الرسالة البطريركية في عيد الميلاد المجيد

 

 – 25 ديسمبر 2011

+ الأنبا انطونيوس نجيب

بطريرك كاردينال الإسكندرية للأقباط الكاثوليك

 

باسم الآب والابن والروح القدس ، الإله الواحد آمين .

من الأنبا انطونيوس نجيب

بنعمة الله ، بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك وكاردينال الكنيسة الجامعة ،

إلى إخوتنا المطارنة ، وإلى أبنائنا القمامصة والقسوس ، والرهبان والراهبات والشمامسة ،

وإلى جميع أبناء الكنيسة القبطية الكاثوليكية على أرض الوطن وفي بلاد الانتشار ،

 

ميلاد المسيح ثورة المحبة

 

1- تتجلى المحبة الإلهية في عمل الله عِبر الأزمنة :

        في العهد القديم ، بالرغم من أن كتبها لا تذكر كلمة "محبة" إلا قليلاً ، إلا أن أحداثه تدلّ علي أن محبة الله دائمة عِبر الزمن . ففي الخلق ، أراد الله في محبته أن يعطي آدم وحواء ملء الحياة ، مرتبطا بالطاعة والالتزام الحرّ بوصاياه . وبعد مخالفة أبوينا الأولين ، تجلّت المحبة الإلهية في الوعد بالخلاص . ثم عبّر الله عن محبته لإبراهيم ، حين دعاه إلى صداقته وحواره . وجاء جواب إبراهيم إيماناً مقترنا بالطاعة الكاملة . وتعامل الله مع موسى النبي بحنان عظيم ورحمة فائقة . تحدّث معه كما يتحدث مع صديق ، وهو القدّوس المتعالي .

 

وتتواصل محبة الله بنوع خاص مع الأنبياء . وفي مسيرة العلاقة بين الله والإنسان ، كم توالت مبادرات المحبة الإلهية  ورفض الإنسان .  وفي كل مرة ، يظهر واضحاً أن المحبة الإلهية هي دوماً أعظم من خطايا البشر . وأخيرا حدثت ثورة الحب الكبرى بميلاد المسيح ، فغيّرت كل سمات العلاقة بين الله والبشر من جهة ، وبين الإنسان وأخيه الإنسان من جهة أخرى .

 

يفتتح القدّيس يوحنا بشارته بالإنجيل مُعلنا :" في البدء كان الكلمة ، والكلمة كان عند الله ، وكان الكلمة الله . هو في البدء كان عند الله..والكلمة صار بشرا وعاش بيننا..من فيض نِعمه نلنا جميعا ، نعمة على نعمة ، لأن الله بموسى أعطانا الشريعة . وأما بيسوع المسيح فوهبنا النعمة والحق " ( يوحنا 1 : 1 –  17 ) .

 

إيماننا بالله الواحد الأحد من جوهر إيماننا المسيحي . إننا نعلنه في قدّاساتنا وصلواتنا : " نؤمن بإله واحد ، اللهِ الآب القدير ، خالق السماء والأرض ، ما يُرى وما لا يُرى .. ونؤمن بربٍّ واحد يسوعَ المسيح ، ابنِ الله الوحيد ". ليس هنا انقسامٌ ، أو تعدد ، أو شرك . بل هو انبثاق النور من النور . يتنازل الله ويرسل كلمته الذاتية الناطقة ، الذي أخلى ذاته آخذاً صورة بشر . أمرٌ لا ينقِص من قدر الله ولا يجرح وحدانيته ، بل يكشف عن عظيم محبته للبشر ( فيلبي 2 : 6 ) .

* * * * *

 

2 – وميلاد المسيح ثورة علي القيم الأرضية الفانية لإعلاء القيم السمائية الخالدة :

▪ جعل المسيح الارتباط به ليس وسيلة للمصلحة ، بل سبيلا إلي التضحية : " مَن لا يحمل صليبه ويتبعني ، لا يقدر أن يكون تلميذا لي " ( لوقا 14 : 27) .

▪ أعلن أن الغِنى الحقيقي هو الاغتناء بالله ، ويقوم في التخلي : " مَن جاء إليَّ ، وما أحبّني أكثرَ من حبه لأبيه وأمه وامرأته وأولاده ، وإخوته وأخواته ، بل أكثرَ من حبّه لنفسه ، لا يقدر أن يكون تلميذا لي " ( لوقا 14 : 25- 26) .

▪ حوّل الاختلاف بين الناس من صراع ، إلي التقاء في أخوّة عالمية. فكل الناس إخوة، أبناءُ الآب السماوي ، وإليه يصلّون جميعا : " أبانا الذي في السماوات " (متى 5 : 9).    

▪ لذلك رفض النظرة الدونية للمرأة ورفعها إلي التساوى مع الرجل في الإنسانية والكرامة . قال : " أما قرأتم أن الخالق ، من البدء خلقهما ذكرا وأنثي ؟ لذلك يترك الرجل أباه وأمّه ويتحد بامرأته ، فيصيرُ الاثنان جسدا واحدا . فلا يكونان اثنين ، بل جسدا واحدا . وما جمعه الله لا يفرّقه الإنسان " ( متى 19 : 4 – 6 ) .

▪ وانطلاقا من هذا المبدأ الأساسي ، يؤكد بولس الرسول مبدأ المساواة الكاملة وانعدام التفرقة بين جميع الناس : " لا فرق الآن بين يهودي وغير يهودي ، بين عبد وحرّ ، بين رجل وامرأة ، فأنتم كلكم واحد في المسيح يسوع " ( غلاطية 3 : 28-29 ) .

▪ وغيّر المسيح قاعدة التعامل بين الناس ، من الأنانية والصراع والعنف إلي المعاملة الحسنة ، بل إلي الحب : " عاملوا الناس مثلما تريدون أن يعاملوكم " ( لوقا 6 : 31 ) … " أحِبّ قريبك مثلما تحبّ نفسك " ( متى 22 : 39 ) .

▪ أعلن الثورة الكبرى حين دعا إلى مقابلة الشر بالخير : " سمعتم أنه قيل : أحِبّ قريبك وابغض عدوّك . أما أنا فأقول لكم : أحبّوا أعداءكم . باركوا لاعنيكم . أحسنوا إلي مبغضيكم . وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم. فتكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات" ( متى 5 : 43-45 ) . 

▪ جعل العَظمة الحقيقية في التواضع : " مَن يرفع نفسه ينخفض ، ومَن يخفض نفسه يرتفع " (متى 14 : 11 ) … " مَن أراد أن يكون أول الناس ، فليكن آخرَهم جميعا وخادما لهم" ( مرقس 9 : 35 ) .

▪ ومن هنا قلب شرعة الرئاسة ، من السيادة والتسلط ، إلي الخدمة وبذل الذات : "تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونها ، وأن عظماءها يتسلطون عليها . فلا يكن هذا فيكم. بل من أراد أن يكون عظيما فيكم ، فليكن لكم خادما . ومَن أراد أن يكون الأول فيكم ، فليكن لكم عبدا . هكذا ابنُ الإنسان ، جاء لا ليخدمه الناس ، بل ليخدمهم ويفدي بحياته كثيرا منهم " ( متى 20 : 25- 28 ) .

▪ ووضع خيرات الدنيا في ميزان الدينونة والأبدية ، فأعلن : " ماذا ينفع الإنسانَ لو ربح العالم كله وخسر نفسه ؟ " ( لوقا 9 : 25 ) .

▪ أما الثورة العظمى فهي في مضمون المحبة نفسها : " هذه هي وصيتي : أحبّوا بعضُكم بعضا مثلما أجببتكم أنا . ما مِن حبّ أعظمُ من هذا : أن يضحّىَ الإنسان بنفسه في سبيل أحبائه . وأنتم أحبائي إذا عملتم ما أوصيكم به " ( يوحنا 15 : 12 – 14 ) وأعطانا القدوة والمثل ، كما يقول بولس الرسول : " اقتدوا بالله كأبناء أحبّاء . وسيروا في المحبة سيرة المسيح ، الذي أحبّنا وضحّى بنفسه من أجلنا " (أفسس 5 : 1-2 ) .

▪ وأخيرا تجلت قمة ثورة الحب بقيامة المسيح من بين الأموات . انتصر علي الموت المرعب ، وفتح لنا باب الحياة الأبدية . كما يؤكد بولس الرسول : " الموت ابتلعه الغلبة. فأين نصرك يا موت ؟ وأين يا موت شوكتك ؟ .. فالحمد لله الذي منحنا النصر بربنا يسوع المسيح " … لذلك يدعونا بولس قائلا : " فكونوا ، يا إخوتي الأحباء ثابتين راسخين ، مجتهدين في عمل الرب كل حين، عالمين أن جهدَكم في الرب لا يضيع" (1 كورنثوس15 : 54–58 ) .

 

إنها المحبة ، خريطة الطريق لكل ثورة حقيقية تريد أن تنجح في تغيير فعلي للأفضل ، سواء في الحياة الشخصية ، أو العائلية ، أو الاجتماعية ، أو الوطنية ، أو الدوُلية .

* * * * *

 

3 – ميلاد المسيح انطلاقٌ لحضارة المحبة :

        جاء المسيح وأسس حضارة المحبة . انطلق الإيمان المسيحي إلى أنحاء الدنيا ، ينشر الحب ، يبشر بوحدة الأسرة البشرية ، يحترم حقوق الإنسان وثقافة الشعوب ، ويصون حضارة الأمم ، يقدّم مريم العذراء نموذجاً دائماً للمرأة ، في طُهرها وأمانتها
وطاعتها لله . وتبقى الكنيسة المسيحية دوما حاملة دعوة الحب والاحترام لكل إنسان ، برغم الأخطاء التي تصدر أحيانا من بعض أعضائها .

 

إن عالمنا اليوم يبدو مرعباً ، يثير القلق والخوف . فالثورات تجتاح العالم . والرغبة في تغيير الأنظمة ، على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، أصبحت تياراً جارفاً . والزلازل والفيضانات والكوارث تضرب في كل أنحاء الأرض، وتحصد الضحايا . لكن هذا المشهد الحزين لا يخفي سعي البشرية ونجاحها ، على الصعيد العلمي والتضامن الإنساني ، وانتشار الحرية والتقدم من أجل إقامة عدالة اجتماعية ، ويقظة الضمير العالمي أمام مآسي المهمَّشين والضعفاء . حركات التغيير في بلاد منطقتنا ، وفي أماكن أخري كثيرة في العالم ، هي فرصة ذهبية لتحقيق تطلعات أبناء جيلنا إلي عالم تتحقق فيه الأخوّة البشرية والعدالة والكرامة . فليختر كل إنسان الإيمانَ الذي يقتنع به أمام الله . وليعطِ الحقَّ نفسه لأخيه الإنسان . لا يستطيع الإنسان أن يرضى الله بدون أن يحترم إخوته بني البشر ، وأن يتضامن معهم للبناء والتقدم والخير . شريعة المحبة الإلهية هي أساس بنيان العالم والمجتمع .

 

ختاماً

        إننا اليوم ، في اتحاد مع قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر ، وجميع البطاركة والأساقفة والشعوب ، نرفع صلواتنا من أجل المجلس الأعلى للقوات المسلحة ، وجميع الذين يحملون أمانة مسئولية بلدنا الحبيب ، في هذه الفترة التاريخية الدقيقة والحاسمة . نتضرع إلي الرب أن ينيرهم ويساندهم ليقودوا مسيرة مصر الغالية إلي ميناء الأمن والأمان ، والاستقرار والتقدّم . فيحقّقوا للأجيال الحاضرة والمستقبلة أمانيهم الغالية ، بأن نرى مصرنا منارا للفكر المستنير ، والعمل البنّاء ، والقلب المتفتّح ، والسلام النابع من العدالة والحرّية والمساواة . ولتتكلل جهود كل من يعمل من أجل بناء الوطن ، في التضامن والمحبة ، بالنجاح والخير ووافر البركات .

 

 ونصلي أيضا من أجل كل البلاد التي تجاهد في منطقتنا العربية ، وفي بلاد أفريقيا وآسيا، من أجل أن تتمتع شعوبها بحياة كريمة ، قائمة علي الحرية والعدالة، والمساواة والإخاء والتضامن ، ليعمّ الأمن والأمان ، والسلام والحب . لنرنم بفرح : مع الملائكة : " المجد لله في الأعالي ، وعلى الأرض السلام ، وللناس المسرة " .

+ الأنبا انطونيوس نجيب

بطريرك كاردينال الإسكندرية للأقباط الكاثوليك