رسالة مفتوحة إلى صاحب القداسة الأنبا تواضروس الثاني

شكراً، فقد جعلتنا نعاين الله

القاهرة, 19 مارس 2013 (زينيت)

عدت اليوم من حفل تنصيب صاحب الغبطة الأنبا إبراهيم اسحق وأنا في غاية التأثر، إلى الحد الذي امتنع فيه النوم عن عيني قبل أن أبوح بما يعتمل في وجداني، وأسطّر ما يجيش في جوارحي، قبل أن أرفع صلاة الحمد إلى الله، والشكر لقداستكم، إذ يجب إلا تغرب الشمس على عميق الشكر وجزيل الامتنان، على لفتات جسَّدت أسمى ما في فضائل المسيحية: المحبة الأخوية.

لقد صاحب دخولكم كاتدرائية سيدة مصر تصفيق مدوي ومطوَّل، حار وتلقائي،  دل على أن قداستكم قد اكتسبتم القلوب مسبقاً، ومنذ زمن طويل. ولعل أول ما يتبادر إلى ذهني تكرُمكم بمبادرة القيام بكل ما يلزم تجاه رفات راهبات ثلاث انطلقن إلى لقاء عريسهن السماوي إثر حادث سيارة مروع على طريق دمنهور.

ثم جاءت مشاركتكم الشخصية اليوم، في قداس تنصيب بطريركنا الحبيب، كتجسيد رائع لمحبة عميقة تتجاوز سطحية المجاملات، ولمسيحية أصيلة تسخر من زائف الممارسات، ولكهنوت حقيقي يدل على اشتراك في كهنوت يسوع المسيح بالذات.

ومضي هذا الحضور الفعلي الكريم الذي يفيض رقة خالصة، إلى عظة مؤثرة: ألعلها الأولى من حيث  نوعها وظروفها؟ لم أصدقُ عيني حينما وقعت على ذكرها ضمن برنامج احتفالية التنصيب. لقد تحدثتَ صادقاً ومُقنعاً عن أبعاد المسئولية البطريركية من أبوّة وخدمة ومحبة، فهذا ما تعيشه قداستكم فعلاً لا قولاً.

أفضت كلمات المحبة التي فاضت من قلبكم رائعة وعظيمة إلى هدية ثمينة القيمة، فيها تقدير وإجلال، كما فيها روعة وجمال.

ولكنني تأثرت كثيراً بهذا العناق الأخوي بين قداستكم وبطريركنا الحبيب، فقد فاض منه صدق وصفاء، وفاء وسخاء، فجاء بليغ التعبير عما نراه في أيقونة عناق الرسولين بطرس وبولس. عناق ذكرني بواقعية ثلاثة حروف في وصية الرب: "أحبوا بعضكم بعضاًكماأحببتكم". "كما أحببتكم":  يا له من معيار مطلق ما أبعده عن النسبية، ويا له من مقياس إلهي شتان بينه وبين ألاعيب الإنسانية؟ ويا له من معيار للحياة الأبدية والبون شاسع بينه وبين مماحكات الحياة الأرضية؟ ويا له من تجسيد لمحبة حقيقة تنأى بنفسها عن سراب الشعارات وديماجوجية الخطابات، عن محسِِِِِِّنات الكلام وفصاحة العبارات، عن سحر البيان ومستحبات الأذان.

لقد حان الوقت لكي يعطي رؤساء الكنائس البرهان عن مصداقية المسيح والانجيل والمسيحية، وواقعية الكنيسة وفعالية المحبة الإلهية.

لكم تساءلت لماذا نحبس أنفسنا كمسيحيين في سلبيات الماضي فنقتل إبداع روح المحبة، روح الحياة؟

لماذا نغلق على أنفسنا أبواب سجون  المجادلات والمناكفات، وغياهب الخلافات والصراعات، ومعتقلات التنديد والمهاترات، وجحيم الكراهية والمخاصمات؟ ألا يوجد في المسيحية أفضل من ذلك؟

لماذا نقتني معاول الهدم والدمار، بدلاً من البناء والإعمار؟

لماذا لم تعد أعيننا تنظر إلا إلى الوراء وإلى الأسفل؟ ولماذا لا تنظر إلى الأمام وإلى الأعلى؟

لماذا نقدس الخلاف ونستخف التوافق؟ ولماذا نتعبد لذاكرة السلبيات، ونزدري ضمير يستصرخنا إلى الإيجابيات؟ ولماذا نحترم الاجتهادات البشرية ونحتقر الوصية الإلهية؟

لماذا لم نعد نتحلى بجراءة صياغة جديدة لفحوى الإيمان الثابت الذي لا يتغير، طالما ثبت أن المصطلحات المستخدمة حتى الآن معظمها له أكثر من معنى حتى في معاجم اللغة اليونانية؟

لماذا لم نعد قادرين على عيش الإنجيل، ولا على التعلم حتى من السياسة: كم من دول، قفزت من حالة الحروب  الطاحنة إلى السلام الدائم: مثلما فعلت دول المحور (ألمانيا وإيطاليا وتركيا واليابان) ودول الحلفاء (أمريكا وروسيا وإنجلترا وفرنسا)؟

من كل هذه الهواجس التي تقضُّ المضاجع، أنقذَتني اليوم محبتُكَ الرائعة يا صاحب القداسة، إلى الدرجة التي إستعرت فيها كلمات سمعان الشيخ: "والآن يا رب، أطلق نفس عبدك بسلام، وفقاً لقولك، فقد رأت عيناي خلاصك" (لو 2/29-30).

أشكرك، يا صاحب القداسة،

ليس فقط لأنك أعطيتنا مثلاً بالغ التأثير على الصعيدين الشخصي والكنسي،

وليس فقط لأنك أيضاً عشت وتعيش خدمة المصالحة التي هي شعار بطريركنا الحبيب،

بل أيضاً وخصوصاً لأنك إذ جسَّدت لنا تلك التطويبة الرائعة: "طوبى لأنقياء القلوب لأنهم يعاينون الله" (مت 5/8)، قد سَمحت لنا، نحن أيضاً، بأن نعاين الله فيك، هنا على الأرض.

الدكتور الأب / ميلاد صدقي زخاري اللعازري

القاهرة، 12/3/2013

jean.gabrielper@gmail.com