ يَتَعَرَّفْ بِاللهِ قَطُّ لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ!
وَقَدْ أَظْهَرَ اللهُ مَحَبَّتَهُ لَنَا إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الأَوْحَدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ.
وَفِي هَذَا نَرَى الْمَحَبَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ، لاَ مَحَبَّتَنَا نَحْنُ لِلهِ، بَلْ مَحَبَّتَهُ هُوَ لَنَا. فَبِدَافِعِ مَحَبَّتِهِ، أَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا
وَمَادَامَ اللهُ قَدْ أَحَبَّنَا هَذِهِ الْمَحَبَّةَ الْعَظِيمَةَ، أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، فَعَلَيْنَا نَحْنُ أَيْضاً أَنْ نُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً] [ 1يوحنا 4: 7 ـ 11]…

ونختم بقول سليمان الحكيم:
[ ‏فَلْنَسْمَعْ خِتَامَ اَلأَمْرِ كُلِّهِ: اِتَّقِ اَللَّهَ وَاِحْفَظْ وَصَايَاهُ لأَنَّ هَذَا هُوَ ‏اَلإِنْسَانُ كُلُّهُ. لأَنَّ اَللَّهَ يُحْضِرُ كُلَّ عَمَلٍ إِلَى اَلدَّيْنُونَةِ عَلَى كُلِّ ‏خَفِيٍّ إِنْ كَانَ خَيْراً أَوْ شَرّاً‏ ] [ جامعة 12: 13, 14]…

السلطة فى مفهوم المسيح

كل مرة نطالع فيها الإنجيل بإمعان دون سابق أحكام, نضطر إلى الإقـرار بأننا غالبـًا ما حاولنا مسخ صـورة المسيح…
ومن أصعـ ما يعترضنا فى قراءة الإنجيل قراءته ببساطة…
فالبساطة فيها قوى متفجرة…
لذا نخافها…
ونخاف بساطة إنجيل ” يُقـرأ” ولا ” يؤول”…

إننا نعـش فى زمن من أحرج أزمنة تاريخ الكنيسة { الكاثوليكية }…
فنقول أن الأزمة ضاربة أطنابها فى سائر الميادين…
أزمة فى السلطة…
أزمة فى الطاعـة…
والإيمان, والأخـلاق , والرجاء…
والجميع فى كل مكان يشعرون بحاجة ماسة إلى مضاعـفة الجهود للخروج من هـذه الأزمات, ظاهرة كانت أو حقيقة…
إلا أننى أخشى فى بعض الأحيان, أن تكون هذه الحاجة إلى حلّ الأزمة, رغـبة دفينة فى الرجـوع إلى هـدوء الماضى, والهروب مما تجلبه إعادة الأمور عـلى بساط البحث من عـدم ارتياح , والتنصّـل من الألم الناتج عـن كل تقـويم فى العـمق, وعـن كل اعـتراف دامٍ بأغلاطنا وحدودنا…

وفى خضم ظلمات هـذه الأزمة, لايزال المسيح فى نظـرنا, نحن المسيحيين, النور الأمين:
[ يَا رَبُّ إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كلاَمُ اَلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ ] [ يوحنا 6: 68]…
ولا بد لنا, ساعة أن تحتدم الأزمات فى تاريخنا المسيحى, من أن نتخطى الأجـوبة الفلسفية والثقافية والعلممية وما هو منها عـلى مستوى الإنسان فقط…
فهى وحدها لا تكفى…
وليكن المسيح جوابنا ” الحى”…
وليكن كلمة سهلة بحيث يستطيع كل إنسان أن يقـرأها…
كلمة عـصرية بحيث تساعـد فى حل كل المشاكل وأشدها خطـورة…
كلمـة تلبى أعـمق المتطلبات فى الذين يبحثون باستمرار, والذين يريدون أجوبة مستحدثة عـن مشاكلهم الخاصة…
والذين يحلمون بإله يعيش معهم, ويحل مشاكلهم…
شريطة أن يظـل كما كان, وإلى الأبد, إله المحبة…

كثرت المؤلفات اليوم حول ما يسميه بعضهم بأزمة السلطة…
فيما يشدد البعض الآخـر عـلى أن ثمة أزمة الطاعـة…
فهذا يقول:
{ الرؤساء لا يُطاعـون لأنهم لا يحسنون الخـدمة }…
وذاك يجيب:
{ المرؤوسون لا يُطيعـون لأنهم لا يحسنون التجـرّد }…

عـلّمنا المسيح مثالاً عمليـًا وهو الذى له السلطة والسلطان:
[ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: { الَّذِي قَدِ اِغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ }.
فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاِتَّكَأَ أَيْضاً قَالَ لَهُمْ : أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً وَحَسَناً تَقُولُونَ لأَنِّي أَنَا كَذَلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا اَلسَّيِّدُ وَاَلْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً. اَلْحَقَّ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ وَلاَ رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ] [ يوحنا 13: 10, 12 ـ 16 ]…

وأكد ذلك عندما تقدمت إليه أم ابنى زبدى وسألته أن يجلس أحد أبنائها عن يمينه والآخـر عن يساره فأجاب يسوع معلمـًا:
[ فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: { أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤَسَاءَ اَلأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ وَاَلْعُظَمَاءَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ . فَلاَ يَكُونُ هَكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيماً فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِماً وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ أَوَّلاً فَلْيَكُنْ لَكُمْ عَبْداً كَمَا أَنَّ اِبْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ } ] [ متى 20: 25 ـ 28 ]…

لا شك فى أن عـلوم النفس والاجتماع والتربية وسواها, تقـوم بدور جـدّ هام فى تفهم مظاهـر السلطة والطاعـة…
مما لا ينحصر فى النطاق الدينى فحسب…
بيد أننى أرى أن عـلم النفس وغـيره من العـلوم لا يمكنها أن تدلى لنا نحن المسيحيين بالجـواب الشافى…
فلا بد من اللجـوء للمسيح…
[ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا سَيِّدِي لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ وَأَنْتُمْ جَمِيعاً إِخْوَةٌ.
وَلاَ تَدْعُوا لَكُمْ أَباً عَلَى الأَرْضِ لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.
وَلاَ تُدْعَوْا مُعَلِّمِينَ لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ.
وَأَكْبَرُكُمْ يَكُونُ خَادِماً لَكُمْ.
فَمَنْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ يَتَّضِعْ وَمَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ يَرْتَفِعْ ] [ متى 23: 8 ـ 12]…

إن الذى يحب, والذى هـو أشد الناس حبـًا, هو الذى يستطيع, دون سواه, ممارسة الحكم والخدمة …
هـذا هـو المقياس الواجب اعـتماده فى اختيار الرؤساء…
بيد أنه من المؤسف أن مقاييسنا غـالبـًا ما تكون عـلى عـكس مقاييس المسيح…
لذلك احتفـظـنا بكلمة ” رئيس” …
أفتراه رئيسًا ذاك الذى يتوجب عـليه أن يُخـدَم من الجماعـة؟…
والمستهجن فى الأمـر أننا نسعى فى أن يكون الرئيس فى كل شئ إلا فى الشئ الذى شدّد المسيح عـليه قـبل سواه, وهـو المحبـّة…

يجب أن تُسدى مقاليد الخـدمة فى الأبرشيات والكنيسة, إلى من هو المتقـدم فى المحبة…
ولا ضـير إن كان أقـل تبصـرًا من الآخـرين, وأقـل ثقافة,
اللهم إلا إنْ كنا نبغى تغـيير الإنجيل والمسيح…
البسيط هو الذى لا يستحى بالمجاهرة بالإنجيل…
وإنه ليجاهـر به كاملاً وفى سائر المناسبات وأمام أى كان…
البسيط هـو الذى يتبيّن ما هو الجوهرى فى كل مسألة ولا يدع العـرضى يعـرقل مسيره…
يوم نتجاسر فنولى عـلى جماعاتنا المسيحية أناسًا من أمثال بطرس ويوحنا وبولس…
أناس شريعـتهم الوحيدة هى المحبـّة…
وأسلوبهم الرعـوى الوحـيد هو البساطة الإنجيلية…
أناسًا يشرعـون أبوابهم عـلى مصاريعها لكل مخاطـرة, ودفاع عـن الإيمان …
ورائدهم ما يرشدهم إليه روح الإله الحى…
أناسًا يلتهم حبهم المتأجج العـوائق البشرية فيكون نور رجاء وغـذاء لكل جائع إلى كلمة الله…
يومئذ تزول أزمة السلطة وتزول معها أزمة الطاعـة…

نحن بحاجة إلى قـوة جديدة لنستطيع قراءة الإنجـيل بعـين الأطفال وقلوبهم…
وما هى فى الحقيقة سوى عـينى إله المسيحيين وقلبه…
[ َكَأَطْفَالٍ مَوْلُودِينَ الآنَ اشْتَهُوا اللَّبَنَ الْعَقْلِيَّ الْعَدِيمَ الْغِشِّ لِكَيْ تَنْمُوا بِهِ ] [ 1 بطرس 2: 1, 2 ]…

عنف المسيح الجـديد

[ أَيَّامِ يُوحَنَّا اَلْمَعْمَدَانِ إلَى اَلآنَ مَلَكُوتُ اَلسَّمَاوَاتِ يُغْصَبُ وَاَلْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَهُ.
لأَنَّ جَمِيعَ اَلأَنْبِيَاءِ وَاَلنَّامُوسَ إِلَى يُوحَنَّا تَنَبَّأُوا.
وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا فَهَذَا هُوَ إِيلِيَّا اَلْمُزْمِعُ أَنْ يَأْتِيَ.
مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ ] [ متى 11: 12 ـ 15 ]…

يتفق المفسرون عـلى أن هـذه الآيات هـى من أصعـب فـقـرات العهد الجديد تأويلاً…
فعـلى سبيل المثال كتب فيها العـلامة شميدت:
{ إنها من أشدّ آيات الإنجـيل غـموصـًا }…
ولا يُخـفى أن أحـد مبادئ تفسير الكتاب المقـدس يقـوم عـلى اعـتبار أشدّ النصـوص غـموضـًا أكـثرهم نصـيبًا من الصـحة…
لأن النسّاخ طالما شعـروا بالدافـع إلى توضيح النصـوص العـسيرة التـأويل…

لم يُعْـط حتى اليـوم تفـسير مقـنع لهـذه الآية من إنجـيل متى…
فجـلّ ما كان من ذلك أن الاتفـاق تم عـلى تأويل سهـل بديهى يقـول” بالعنف الباطنى”…
أى أن المسيح يعلمنا هنا أنه لا بـدّ للمـرء طالب القداسة أن يُعَـنّـف ذاته ويقهـر أهـواءه ويضحّى بملذاته…

لا ننكـر أن هـذا التأويل معقـول…
بيد أنه لا مناص لنا من الظن أن كلمات المسيح هـذه تنطـوى عـلى أكـثر من ذلك…
فالعبارة الأخـيرة [ مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ ] تشير إلى أن المسيح أدرك كل الإدراك أنه قال ما يصعب فهمه…
وهذه العبارة هى ما استعـمله بالذات فى مناسبات أخـرى حيث أملى بتعـاليم صعـبة تكاد لا تُفهم…
مثال ذلك ما قاله فى شأن الذين يضحون بأنفسهم وبذواتهم فيتخلون عـن عـائلاتهم ليتفـرّغـوا للتبشير بالملكوت:
[ َيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَوْا أَنْفُسَهُمْ لأَجْلِ مَلَكُوتِ اَلسَّمَاوَاتِ ] [ متى 19: 12 ]…

قال البابا بيوس الثالث عـشر:
{ إنه ليس من المستبعـد عـلى الإطلاق أن تدركنا نهاية العالم قبل أن نتمكّن من فهم بعض ما أوحاه المسيح فى الكتاب…
وما هـذا فى الحقيقة إلا البرهان عـلى أن كـلامه يسمو عـلينا وعـلى مداركنا…
وأنه يحمل فى أعماقه ذاك المطلق الذى يأتيه من وجـود الله فيه…
إلا أنه لا يجدر بنا أن نقف مكتوفى الأيدى أمام المقاطع الصـعـبة…
بل المطلوب أن نصغى إلى علامات الأزمنة, وهى أقـد رمما نظن عـلى مساعـدتنا لاستجلاء معـانى الكتاب…
فلا يبعـد أن يكون لكل زمان, ولكل مشكلة جديدة تواجه الإنسان, جـواب حاضر يخبئه المسيح…
ويترتب عـلينا اكتشافه بالخضوع للروح القـدس الذى لا يزال يعمل ويكشف لنا عـن كل شئ }…

من الأكيد أن العنف كان فى العالم منذ البداية…
ولكنه اضحى اليوم عـلامة…
لأنه يتزيّـأ ببعض الميزات الخاصة…
فليس العنف اليوم عـامل قـوة ودفاع فحسب, بل إنه مفهوم فلسفى وسوسيولوجى وسياسى…
فهناك العنف بأشكاله المتطرفة كالثورات الدامية…
والعنف فى الاصطدامات بين الطلاب وقـوى الأمن…
والعنف فى مظاهر التمرّد والعصيان والرفض…
والعنف السلبى فى الإضرابات, والاستنكارات الصامتة, والمظاهرات بدون سلاح…
والعنف بين الصغـار: فالصحف نشرت خبر ثلاثين ولدًا أعلنوا الاضراب فى أحد المستشفيات احتجاجـًا عـلى تصـرّف كبير المسؤولين فيه…
والعنف بين غـير المسيحيين, من أمثال هـؤلاء البوذيين الذين أحرقوا انفسهم…
والعنف عند المسيحيين الذين يعتصمون فى الكاتدرائيات والمطرانيات والمدارس الاكليريكية وسواها من الأماكن, للاحتجاج عـلى مواقف السلطات الكنسية…
والعنف عـند المقتدرين الذين يلجمون الحريات ليثبتوا امتيازاتهم, يقابله العنف عـند الفقراء ليتحرروا من نير المظالم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وحتى الدينية…

وقد يكون هذا العنف شيطانـًا كما يمكنه ان يكون عـادلاً…
فالعنف هو اليوم ظاهرة جماعـية, وهو أشبه بسلاح شامل يستخدمه الماس فى سائر المجالات…

وأمام هذه الظاهرة يقف المسيحيون متسائلين, لأن مفهوم العنف المسيحى دقيق المواجهة والمعالجة…
فالعنف موقف محـيّر..
لأن عقليتنا الدينية لم تفهم العنف إلا داخليًا فحسب…
ولم تألف مواجهة العنف الخارجى إلا بالجمود وأليدى المكتوفة…

والعنف موقف صعـب لأن الموعظة عـلى الجبل تطـوّب المسالمين, وتعلن أن العنف عـلى أنواعه ليس بمسيحى…
والعنف موقف شائق مثير لأن المسيحى هو ابن عـصره, والعنف, سواء كان فعالاً أو لم يكن, هو عـلامة واضحة من عـلامات جيلنا…
وإنى لأعـرف من المسيحيين من تتألم ضمائرهم أشد الألم تجاه مشاكل العنف…
ففيما تعلّموا أن الإنجيل يحمل رسالة الخضوع الصامت…
إذا بمهماز التضامن مع أبناء عـصرهم ومع العادلين والملتزمين والذذين بنبذون الأثرة والتقوقع, يدفعهم إلى ركوب خضمّ العنف المضطرب…

وفى مثل هذه الحالات لا بـدّ أن يتوجّه المخلصـون نحو الكنيسة, نحو المسيح فيطلبون إليه كلام الهدى…
لا بل يطالبون به على غـرار ما قاله بطرس الرسول, ويشعـرون فى قرارة نفوسهم بأن عند المسيح وحده كلام الحياة الأبدية…
أى الكـلام الأصيل الحـق…
الكلام الثابت الذى لا يتبدّل ولا يتشوّه…

فى مثل هذه الحالات علينا استجلاء كنوز الوحى الإنجيلى بمزيد من الصـدق والرجاء والعزيمة…
للوصول من خلاله إلى جواب الله عـن المشكلة التى نواجهها اليوم…
لِمَ إذًا لا نعـود إلى آية متى , والتى تتكلم بصراحة عـن العنف؟…
وإن هى بقيت حتى الآن إحدى أغمض الفقرات فى الإنجيل…
إلا أنه من الممكن أن تصبح اليوم أكـثر وضوحـًا فى ضوء عـلامات الزمان الجديدة واحتياجات البشر الجديدة…

وها نحن نوافى بمساهمتنا فى الموضوع…
مقتصرين عـلى بعض المقترحات, التى من شأنها أن تبعث فى الآخـرين الشوق إلى المزيد من الدرس والتمحيص…
ونقول: لا بدّ من قراءة آية إنجيل متى ضمن كامل إطارها…
فقول المسيح أن [ مَلَكُوتُ اَلسَّمَاوَاتِ يُغْصَبُ وَاَلْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَهُ ] إنما أوحاه موقف يوحنا المعمدان…
وكان آنذاك أن تلاميذ يوحنا جاءوا, بإيعاز من معلمهم السجين…
يسألون يسوع : هل إنه هو المسيح؟…
فبعـد أن تلقفوا الجواب وانصرفوا, أخـذ يسوع يُطـرى يوحنا عظيم الإطراء…
فقال عـنه إنه ليس بقصبة تهـزها الريح, أى أنه ليس ممن ينصاعـون للضغـوط…
وهو لا يرتدى الثياب الناعمة…
ولا ياكل الطعام الفاخر عـلى نحو ما يفعل الذين هم فى قصور الملوك…
فالمعـمدان هـو نبى…
ونبى غـير سائر الأنبياء…
لا بلّ ” هو أفضـل من نبى”…
إنه امرؤ دخـل الملكوت ” عنوة” بقـوة الساعـد وبطش الذراع…
[ وَبَيْنَمَا ذَهَبَ هَذَانِ اِبْتَدَأَ يَسُوعُ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ عَنْ يُوحَنَّا: مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا اَلرِّيحُ؟
لَكِنْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَإِنْسَاناً لاَبِساً ثِيَاباً نَاعِمَةً؟ هُوَذَا اَلَّذِينَ يَلْبَسُونَ اَلثِّيَابَ اَلنَّاعِمَةَ هُمْ فِي بُيُوتِ اَلْمُلُوكِ.
لَكِنْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيّاً؟ نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ ] [ متى 11: 7 ـ 9 ]…

العنف الذى يتكلم عـنه المسيح, ينبغى دراسته فى ضـوء سلوك المعـمدان…
الذى كانت صـورته شاخصة أمام المسيح وهو يخاطب رسله…
فكيف تصـرّف يوحنا, أعظم الأنبياء, وأعظم من قام فى مواليد النساء…
[ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ اَلْمَوْلُودِينَ مِنَ اَلنِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا اَلْمَعْمَدَانِ ] [ متى 11: 11 ]…

لا بـدّ من النظر إليه فى إطار زمانه…
ومن هذا المنطلق سرعان ما يبدو لنا مثال ” النابذ للأعـراف”, الثـائر عـلى التقاليد والاتباعية…
إنه فى الحقيقة متمرد, يناوئ مجتمع عـصره المتبرجـز…
أى أولئك ” الذين عليهم الثياب الناعمة وهم فى قصور الملوك”…
إنه يناوئ كنيسة زمانه…
وكان رعاتها يحبّون ارتداء الحلل الفاخـرة لأنهم يبتغـون ” التحيات فى الساحات”…

يوحنا هذا النابذ للأعـراف, الصلب الطباع, الذى تروّض فى البرية والجبال…
شأنه شأن الثوار العظـام, ولباسه جلـود السباع وطعـامه الجـراد وعسل البر…
[ وَيُوحَنَّا هَذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَاداً وَعَسَلاً بَرِّيّاً ] [ متى 3: 4 ]…

إنه عنيف, وإذا نزل إلى المعـترك وسط البشر, فهو يصرخ ويثور عـلى الرياء والخبث, وعـلى الظلم بأنواعه…
وإنه ليفعـل ذلك عـلى نحـو ما يفعـله الواثق المؤمن, وبلهفة من يحب ما يؤمن به…
[ وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ
قَائِلاً: تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ.
فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً ] [ متى 3: 1ـ 3]…

إنه أعـزل, لا سلاح بين يديه, بيد أن كلامه سلاح أمضى من السيف:
[ فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ قَالَ لَهُمْ: يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي؟
فَاصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ.
وَلاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْراهِيمُ أَباً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هَذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَداً لإِبْراهِيمَ.
وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ ] [ متى 3: 7 ـ 10 ]…

يوحنا المعـمدان غـيور يدفعـه عـنفه المقتدّس إلى التحـدى والتوعـد …
لا يخاف ما يواجه من مخاطـر…
لا يخـفاه أنه من الأمان له أن يخفف من حـدة كلامه وشدّته, وأن يقـبل واقع الأمور ويتغاضى عـن الكثير من المظالم…
ولكنه يدرك أنه يواجه مجتمعًا تشرّب الخطيئة والرياء…
وهو لذلك يؤثـر العـنف الأعـزل الذى ترتجف له الحجارة…
العـنف الذى يتسلّح به من يسير واعـيًا نحو التضحية بحياته للدفاع عـن العـدالة والمظلومين…
عـنف الإنسان الذى لا يقـتل ولكنه يجازف بحياته ليعـلن فى الساحات والشوارع الحقيقة المجـردة…
فيثير استياء وحفيظة الظالمين, ويكشف للفقراء والصـغار الإله الحق ” الذى جاء يدافع عـن المظلومين”…
المعـمدان المتسلح برسالة إلهية ليمهد الطريق للرب الآتى…
المعـمدان الذى يعمد بالماء للتوبة ويعـد الطريق للمسيح الذى يعمد بالماء والروح…
[ أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ وَلَكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ.
الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ ] [ متى 3: 11, 12]…

يوحنا المعـمدان يتلفّظ ببعض كلمات تقـوده إلى السجن وتودى بحـياته…
ولكنه يقوم بذلك لأنه يعلم أن ملكوت الله لا يؤخـذ إلا عـنوة…
لا بالتنازلات الجبانة…
فلا مجال للحـياد أو المحاباة أو التغاضى عـن الظلم وتجاوزات المسئولين, ومن ثمّ فالمعـمدان يجلجل ويوجـه الاتهامات:
[ لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ اِمْرَأَةُ أَخِيكَ! ] [ مرقس 6: 18 ]…
هـذا ما قاله لهيرودس لما إتخـذ هـيروديا زوجة أخـيه فيليبس…
وقد كان هيرودس يريد قتله إلا أنه خاف:
[ لأَنَّ هِيرُودُسَ كَانَ يَهَابُ يُوحَنَّا عَالِماً أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ وَكَانَ يَحْفَظُهُ. وَإِذْ سَمِعَهُ فَعَلَ كَثِيراً وَسَمِعَهُ ] [ مرقس 6: 20 ]…
فيوحنا الأعـزل يزداد عـنفـًا وضغـطـًا عـلى هيرودس, فيندد عـلانية بظلمه…
بينما هيرودس يخاف لأنه يرى الجميع يتبعـه…
هـو قـوة العـنف المجـرّد من السلاح, الضارب بقـوة الحقيقة…
هـو جـبروت العـنيف البار النزيه, الذى له من القـوة المعـنوية ما يخـوّله الانتفـاض والدفاع عـن القيم الإنسانية التى داسها البغـاة بأرجلهم…
وإنه ليقـوم بذلك دون حـقـد, معـرضًا حياته للخطر…

إن العـنف الروحى فى سبيل الخـير والدفاع عـن الحقيقة والعـدالة مهما كانت الأخطار, لهـو ذو فـعالية لم نخـتبرها بعـد بالكفاية…
وإنه لشرعىّ, منبثق من روح الإنجـيل, تهب فيه روح الأنبياء…
ولم يتمالك المسيح نفسه من أن يهتز له عجبًا…

ذلك أن يسوع أيضـًا كان عـنيفًا, ولم يكن أقل عـنفًا من يوحنا فى التنديد بمساوئ عـصره…
ولهـذا السبب قتلوه وهو فى شرخ الشباب…
والعـنف الذى مارسه بعـطفه عـلى المساكين كا أشد إثارة لحفيظة السلطات الدينية المدنية عـليه, منه لو دافع عـنهم بقوة السلاح…

لمّا أوفـد المعـمدان تلاميذه يقولون للمسيح: [ أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟ ] [ متى 11: 3]…
اكتفى يسوع بتعـداد ما كان يفعـل:
[فَأَجَابَهُمَا يَسُوعُ: اِذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ:
اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ وَاَلْمَوْتَى يَقُومُونَ وَاَلْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ.
وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ ] [ متى 11: 4, 5]…
تلك كانت رسالته…
وذلك كان عـنفه…
فمهمته قوامها خلاص أصغـر الصـغار, وآخـر الأخـيرين, والذين لا جاه لهم ولا فعالية ولا اقتدار…
كان حقًا مسيح الكادحين وأتعس الكادحين…
ولم يقل للموفـدين: ” الملوك يهتدون, والفريسيون والكتبة يتوبون, والأغـنياء من كنوزهم يتصـدقون, والمجامع تغـص بالمؤمنين”…
المسيح جاء ليخلّص العالم كله…

بالأمس كنا نظن أن السعى وراء القداسة إنما يتم عـلى الصـعيد الفـردى وفى نطاق داخـلى محض…
لذا كان من المنطقى فهم قول المسيح: [ مَلَكُوتُ اَلسَّمَاوَاتِ يُغْصَبُ وَاَلْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَهُ ] عـلى أنه يشير إلى عنف شخصى داخلى…
وإلى حـرب نشنها عـلى غـرائزنا…
أما اليوم فالكنيسة نفسها, بدافع من الروح, وفى ضوء المزيد من التعمق فى معـرفة الكتاب المقدس…
تعلمنا أن الخـلاص هـو عـمل جماعى , بجانب أنه شخصى أيضًا…
وأن القداسة الحقيقية تتبلور فى العـطاء لإخوتنا…
وأنه ما من حب مخلص لله إن لم نخلص الحب للبشر…
وبذلك يسهل علينا قـراءة آية القديس متى هذه من منطلق آخـر…

فإن كان أحد الشروط لخلاصى أن أن أبذل نفسى لإخـوتى…
فمن الطبيعى ألا يكون العـنف الذى يتكلم عـنه المسيح عـنفًا داخـليًا فحسب…
بل أيضًا عـنفًا يساعـدنى عـلى الدفاع عـن قريبى, ومساعـدته وافتدائه…

وإن كانت شريعتى هى المحبـّة…
فلا يسعنى أن أرى زوجة أخى بأخذها متجـبر محتكـر, وأظل مكتوف اليدين…

ولا يسعنى أن أسير إلى جنب العـميان والبرص والمقيدين والجائعين والمظلومين واليائسين والمنبوذين والذين حُـوّلواإلى آلات واستُغـلّوا, دون أن أمتشق سلاح العـنف, عـنف التنديد القاطع, عـنف المقاومة دون هـوادة ـ فى الأمانة للروح ـ عـنف المجازفة بكل شئ ـ فى الأمانة لمواهبنا الخاصة ـ عـنف التنديد المخلص, الشريف, الفعال…
[ طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ.
طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللَّهَ.
طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ ] [ متى 5: 7 ـ 9 ]…

ولا بـدّ من القـول فى الختام…
إنه لا يخفانا أن الإنجـيل يرفض رفضـًا تامًا كلّ عـنف مسلّح دامٍ…
كل عـنف يتعـدى عـلى حياة الآخـرين…
ومن الأكـيد أيضًا أن اضطهاد الكنيسة عـلى أبدى الظالمين والبغـاة والأشرار, شأنه شأن أمانة الأبرار للخـير ورسالتهم, فهـو عـلامة تتسم بها كنيسة المسيح الحق…
وهـو أحـدى تطويبات يسوع الكـبرى:
[ طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ اَلْبِرِّ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ ] [ متى 5: 10 ]…

فالكنيسة التى لا تعـرف إلا تبخـير الناس ولا تخضع قـط للاضطهـاد…
الكنيسة التى تخـون مواهبها الخاصة عـن خوف أو مصلحة…
تكون كنيسة بلا عـنف…
كنيسة دون قـوة ونبوة…

أجـل,
الكنيسة التى لا تعـكس صـورة مسيحها, تكون كنيسة جاحدة…

إلهى هو كلّ شئ

إلهى هـو كلّ شئ…
إنه الروح والمادة…
الزهـرة والنسيم…
الفكـرة والحـدس…
الكائن والخـالق…
الفـرح والدموع…
إلهى هـو كل ما أرى, ألمس, أسمع, وكلّ ما أجهـل…
إنه المنظـور واللا منظور…

إلهى هـو كل شئ…
لذلك كل شئ حسن…
بيد أن ليس كلّ شئ الله…
الزهـرة ليست الله…
إن جعلتهـا الله, جعلتها صنمـًا, ولم يعـد ثمة زهـرة…
إلا أن الله هـو الزهـرة, لأن ما من شئ فى الزهـرة: المادة, والجمال, والعـبير, والحياة, واللون, إلا وهو كائن فى الله…

الإنسان ليس الله…
إن جعـلته الله, جعـلته صنمـًا, ولم يعـد ثمة إنسان, بلّ مسخ…
بيـد أن ما من شئ فى الإنسان: اللحم والدم, الذكاء, والحب, والحياة بأشكالها, ووجـود الروح, إلا وهو كائن فى الله…
لذلك أستطيع أن أحب كل الأشياء المخـلوقة, لا لأنها إلهى, بل لأن إلهى الغـير المخـلوق والخـالق هو كل الأشياء…
لذك كلّ الأشياء المخـلوقة تهتف إلهى وتنطـق به, لأنه ما من شئ إلا وهـو هـو…

إلهى ” الكـلّ” ليس بالسهـل مع الذين يريدون أن يكون كـلّ شئ الله, فـيبررون بذلك أصنامهم…
وإلهى ” الكـلّ” صعـب, وأصعـب ما يكون مع الذين يرون فى الخـليقـة ما يضـاد الله, وما ينافى الوجـود, وما يناقـض الروح…
ولكـن إلهى هـو ” الكـلّ”, هـو روح ومادة, لأنه إله تأنس, ولأن لا شئ يستطيع الوجـود إلا وهـو له ومنه…
إلا أن إلهى هـو ” الكـلّ” بخـلاف ما يكون الإنسان…
لأن الإنسان لا يمكنه إلا تحـويل ما خـلقه الله…
الإنسان الذى يصنع صاروخـًا لا يمكنه أن يقـول إنه صـاروخ, إنه, عـلى نحـو ما, فى صنـعه, ولكنه ليس هو صنعه…
لذك عـندما أحب صنـع الإنسان, فلا أحب الإنسان بل إلهى…
إلهى هو الرب الوحيد, خالق الحياة والأشياء, الموجـود جوهـريًا فى كل الأشياء…
إلهى وحـده يمتاز بأنه الأشياء, فيما الأشياء لا يمكنها عـلى الإطـلاق الادعـاء أنها هو…
لذلك أقـبل إلهى ” الكـلّ” وأحـبّه فى كـل الأشياء, رغم أن ما من شئ هـو إلهى…
فإه إلهى, إلهى ” الكـلّ”, هـو الفـريد الأوحـد…
الله هـو كـيان كـلّ الأشياء…
وهـذا الكـيان قـوامه ارتعـاش المحـبة, لأن الله هـو محـبّة…
لذلك عـندما أحب فى الخـليقة الحبّ الذى يحـرّك الأشياء من الداخـل, الحبّ الذى يصنع الأشياء, الحب الذى هـو الأشياء, فإنى أحب حـتمـًا إلهى, لأنه لا يمكننا أن نحبّ شيئًا مما فيه الحب, دون أن نحب إلهى, إلهى الذى هـو الحب بالذات, الحب الكامن والحىّ فى كـلّ شئ…

أين هـو إلهك؟

أكتب إيك, أنت الذى طالما قال لى إنه لا يؤمن…
أنت الذى سألنى متارجحـًا بين الحـنين والشك:
{ أين رأيت إلهـك؟ أين شعـرت بنـَفـَسه؟ أين سمعـت وقـع أقـدامه؟ }…
أن الذى طـَلَبَ إلىّ يومـًا وقـد شارف عـلى الجـنون:
{ أعطنى قطعـة من رجائك }…
أنت الذى اعـترف لى فى ساعـة ضعـف وقـنوط:
{ إنى إلحادى فـارغ }…

أكتب إليك أيتها الأم, التى شاهـدت وحـيدها يدهسه القطار, فصرخت فى وجهى:
{ إن إيمانك غـير معـقول }…
أكتب غليك, أيها الزوج, الذى حمل فى ذراعـيه زوجته وقتد ماتت عـلى أثـر ولادتها الأولى, فصاح أمامى عـلى باب المشفى:
{ لقـد مات الله فى حـياتى }…

أكتب إليكم جميعـًا, أنتم الذين يدّعـون الإلحـاد وقـد طـلبوا إلىّ يومـًا بإيمان:
{ أين هـو إلهك؟ }…
إليكم أبعث بهـذه الرسالة التى كتبتها عـلى شرفتى المشرعـة عـلى النـور, نـور أعـرف أنه ليس نورى, وأننى لن أستطيع اعـتباره نورى إلا بقـدر ما ستشاركونى إيّاه…

أين هـو إلهك؟
لن أجيبكم جـواب كتاب التعـليم الدينى:
{ إنه فى السماء }…
فهـذه كلمات فارغـة فى نظـركم…
ولا أنه فى الهيكـل, لأن إيمانكم بالكنيسة ميت…
ولا أنه فى الأرض فقـط, لأنكم تعيشون لا صقـين بها ولا تنفـكون تجـدونها باردة…
بلّ قـد أقـول لكم أنه حيث أنتم أيضـًا لمستموه مثلى, ولكن دون أن تنتبهـوا إلى وجـوده…
وحيث سمعتم صـوته, ولكن دون أن تصغـوا إليه…
وحيث ارتعشتم لمداعـبته, دون أن تعـرفوه…

فإن كنت مخطـئًا, فانقـضـوا كـلامى…
وإن كنت مصيبـًا, فمعنى ذلك أننا معـًا عـلى الطريق نفسها سائرون…

الله موجود فى وجـودك الفارغ, إنه كل ما تود أن تضع فيه لتمـلأه…
الله هو حيث تتوقف لُقمة سعادتك المصطنعة…
إنه عـكس ما اعـتدت أن تجـتره بَعْـدَ التقـاطِك آلهـتك التى إن هى إلا رغـوة وزبد…
إنه عـكس غـثيانك, وخيبة آمالك, ومـرارتك, وخجـلك من ذاتك, والفـراغ الذى ينهش أحشاءك عـندما يتعسّر هضمك لفـردوسك الورقى…
إنه الشمس التى كنت تتمنى لو أشرقت ساعـة أعـمت الظلمات عـينيك…
الله مرتبط بكـلّ ما تبتغى أن يدوم أبـدًا…
الله يخفـق حيثمـا تحـلم بالوصـول…
الله يتوقف حيثمـا ترفض السير…
إنه فى العـيون المليئة بالنـور التى إذا ما نظـرت إليها وأحببتها, جعلتك أكـثر طفـولة, وأكـثر براءة, أكـثر حـرية, جعلتك أكـثر شاعـرية وأكـثر واقعـًا, أكـثر تقبلاً وأكـثر حيوية, أكـثر رأفة وأكثر استقامة, جعلتك أقلّ ” أنت” وأكـثر ” القـريب”…

إنه فى العطش إلى الطهـارة الذى ينتاب شفتيك الجافـتين بعـد تلوّث يُصيب منك الروح أو الجسد…
إنه واقف عـند باب كل خيبة أمـل..
إنه هاتان اليدان الخفيتان اللتان لا تؤمن بهما, إلا أنك تودّ الإمساك بهما, وقد امتلأنا إخـلاصًا وحـرارة تفهّم, ودبّ فيهما تيار من العطف يصبر عـلى الزمن…
إنه ذلك القلب الذى تصبو إلى وجـوده, وقد ارتسمت معالمه فى مخيلتك ورغبتك بعـد كل خيبة…
إنه ذلك الإخـلاص الذى يشبه عـلى الأقـل إخـلاص كلبك, المخـلوق الوحـيد الذى ما زال يجثم عـند قدميك…
ذلك الإخـلاص الذى كنت تحـلم به نديّـًا يانعـًا كالعـنقـود عـلى عصنه, وهو الآن يفـرط مهـترئـًا فى يديك المليئتين حـقـدًا…
الله ينبـض فى كـلّ نبضـة مخـلوق جـديد…
إنه فى العشب النامى…
إنه فى الماء السارى…
إنه فى الحـياة لأن الحياة لا تمـوت…
إنه فى الاهـتزازات التى تُثـمل كيان الأم ساعـة الولادة, وفى تيار الحب الجديد الذى يجـرى من ولدها على الرجـل الذى هى مدينة له به, وإنه فى سعـادة هـذين الحبين المرتبطين الآن, غـير منفصليسن, حب الوالدة وحب الزوجة…

والله هـو أيضـًا فى ذلك التيار العجيب, الذى يهـز فى الصميم الوالد المنتظـر فى بهو المشفى, ليعـرف إن كان ابنه قد ولد…
إنه شئ أقـوى منه يضطـره إلى أن يزرع الأرض بعصبية, يدخن بلا هوادة, ويشرب القهوة الفنجان تلو الآخر, ويتمتم ساهيًا بعض الصلوات…
إنه فى ذلك الشعـور الذى لا يحـدّه الوصف, والذى ينتاب كل إنسان أمام أولى ابتسامات ولده…

إنه الله موجـودًا فى الرعشة العـميقة التى أخـذت بمجامع هـؤلاء الآلاف من الناس, الذين سمعـوا الإذاعـة تبث يومـًا ما قالته إحدى الفتيات العاملات:
{ لقد تركت فراشى, وخرجت من البيت, وهأ أنذا أحمل راتبى الأسبوعى لتشتروا حِـرامـًا لمن هو أفقر منى. إنن أعرف ماذا يعنى البرد, فقد نمت سنين طويلة ولحافى الجرائد, أحلم بأن النهار قد طلع لتوقف أشعة الشمس رجفانى }…

كان الله موجودًا فى قلب تلك الفتاة التى جاء عـنها فى إحـدى القصائد الروسية, أنها نظـرت إلى حبيبها بانجذاب, وقالت:
{ إنى أنظـر إلى نفسى فى نور عـينيك, فأخالك ولـيد الشمس الساطعـة }…

إن الله فى رجـاء الخـلود الذى هو فيك أو الذى تحـن إليه, ذلك الرجـاء الذى يجيش فى قلبك عـندما تقـبّل مـرّة أخـيرة جبهة شخص حبيب جمّـده الموت, ولم تكن قط لتتصوّره ميتـًا…
إنه فى كل ما تملك فـرحًا, وفى كل ما تحلم بالوصـول إليه…
إنه داخل ما تشعـر به فى جسمك, عـندما تتصـوّر سعـادة هى من العظمة بحيث لا تستطيع تحملّها…
إنه فى تلك البرهـة التى تسمع فيها قـرع الباب وأنت تنتظـر من تحـلم به…
إنه فى ما تشعـر به, فى كل جـزء من كيانك, عـندما تتلظى عطشًا فيصل بين يديك كأس الماء البارد…

الله موجود فى زوايا حياتك الخـفية, حيث لا يدخـل أحد, حيث يخاطبك صوت لا تدرى من أين يأتى وإلى أين يذهب, فيقول لك ما لا ترغب فى سماعه, ويذكّرك ما تود لو تنساه, وينبئك بما لا تتمنى معرفته…
إنه فى ذلك الصوت الذى لا تسمعه ولكنه يصرخ, الذى ليس هو صوتك ولكنه يولد فيك, ولا تستطيع النوم ولا الضجيج ولا المشروب ولا الجسد ولا سواها أن تسكته…
إنه الجواب الذى لن تجـرؤ بعـد عـلى التلفظ به, بيد أنك تشعـر به, مؤلمًا ولكنه فعـّالاً, وكأنه العملية الجراحية…

إنه فى هـوّة إلحادك السحيقـة…
إنه فى ما تعـرف أنك فـقـدته, وتخشى ألا تعـود وتعـثر عـليه, وتريد أن تقـتنـيه رغم أنك تخجـل من الإقـرار بذلك…
ليس هـو فى ما إلتهمته بلّ فى ما لم تـذقـه بعـد…
إنه فى النسيم الذى ينعشك ويداعـبك كل مـرّة تحب…
إنه فى السعـادة التى تسرى فى عـروقك كل مـرّة ترى قـريبك سعـيدًا بسببك…
إنه فى فـرح الخـير الذى صنعـته دون أن يعـلم به أحـد…
إنه فى سلام بحـيرة دمـوعـك الصافـية, عـندما تُصـالح ضمـيرك فتشعـر بيقـظة جـديدة لحـياة جـديدة…
إنه فى كـلّ جمـال…
إنه فى كـلّ بادرة حبّ…
إنه فى كـلّ يد تنفـتح عـلى الخـير…
إنه حيثمـا يتـنفس إنسان, سواء كان أبيض اللون أو أسوده, بريئـًا أو خبيثـًا, صحيحـًا أو عـليلاً, حـرًا أو سجينـًا…
إنه فى مساء الحياة, فى غـروب العـجوز الهادئ, فى سائر ذكـرياته العـذبة, فى رجـاء هـذا الكائن الذى يرفض الزوال, فى فـرح أحفـاده الذين يغـنون له وبلعـبون, فى مقـالة الجـريدة تتكلم عـن ابنته التى نجحت فى الحياة…
إنه فى السلام الذى يدفئ, كأنه الغـطاء فى الشتاء, من يقـنع بما عـنده, ولا يُـنـْزَع مـنه ما يبتغـيه بالحـلال…
إنه وراء كلّ فتقـير يطالب بالعـدالة, وفى ذلك الفـردوس لا يستطيع التـنزه فيه إلا بالمخـيّلة والرغـبة, حيث زالت مظالم المتجـبرين وانتـفى طغـيان المتغـطرسين, حيث لا تكـون المساواة الشرعـية والأساسية كلمة فارغـة أو برنامجـًا سياسيـًا, بل ثمـرة سائغـة, حيث لا تعـطى الحـرية ذاتها بشكل تلقـائى إلا حـين نكون أحبّ للآخـرين منـّا لذواتنا…
إنه فى العـمل الذى تقـوم به عـن دعـوة, دون أن يستعـبدك أو يلتهمك…
إنه فى العـمل الذى يجعـلك تتحسس الحـياة, وتتـقوى للحب, وتتهـيأ لفهم ما يكمن من سعـادة فى عـملية دفـع عـجلة الخـلق إلىالأمام…
إنه فى الريف الذى يساعـدك عـلى تخفيف وطـاة الوحـدة, المحـتمة عـلى كل مخـلوق…
إنه وراء حاجـز الغـفـران…
إنه فى لهـفـة كل طموح, وكل جهد, وكل تحـرّ لا يغـتال القـريب…
إنه فى أتفـه الأمور التى بوسعها أن توفـر لك الانشراح, وتساعـدك عـلى تحقيق ذاتك, وعـلى أن تكون أكـثر إنسانية, وعـلى أن تتذوق كل ما تقـدمه لك الخـليقة من خـيرات: لفافة التبغأو الزهـرة, قصيدة الشعـر أو المعـزوفة الموسيقية, السفـر أو القيلولة, فـترة العـزلة أو ساعـة المـرح, الثـوب أو العـطور, الصـديق أو فنجـان القهوة, القـبلة أو الصـلاة…
إنه فى كل ما تبتغـيه من خـير للذين تحبهم…
إنه العـمل الذى يضنى جسمك, ولكنك تنصـرف إليه بإقـدام وشجاعـة فى سبيل أولادك, فإنهم ينتظـرون الخـبز والثقـافة, ويتشوقتون إلى مستقـبل أقـل قساوة من حاضـرك…
إنه فى الراحـة التى تخـلد إليها عـندما تنام, عـلى أعـذب ما يكـون النوم, لا يعـكّر صـفـو رقادك وصمة ضمـير…
إنه فى كل ما لا تدعوه الله, ولكنه يستدرجك إلى عـبادته وحـبه, وتود لو تنصهر فيه…
إنه فى الولـيد الذى يلعب فى أوحـال الشارع, ويخاطب بالكاف جميع الناس, ولا يخشى أحـدًا…
إنه فى الإنسان الذى سئم الحـياة, والرياء, والكـذب, والشر, فشعـر بضـرورة العـودة إلى طفولته…
إنه فى الشوق إلى البراءة …
إنه فى سلام من استعـاد بكارته…
إنه فى كل ألم, وكل شهادة, وكل معـاناة, وكل فظاظة, وكل حـرب, وكل مظلمة, وكل تعـاسة, وإنه فى كل رغـبة سرّية, ملحاحة, مطهّرة, تقـود إلى القيامة…
الله فى تلك القـوة العجيبة التى تبقينا عـلى قـيد الحياة, وتمنعـنا عـن الغـرق فى لجج الخـبل, وتبعـدنا عـن الانتحـار بعـد تعـرضنا لبعـض محن الحياة القاسية, ولبعـض المآسى التى تفـوق حشرجة الممات شدّة وضـراوة…
الله يطـفـو دومـًا فى خضمّ حياتنا المضطربة, حياتنا التى لا تكتمل أبدًا, ولا تكتفى أبدًا, ولا ينتفى منها الدنس أبدًا, الله يطـفـو عـلى مياهها, خشبة خـلاص قريبة من كل أحـد وأمينة…
الله هو فى ما تدعـوه أنت ” القـدر”, وما أسميه أنا ” العـناية” وهو يدعـونا كل حين…
الله فى صميم كل رجاء حـق, وقد يختبئ الرجـاء أحـيانًا, ولكنه لا ينطفئ أبـدًا, كالشمس لا تموت لأنها نور الله…
الله لا يحـوّل عـينينه عـن أحـد, وإن هـو فعـل, لما كان المحـبّة…
لذك يكون الله بالأخـص حيث يشع دفء المحـبّة…

لا أؤمن بهذا الإله

قابلت يومـًا فى روما البطريرك الراحل ” مكسيموس الرابع”..
فقال لى: { إن ما لا يؤمن به الكـثير من الملحـدين, هو إله لا أؤمن به أنا أيضـًا }…
فكان لهذا القـول أبعـد الأثر فى قـلوب العـديد من القـراء…
ومن ثمّ طـلبـوا إلىّ أن أحـرّر مقالة تصف هـذا الإله الذى كنت أنا ايضـًا لا أؤمن به…
فنزلت عـن رغـبتهم, ولكننى لم أدْعِ إنشاء أطـروحة دكتوراه…
بل رأيت أن أباشر حـوارًا شخصيـًا, حـيويـًا, جادًا, بالأخص مع الذين لم يلتقـوا الله بعـد فى طريقهم…

وكنت آنذاك أدرك أن كل مرة يتكلم فيها المرء عـن الإله الذى يحيـا فيه, فإن تعـبيره يظل دومـًا محدودًا…
لأن الله هـو الحيـاة…
ولأن الحياة لا تُحـدّ بعـبارة أو دستور…
فكلّ كلمة تعـنى دومـًا أكـثر مما تحـوى وأقـلّ مما تحـوى…

وكنت أعـلم ـ وأجد فى ذلك تعـزية سابقة ـ أن البسطاء سيفهموننى, وكذلك الأطهار, والنزهاء, والأبرياء, والذين لايخجلون من أن يبكوا على خطاياهم…
وكنت أعـلم أن عـددًا منهم لا بأس به سيكتشفـون أنهم أقـل إلحـادًا مما يخشون…

أنشأت المقـال…
فسُلّط عـليه النقـد وتسبّب لى ببعـض الصعـوبات…
ولكنه كان لى فى الوقت نفسه من أعـظم دواعى التعـزية…
فإنْ أنسى لن أنسى قـط رسالة كانت بين الآلاف من الرسائل التى وصلتنى, عـقب ذلك, بواسطة الجريدة التى صدرت فيها أولاً…
قال لى الزوجان أصحاب هذا الكتاب:
{ ها نحن نبعـث إليك بمقالك لتوقعه لنا, كلانا ملحد, ولكن لنا أربعـة أولاد, وبغـيـتـنا لهم, إذا ما آمنوا يومـًا بالله, أن يؤمنوا بذلك الإله الذى تدعـوه ” الإله الآخـر” }…

ولن أنسى أيضـًا رسالة خطـّها بيده رئيس أساقفة إيطالى, من المقـربين إلى البابا بولس السادس…
جاء فيها:
{ مقالك من أجمل ما كُتب منذ المجمع الفاتيكانى الأخير, ولقـد كان من المستحيل كتابة مثلها قبل ذلك التاريخ, سوف تُحـرّك تيارًا من شأنه أن يدك المثير من الأحكام المسبقة عـلى الإكليروس, تهانىّ القلبية الحارة, يا أب أرياس }…

وهـل أستطـيع أن أنسى الرسالة التى جاءتنى من أحـد الطـلبة الشباب, وفيها كتب:
{ لقد تأملت مقالتك مدة أشهـر عـديدة, وفى النهاية قـرّرت أن أصـير كاهنـًا, فأود أن أشكرك }…

لا غـرو أن الذين تشككوا من كلامى إلى حـد أنهم خافـوا أن أفـقـد الإيمان, قد جعـلونى أفكـر…
إلا أن ضمـيرى يشهـد أنَّ مقالتى لم تكن سوى طـريقـة جـديدة لأعـلن عـلى الملأ إيمانى بهذا الإله الذى لا يُحـدّه وصف…
والذى طالما طالبنى به, عـلى مثل ما يكون التوسل والتسول, أناس كـثيرون يجاهرون بالإلحاد…
لذلك أردت أن أختم كتابى بهـذه الأسطر…
وهى إقـرارى البسيط الناقص, ولكنه المخلص, بالإيمان

الإهداء ….

إلى أصحابي غير المؤمنين

W أجل ، لن أؤمن أبداً…
W بإله يباغت الإنسان في خطيئة ضعف…
W إله يشجب المادة…
W إله يعييه الجواب عن المشاكل الخطيرة التي يواجهها إنسان مخلص مستقيم يقول له باكياً: ” لا أستطيع”…
W إله يحب الألم…
W إله يعترض على أفراح البشر…
W إله يعقم عقل الإنسان…
W إله منجم مشعوذ …
W إله يفرض رعبه في القلوب…
W إله يرفض أن نخاطبه بالـ ” كاف “…
W إله عجوز قابل للخداع…
W إله تحتكره كنيسة ، أو عنصر، أو ثقافة، أو فئة معينة…
W إله لا يحتاج إلى الإنسان…
W إله ” يانصيب” لا يمكن الحصول عليه إلا مصادفة…
W إله حكم لا يلعب إلا وفي يده النظام…
W إله متوحد…
W إله لا يحسن الابتسام أمام حيل البشر وخداعهم…
W إله ” يرسل” الناس إلى جهنم…
W إله لا يحسن الرجاء…
W إله يطلب دوماً العلامة القصوى في الامتحانات…
W إله تستطيع الفلسفة تفسيره…
W إله يعبده الذين يقدرون على إدانة إنسان…
W إله لا يستطيع حب ما يزدريه الكثيرون…
W إله لا يستطيع مسامحة ما يدينه الكثيرون…
W إله لا يستطيع افتداء البؤساء…
W إله لا يفهم أن “الأطفال” لا بد أن يتوسخوا…
W وأنهم معرضون للنسيان…
W إله يمنع الإنسان من النمو، والفتح، والتطور…
W وتجاوز حدوده إلى أن يجعل من نفسه ” شبه إله “…
W إله يفرض على الإنسان، إن أبتغي الإيمان …
W أن يتنازل عما يجعل منه إنساناً …
W إله لا يقبل الجلوس والمشاركة في أعيادنا البشرية…
W إله لا يفهمه إلا الراشدون، والحكماء، وأصحاب المناصب …
W إله لا يخشاه الأثرياء، ممن يقوم على أبوابهم البؤساء والجياع…
W إله يمكن أن يقبله ويفهمه أولئك الذين لا يحبون …
W إله يعبده الذين يذهبون إلى القداس، ولا ينفكون يسرقون ويغتابون …
W إله معـقم، يصوغه علماء اللاهوت والقانون داخل مكاتبهم …
W إله لا يقوى على اكتشاف بعـض الخير، بحكم الطبيعة نفسها…
W حيثما يخفـق الحب، مهما زاغ عن الطريق…
W إله يرتضي تقدمة من لا يعمل بالعدل …
W إله يساوي بين خطيئة من يسر برؤية ساقين جميلتين …
W ومن يغتاب قريبه أو يسرقه، أو من يستغل سلطانه ليزدهر أو ينتقم …
W إله يشجب الجنس …
W إله يستطيع أن يقول : ” سوف تدفع لي الثمن ” …
W إله يتندم على أنه أعطى الحرية للإنسان …
W إله يؤثر الظلم على الفوضى …
W إله يرضى عن المرء الذي يسجد ولا يعمل …
W إله أخرس لا شعور له أمام المشاكل الخانقة التي تؤلم البشرية …
W إله همه النفوس لا الأناس …
W إله أفيون بالنسبة إلى الإصلاح الزراعي، ورجاء بالنسبة إلى الآخرة فقط…
W إله يؤمن به تلاميذ يهربون من أعمال هذه الدنيا ولا يأبهون بشؤون إخوتهم …
W إله الذين يظنون أنهم يحبون الله لأنهم لا يحبون أحداً …
W إله يدافع عنه من لا يوسخون أيديهم قط …
W ولا يطلون من شبابيكهم قط …
W ولا يرمون بأنفسهم في الماء على الإطلاق …
W إله يعجب الذي دأبهم القول: ” كل شيء على ما ” يرام …
W إله الذين يزعمون أن الكهنة يرشون الماء المبارك على قبور أحابيلهم المكلسة…
W إله مواعظ الكهنة الذين يظنون أن جهنم مكتظة والسماء تكاد تكون فارغة…
W إله الكهنة الذين يزعمون أنه من الحلال نقـد جميع الأشياء والناس باستثنائهم…
W إله الكهنة المتبرجزين…
W إله يحب الحرب…
W إله يجعل الشريعة فوق الضمير…
W إله يؤسس كنيسة جامدة، تدعو إلى الجمود …
W لا تقوى على التطهر والتحسن والتطور…
W إله الكهنة الذين تزدحم جعـبتهم بالأجوبة الجاهزة عن جميع المشكلات…
W إله يرفض للإنسان حرية الوقـوع في الخطيئة…
W إله يمتنع عن السخرية من الفريسيين الجـدد…
W إله ينقصه الغـفران لأية خطيئة…
W إله يفضل الأغـنياء والأقوياء
W إله ” يتسبب” بالسرطان أو ” يجعل” المرأة عاقراً…
W إله لا يمكن مخاطبته إلا ركوعاً ، ولا يوجد إلا في الكنيسة…
W إله يقبل ويستحسن كل ما يقول عـنه الكهنة…
W إله لا يخلص الذين لم يجـدوه، بل الذين تاقوا إليه وبحثوا عـنه…
W إله ” يرسل” الولد إلى جهنم بعـد خطـيئته الأولى…
W إله لا يمنح الإنسان إمكانية القضاء على نفسه بالهلاك…
W إله لا يكون الإنسان في نظـره مقياس كل المخلوقات…
W إله لا يسرع لملاقاة من تولى عـنه…
W إله لا يستطيع أن يجعـل كل الأشياء جديدة…
W إله لا يوجه كلمة مميزة، شخصية، خاصة، إلى كل فرد…
W إله لم يعـرف السبيل إلى البكاء بسبب الناس…
W إله لا يكون النور…
W إله يفـضل الطهارة على الحب…
W إله لا تهيج مشاعره أمام الوردة…
W إله لا تستشفه في عـيني الطفل، أو في الفتاة الجميلة ، أو الأم الباكية…
W إله لا يكون موجودا حيث يحب الناس بعـضهم بعـضًا…
W إله يقترن بالسياسة…
W إله يوحي بنفسه مرة واحدة لمن يتوق إليه بإخلاص…
W إله يهدم الأرض، والأشياء التي يحبها الإنسان، بدل أن يطورها …
W إله يكون بلا سر، ولا يكون الأكبر…
W إله يريد لنا سعادة غـريبة عـن طبيعـتنا البشرية…
W إله يزيل جسدنا إلى الأبد بدل أن يقيمه من الأموات…
W إله يعـتبر قيمة الناس لا في ما هم، بل في ما لهم أو ما يمثلون…
W إله يقبل صديقا له من يجور في الأرض ولا يسعـد أحداً…
W إله لا يكون سخاؤه كسخاء الشمس…
W فهي تقبل كل ما تلمس، الزهرة وخثي البقـر، عـلى حـد سواء…
W إله لا قبل له بتأليه الإنسان…
W ولا يستطيع أن يجلسه إلى مائدته ولا أن يوليه نصيبا في ميراثه…
W إله لا يحسن تقديم فردوس نكون فيه جميعاً أخوة حقًـا…
W ولا يكون مصدر النور فيه من الشمس والكواكب فحسب…
W بل من الناس الذين يحبون…
W إله لا يكون فيه محبة ولا يحسن تحويل كل ما يمسه إلى محبة…
W إله لا يمكنه أن يتولع بالإنسان…
W إله لا يصبح إنسانـًا حقـًا مع كل ما يترتب على ذلك من تبعـات…
W إله لم يولد ولادة عجيبة من أحشاء امرأة…
W إله لم يعـط البشر أمه بالذات…
W إله لا يسعني أن أرجوه فوق كل رجاء…
W أجل ، إن إلهي هو الإله الآخر…

إلهى شاعـر

إلهى شاعـر…
لأن الشاعـر هو خـير من عـبّر بالكلمات عـن أعـمق الأحاسيس غـورًا وأكثـفها ستارًا…
لـذا صـار إلهى كلمـة…
كلمـة هى كمثل ما يكون الشعـر صفـاءً, وإيحاءً, وجـدّة…
كلمـة تاقـت إليها الدنيا مـنذ القـديم…
كلمـة تقـول كلّ شئ…
كلمـة لم يقـلها أحـد من قبـل أو من بعـد…
كلمـة محيية…

إلهى شعـر جـديد لأنه يخـلق ما يتغـنّى به, فيما الشعـراء الآخـرون يتغـنون بما يحـلمون به, وبما يحـبون, وبما قد لا يكون…
شعـر إلهى أعـجوبة من الأعـاجيب…
” أيتها الصبية قومى” . كلمات الصباح, ولكنها كلمات خـلاقة, إذ الفـتاة تعـود إلى الحياة…
” هـذا هـو جسدى” . كلمات المساء, ولكنها أدخـلت الله إلى العالم, وها نحن نأكله…
” غـفـرت لك خطاياك”, كلمات من قلب الليل, ولكن من تلك الساعـة أصبح الثلج وليد كل الفـصـول…
” اليوم تكون معى فى الفـردوس” , كلمات خـرجت عـن الزمن, ومن تلك الساعـة جـرى اللامتناهى والأزلى فرحـين فى عـروقنا, يغـذيان منا الآمال…

إلهى شاعـر لأنه يحسن التعـبير عـن أشد الأمـور صـعـوبة وغـموضًا, ببساطـة الأطفـال…
إلهى شاعـر لأنه يحسن بث النـور بثـًا فى أحـلك الظلمـات…
ولأنه يحسن بث الدفء فى ما ضـربه الـبرد…
ولأنه يحسن رسم الرجـاء عـلى جـدران العـار الوسخـة…
ولأنه يجـترح المعـجزات, فـفيه كل شئ يستحيل شعـرًا حتى البؤس الأليم…
إلهى الشاعـر جمع فى عينيه, لما عـبر فى أرضنا, كل الشعـر الكامن فى الأشياء والناس…
لذلك فما من بيت شعـر إلا هـو كتبه, وأنشده, واستمـع إليه…

كل شئ كان شعـرًا فى نظـر إلهى:
الدجاجة التى تحمى فـراخها…
فلس الأرملـة…
سنابل القمح…
بـئر السامرية…
الأولاد يأتون إليه…
المـرأة المتيمة الخاطئة…
الرجـل الخائف المتردد…
الأم فى الولادة…
السمك يشويها عـلى الجمـر…
تقشف المعـمدان…

وإلهى يبقى شعـرًا أبديـًا, لأنه يبقى كلامـًا صائتـًا أو صامتـًا, إنه يبقى, فى قلوب البشر, منشد التاريخ الأعظم…
وإلهى يبقى شاعـرًا, لأنه لا وجـود فى إلهى إلا للجمال, والإحساس, والحنان, والذكاء, والنبوءة, والشغـف بكل ما فى الوجـود…
كل شاعـر أصـيل هو, على نحو ما , صاحب ثورة, لأنه يسبر غـور الأمـور فتتعـكر المياه, وتتفـتق الأوحـال الدفينة…
لذلك فإن إلهى هـو الثوروى الحـقـيقى فى التاريخ…
لذلك فإن إلهى شعـره لا يزال عصـريـًا حيـًا…
لذلك فإن اشعـاره وسائر كلماته لا تزال تهـزنا وتقـرعنا وتدعـونا…
وإلهى صعـب المـراس, إلهى الشاعـر, إلهى الحساس, إلهى الثوروى صعـب مع الذين يفـكّرون بإله هندسى رياضى…
مع الذين لا يتصـورون إلهـًا يحب الأمـور الملوسة…
مع الذين يؤثـرون إلهـًا أبكـم…
مطـبق الأسرار…
عـديم الشعـور…

بيـد أن إلهى سيظـل شاعـرًا, دائمـًا أبدًا…
شاعـر اللامتناهى, شاعـر الأرض, أرضى, أرضى التعـيسة, أرضى الرقيقة…
إلهى يتفاعـل مع كل نسمة من الشعـر الحىّ, المجـبول باللحم والدم الإنسانى…
إلهى هـو الشعـر بالذات…
إلهى هو الإلهـام لكـلّ مخـلوق يـَدَعُ قصبة كيانه النحيلة تمتلئ, فى كل لحظة, من تلك الكلمة الخفية العجيبة التى تعـطيه الوجـود, وتذكّـره بأن الحـياة ليست بدون معـنى…

الهي فقير