لماذا البتولية؟

بقلم الأب هاني باخوم

روما، الاثنين 9 نوفمبر 2009 (zenit.org).

البتولية في عصرنا الحالي اصبحت موضوعاً للمناقشة بطريقة لم يسبق لها مثيل. فالبعض يدافعون عنها ويرونها كعطية من الله لكنيسته ولمختاريه، وآخرون ينظرون اليها كفرض كنسي فقط، هدفه كبت طاقة الانسان وحريته. 

في البداية يجب ان نفرّق بين البتولية والعفّة والعزوبية، وان كان استخدامها في اللغة العربية، وغيرها من الّلغات، لا يعطي اهتماماً كبيراً لهذا الفرق.

– العزوبية هي حالة الانسان الغير متزوج، اي الغير مرتبط بأيّ رباط زوجيّ. نصف بها واقعاً محدداً دون ان ندخل في اسبابه. لكن، هل انّ عزوبية شخص ما، هي من اختياره؟ ام بسبب مشكلة ما، او لعدم القدرة على الزّواج؟…الخ. كلمة العزوبية اذاً هي صفة لحالة الشّخص الغير متزوج دون التّعمق في بعد اخر.

– العفّة هي فضيلة، تدعو الانسان لعيش حياته الجنسية بحسب مشيئة الله في حالته الخاصة. فهي لا تعني فقط الامتناع عن المجامعة الجنسية لفترة ما، بل لها بُعد أعمق بكثير. فالكلّ مدعو الى العفّة حسب حالته. المخطوبون مدعوون إلى عيش فترة خطوبتهم بحبّ عفيف (فرح ورجاء 49)، اي انهم مدعوون إِلى الإِمتِناع عن العلاقة الحميمة، والتي هي مكرّسة داخل اطار الرّباط الزّوجي فقط. ايضاً الأزواج مدعوون ان يحيوا العفّة. هذه العفّة قد تكون في العلاقة الحميمة نفسها، اذا عاشوها وتمّموها بطريقة تليق حقاً بالانسان (فرح ورجاء 49). قد تكون ايضا في الامتناع عنها لاسباب خطيرة، خلال فترة خصوبة الزّوجة، وهي الطّريقة المسمّاة "طبيعية" لتباعد الولادات المتتالية (دليل الكهنة المعرفين بشأن اداب الحياة الزّوجية 6). ايضاً الكهنة والرّهبان مدعوون الى العفة، والتي لا تعني فقط عدم عقد زواج، بل عيش تلك الحالة بطهارة وتكريس كامل للخدمة الالهية ولأعمال الرّسالة (المحبة الكاملة 12).

– البتولية هي حالة المؤمن الذي يختار حالة العزوبية، اي عدم عقد اي زواج، ليكرّس نفسه لله ولرسالة معينة  سواء في  حياة الكهنوت او الرّهبنة باشكالها المعتمدة من الكنيسة. فالبتوليّة هي حالة عزوبية مكرّسة، مرغوبة، ليس لعدم الرّغبة في الزواج، او عدم المقدرة، ولكن لرغبة تكريس الذات بأكملها لله. البتولية تعني ايضاً "عذراء"، اي لم يسبق له او لها اقامة اي علاقة جنسية، لكنّنا نعطيها هنا معنىً أكبر، وهو تكريس الذّات والجسد لخدمة الله.

سؤالنا الان: لماذا البتولية؟

يسوع المسيح في حواره مع التّلاميذ يقول:"هناك خصيان ولدوا من بطون امّهاتهم على هذه الحال، وهناك خصيان خصاهم النّاس، وهناك خصيان خصوا انفسهم من اجل ملكوت السّموات. فمن استطاع ان يفهم فليفهم."(مت 19 : 12).

تعبير "خصي" الذي يبدو قاسياً او بالاحرى اهانة، يستخدمه المسيح ليتكلّم عن حالة من لا يتزوج، ردّاً على من كانوا يتّهمونه بأنّه لم يتزوج حسب العادة في ذلك الوقت  لأنّه "خصي".اي ان اعاقة جسديّة ما تمنعه من الزّواج. يسوع المسيح يستخدم نفس التّعبير، ويدخله في الاطار الروحي وليس الجسدي، وهكذا يعطيه معنىً جديداً تماماً[1].  بهذا الكلام يكرّس يسوع المسيح نوعاً من العزوبية، مرغوب فيه من الشّخص نفسه من اجل ملكوت السّموات ، وليس لانّه مجبر او غير قادر. فالبتوليّة سببها الاساسيّ او دافعها الاول هو ملكوت السّموات.

"من اجل ملكوت السّموات". خاصةُ هذا الملكوت الاساسية هي انّه هنا بالفعل، ولكنّه لم يتمّ نهائياً في الزّمن. فهو بالفعل حاضر في وسطنا، وقد تمّ في عمل المسيح الفدائي الكامل والتّام، وبارسال الرّوح القدس. ولكنّه ايضاً يجب ان يُتَمّم في التّاريخ، في الزّمن. هو مسيرة. كلّ الذين اختيروا من قبل انشاء العالم، مدعوون إلى الدّخول فيها. لذلك نتضرع ونقول "ليأتي ملكوتك" في صلاة الابانا.

ملكوت الله حاضر في وسطنا بالفعل. لذلك من الممكن منذ الآن، ان يحيا البعض حسب دعوة الله، ما سنكون عليه جميعاً في الملكوت السّماوي في نهاية الازمنة، نتيجة لهذا الحضور. اي ان نحيا بدون زواج كما يؤكد المسيح: "في القيامة لا الرّجال يتزوجون، ولا النّساء يزوجن، بل يكونون مثل الملائكة في السّماء" (مت 22: 30). فالبتولية ممكنة فقط لان ملكوت السّموات حاضر في وسطنا وبدأنا نتذوق ثماره، ثمار الحياة الابدية، ثمار طبيعة ابناء الله. فالبتولية اذاً ليست احباطاً او كبتاً لطبيعة الانسان، بل هي التّحقيق التّام لهذه الطّبيعة ولما ستكون عليه في السّموات. اي انّها استباق في العالم الحاضر لصورة الانسان السّماوي. لا يعني هذا ان الزّواج اقل قيمة. فالزواج المسيحي  دعوة مقدّسة فيها يرى العالم صورة اتحاد المسيح بكنيسته.

"لياتي ملكوتك"، تلك الطّلبة توضح كما ذكرنا، ان هذا الملكوت وان كان قد تمّ بالفعل مع مجيء المسيح الأوّل، عليه ان يُتَمّم ويأتي كاملاً في كنيسته في الزّمن. يجب ان يُدعى اليه من تمّ اخيارهم فعلاً من الله الآب. فهناك ايضاً العمل الارسالي، "اعلان الخبر المفرح"، اي تجسد ابن الله وموته من اجل خطايانا، وقيامته من اجل تبريرنا، وصعوده الى السّماء وارساله الروح القدس ليقيم الايمان في من يرجو اسمه، فَيُمَكِّنه من دخول هذا الملكوت. ولكي يتحقق هذا الاعلان، يحتاج ايضاً، واكرر ايضاً اي ليس فقط، مؤمنين يكرسون ذواتهم كلياً لله ولاعلان الخبر المفرح. مؤمنون بقلب غير متجزىء يلتحقون بالمسيح ويتبعونه، بمزيد من الحرية (الدرجة الكهنوتية 16). يكونون علامة لصورة الانسان الذي يَعِدون به، يكونون مستعدين ليس فقط للذهاب إلى اراضٍ بعيدة للتبشير، لكن ايضاً ان يكرّسوا حياتهم للصّلاة، للتّأمل، للدّراسة من اجل الرّسالة وتوبة الخاطئين وانجاب بنين في الايمان (رسالة بولس الى فيلمون 1: 10).

ما اجمل التّقليد المسيحي القديم، كما يذكر الأب كانتالاميسا في كتابه[2]، الذي يربط بتولية المختارين من الله، ببتولية العذراء مريم، فيؤكّد: كما ان العذراء هي ايضاً امّ، كذلك كل نفس مكرّسة لله هي عذراء وامّ بالايمان لغيرها. فالبتولية هي خصوبة روحية، وليست جسدية، خصوبة من اجل نمو ذلك الملكوت حتى يصل لحالته النّهائية والتي هي بالفعل موجودة ومحققة.  

البتولية هي اذاً مِن ولاجل الملكوت، ثمرة الفداء الخلاصي للمسيح وثمرة للتّذوق. تذوق من على الارض، وان كان جزئياً وبما تسمح به الطّبيعة، لخيرات السّماء وطبيعة ابناء الله.

 

[1] Cf. R. CANTALAMESSA, La verginità, Ancora, Milano 1996, 16.

[2] Idem.