مسيحيّو الشرق يعودون إلى كنائسهم وأوطانهم…

 

الأب رفعـت بدر – روما

بعد أسبوعين من الاجتماعات المكثّفة في حاضرة الفاتيكان، يعود مسيحيّو الشرق الأوسط إلى بلدانهم الأصليّة، محمّلين بمحبّة الكنيسة الجامعة لهم، وعاكفين على إكمال مسيرتهم في خدمة مؤمنيهم وكنائسهم ومؤسّساتهم، كما ومجتمعاتهم وأوطانهم. لم يكن بطاركة الشرق وأساقفتهم وكهنتهم ومؤمنوهم في رحلة استجمام في روما، وإنّما لبّوا دعوة قداسة البابا في سينودس (جمعيّة خاصّة بالأساقفة)، في اجتماعات صلاة وتفكير وتبادل آراء وتصويت على مقترحات تخصّ مستقبل المسيحيّين في الشرق. وقد ضمّنوا البيان الختامي رسالة محبّة وسلام إلى كنائسهم ومجتمعاتهم.

 

ثلاثة محاور رئيسة سيطرت على صلب الاجتماعات والتوصيات، وهي الحضور والشركة والشهادة. أمّا الحضور فيخصّ بوعي المسيحيّ لإيمانه، ولهويّته في المشرق العربي، فهو مواطن عربيّ، له ما لسائر المواطنين من حقوق، وعليه ما عليهم من واجبات. وقد تبيّن من بعض النقاشات والمداخلات كم هنالك من تفاوت بين بلد وآخر، فمن المشاركين من أشاد بقوّة بلده، لأنّها تحفظ الحقوق وتصون حقّ كلّ مواطن بعيش كريم وحياة هانئة. وكم من آلام من جهة أخرى قد أفرزتها بعض المداخلات، وبخاصّة من بين الدول التي تقيّد الحريّات، وما زالت تعامل الإنسان على أساس عرقه أو دينه أو جنسه وغيرها من الفوارق التي ولّت كمعايير للتعامل في المجتمعات المتطوّرة. والمسيحيّ في الشرق إلى جانب كونه مواطناً، هو أيضا وريث للمسيحيّين في الشرق، أي من حيث نشأت ديانته وانتشرت لتصبح ديانة عالميّة، تقدّم المحبّة والتضامن بين البشر، كمعيار لتديّن الإنسان السليم. ويعود مسيحيّو الشرق إلى أوطانهم، بينما توجّه قسم كبير منهم أيضا إلى أماكن انتشارهم وهجرتهم، لكنّهم، وهذا ما تمّ التركيز عليه أيضا، يبقون أمينين لجذورهم الإيمانيّة والوطنيّة.

 

والمحور الثاني هو محور الشركة أي الوحدة داخل الجسم الكنسيّ الكاثوليكي في الشرق. وكانت كلّ كنيسة مشاركة تحمل تقاليد وإرثا خاصّاً، متمثّلا بالتاريخ والطقوس وأحيانا لغة الصلاة والتواصل. إلاّ أنّ ما يجمعها هو اعترافها بسلطة البابا، خليفة القدّيس بطرس. الاّ أنّ الحاجة هي إلى التعاون الخصب والمتواصل والمثمر ما بين الكنائس، قياداتها الروحيّة ومؤسسّاتها ومؤمنيها، وهو ما أطلق عليه في السينودس اسم "الشركة". وقد أعيد من جديد، التأكيد على ما يكرّره بطاركة الشرق: "في الشرق إمّا أنْ نكون مسيحيّين معا وإمّا لا نكون".

 

أمّا المحور الثالث فهو الشهادة، وتتطلّب أولا التعاون مع أتباع الديانات الأخرى، ولذلك كانت هنالك مداخلتان رسميّتان على جدول الأعمال لممثلين مسلمَين: الأولى للسيّد محمّد السمّاك، مستشار المفتي اللبناني السنيّ، والثانية لآية الله سيّد مصطفى موهاغيغ أحمدابادي، أستاذ كلّيّة القانون في جامعة الشهيد بيهيشتي (طهران)، عضو الأكاديميّة الإيرانيّة للعلوم (إيران)، كممثّل عن الشيعة، فيما قام الحاخام الاسرائيلي ديفيد روزن، المدير الدولي للشؤون الدينية في اللجنة اليهودية الاميركية بإلقاء كلمة عن الديانة اليهوديّة. والمسيحيّ لا يشهد للمحبّة فقط بكونه فردا أو عائلة، وإنّما هنالك المؤسسّات المسيحيّة العاملة والنشطة في مختلف المجالات، وبخاصّة المجالات التربويّة والصحيّة، وهي تقدّم خدماتها لجميع المواطنين، بلا استثناء وبلا ايّ توقّف عند الفروقات العرقيّة أو الدينيّة. وهي مؤسّسات وجب دعمها وتسيير عملها لتبقى شاهدة للعيش المشترك ولأجواء الأمن داخل المجتمعات. وسيبقى ذلك ناقصا ما لم تتعمّق مبادرات الحوار بين الأديان، فكرا وممارسة، كتربة خصبة للمجتمعات السليمة.

 

أمّا الأردن، فكان ممثّلا بوفد رفيع، ضمّ البطريرك فؤاد الطوال، بطريرك القدس للاتين والأساقفة الكاثوليك العاملين في الأردن وعددا من الكهنة والعلمانيّين، وقد تمّ خلال المداخلات "الأردنيّة" الإشادة بالمواقف الأردنيّة المميّزة، وأهمّها إثنتان: الأولى رسالة عمّان كوثيقة تعبّر عمّا هو الإسلام الحقيقيّ، وما يجب أن تكون الأمور عليه في البلدان الأخرى، والثانية هي الشركة الكنسيّة المميّزة والمتمثّلة بتوحيد الأعياد لدى المسيحيّين، الأمر الذي ما زال حلما وأملا في الكثير من البلدان المجاورة والبعيدة. وممّا يضاعف الفخر أيضا الإشادة التي قدّمها السيّد فرانكو فراتيني، وزير الخارجيّة الأيطالي، في استقباله لوفد البطاركة، فقال: "لدينا مثل إيجابيّ في الشرق الأوسط حيث ننظر بتعاطف إلى الأردن وسوريا من أجل ما يميّزهما حيث تعلّم المسيحيّون والمسلمون منذ وقت طويل أن يعيشوا بسلام فيما بينهم".