من أجل الراعي

 

بمناسبة السنة الكهنوتية التي أعلنها الجالس على عرش القدّيس بطرس هامة الرسل قداسة البابا بنيدكتوس 16، ننشر ميمر ( كلمة سريانية تعني مقالة أو خطبة أو قصيد دينية، وجمعها ميامر. فالميمر منظومة شعرية مطوّلة  لا لازمة فيها، ولا تنقسم إلى أبيات. كانت تقرأ على جمهور المؤمنين داخل الكنائس لدفع الملل عنهم في الصلوات الطويلة في الأعياد الأصوام) للقدّيس يوحنا كليماكوس (ولد في مدينة فلسطين سنة 625، ترهبن في دير طور سينا، وعمره 16 سنة، وتتلمذ عن يد مرتيروس)، والذي اختصره الصفي أبو الفضائل ماجد أسعد اسحق إبراهيم العسال، في كتابه المشهور:"سُلّم السماء ودرجات الفضائل" ومخطوطاته هي: أسيوط، دير المحرق، 11/22، ورقة 66 وجه – 91 وجه، 11/24؛ 11/29؛ 11/36، ورقة 89 وجه- 125 وجه، بيرمينجهام سيلي أوك، مجموعة مينجانا، سرياني، 77 [21]  (1834)، ورقة 105 ظهر- 149 ظهر؛ الفاتيكان، المكتبة الرسولية،673 (قرشوني) (1720)، ورقة 1 وجه- 116 ظهر؛ القاهرة، البطريركية القبطية الأرثوذكسية، لاهوت154، ورقة 127 وجه – 176 وجه، القدس، القبر المقدس 24 (1567)، 101 وجه- 144 ظهر. وقد نشرت العظات الأربع الأولى في مجلة" الكرمة" 17(1931)، ص449-456؛ ونشرت العظات كلها لأول مرة إلى اللغة العربية في سنة 1901، ثمّ توالت الطبعات من قبل حبيب جرجس، مدير الكلية الإكليريكية للأقباط الأرثوذكس، تحت عنوان: " سلم السماء ودرجات الفضائل للقديس يوحنا كليماكوس الشهير بيوحنا الدرجي رئيس أديرة طور سينا اختصره الشيخ الصفي ابن العسال"،القاهرة، 1946. وتم إعادة نشرة في القاهرة سنة 1973، وتم إعادة طبعه من رهبنة دير مار جرجس الحرف، لبنان، 1979. وإننا ننشر الميمر الحادي والثلاثين بمناسبة السنة الكهنوتية لأنه يحوى عدة إرشادات روحية ورعائية لآبائنا القمامصة وإخوتنا الكهنة وها نصه:

« راعي البشر الصالح هو الذي، بقوة الله التي اقتناها وبحرصه وتعبه وصلاته، يطلب الضالين ويردهم ويقوِّم المعوجين، ويثبت المستقيمين، ويزيدهم من غنى الفضائل حسب إمكانه. وهذا هو الطبيب الذي قد ملك صحة النفس والجسد، وينتبه من أمراضها، ولا يحتاج إلى إنسان غيره يُداويه ويُعالجه.

هذا هو المعلّم الذي قبل في معرفة إرادة الله المرسومة بأصبع الله، فلا يحتاج إلى كتاب مكتوبة بقلم. فبقدر ما يتبعه كل واحد من هذه الرعية يطلب من الله الجواب عنها. فعند ما تنعس الرعية من حر أو تعب أو قلة طعام، وحينئذ يسهر في حراستها، بالصلاة عنها لئلا يخطف الذئب أحد منها.

اتخذ يا طبيب النفوس شرابًا لشفاء الأوجاع الباطنة، والضرورات التي هي الإهانة لتخفف مادة الظن بالنفس، والكحل الذي ينقي عين النفس من تعكير الحدة والغضب، والمبضع لبتر ورم العظمة وإخراج قيح الحقد، والكي وهو عقوبة التوبة بالشفقة والرحمة، والدهن الذي يمسح به الأورام الصعبة، ويدهن به المريض عند إفاقته وهو عزاء الكلام وحل الرباط بعد الكي، والمرقد الذي هو حيلة النوم لكي لا ينظر إلى فضائله فيتلفها، والعصا التي تثبت الدواء، وهي الأفكار بأقسام الخوف وأصناف الرجاء، والسكين لقطع العضو الذي فسد ومات وإذا ترك أفسد باقي أعضاء الجسد.

كما أنه ممدوح عدم التفرز في الأطباء، وكذلك مغبوط هو عدم الأوجاع في الرؤساء. حبّ كل واحد بقدر معتدل لئلا تضر نفسك وتلاميذك كما أصاب يعقوب ويوسف لما أحبّه أكثر من أخوته. من لا يقتني صداقة الملك وخدامه لا يقدر أن يجوز إليه ليراه ويخاطبه. الواجب أن تتعرى من جميع الأوجاع حتى إذا احتجب إلى بعضها استعملته كالعارية لئلا يملكك فيستعملك كما في الغضب. إذا شفيت أوجاعًا فاعلم أن الله هو الذي أعطاك الحكمة، ودفع للمريض الشفاء، وأشكره على ذلك كثيرًا. من يعلم ويؤدب البله والأثقال فهو أعجب ممن يعلم ويؤدب القابلين. إن كنت قد اقتنيت عينًا تبصر حركة الرياح والأمواج من بعد فأسبق وحذر ركاب السفينة فإن لم تفعل فأنت سبب الغرق، لأنك تقلدت الاهتمام والتدابير. بقدر ما ترى أمانة تلاميذ فيك، والذين يأتون إليك، ينبغي أن تتحفظ في كلامك، وعملك لأنهم يطيعونك ويتشبهون بك، قال الرسول اهتم بهم في وقت مناسب وغير مناسب. أي في وقت يقبلون فيه المداومة بفرح وفي وقت تمضهم يقبلونها بكره.

على ما أظن من يتبعني أن يستحي في معاتبته باللفظ راسله بالكتابة، وذكره بقول ربنا: " أقطع هذه الشجرة التي قد فاحت سنة واثنتين ولم تثمر، لئلا تبطل الأرض" وقوله: "أعزلوا الخبيث من بينكم"  وقوله: "لا تصل من أجل هذا الشعب، ولا تصل من أجل شاول"، ومن لا يستحي عاتبه في الخلوة، ومن رفض خلاصه وبخه قدام الآخرين. أبصرت مرضى عرفوا ضعفهم وخافوا من الألم والموت فسألوه الأطباء أن يقيدوهم ويعطوهم الدواء بالقوة لأن الروح متهيئ بالرجاء والجسد ضعيف.

لا تقل لكل من يأتي إليك ليترهب إن الباب ضيق والطريق كربة، ولا أيضًا النير حلو والحمل خفيف لكن انصحهم أولا، فمن كان مثقلا بالخطايا وقريبا من قطع الرجاء، قل له: أن النير خفيف، ومن كان معجبًا متعظمًا قل له:إن الطريق صعبة. فكثيرون أرادوا السفر فاستخبروا عن الطريق فخدعوا بأنها سهلة قريبة فساروا فيها متهاونين بها، ولم يستعدوا لصعوبتها، فلّما أصابتهم فيها الشدة وطول التعب وقعوا وندموا ورجعوا، وآخرون أرادوا السفر فصعبت عليهم أخبار الطريق فتركوا السفر. وحيث فزع جهنم ورجاء الملكوت لا يكون بتهوين الكلام أو بالأتعاب الجسمانية ولا بالافتقار من الأمور الأرضية.ينبغي أن تعرف سيرة تلاميذك لتتمكن من تدبيرهم بذاتك وبعضهم ببعض. لا تتضع لكل أحد ولا ترتفع في كل حين. لا تظهر لهم مناقصك لأجل الاتضاع لئلا تقل ثقتهم فيك.

رأيت واحدًا يستشير أولاده لأجل عظمته يسخر منهم، وبالحقيقة أنه ما كان يسخر من نفسه. ورأيت رؤساء شفوا من أوجاعهم بسبب الحياء من مرؤوسيهم. من يرعى الخراف لا ينبغي أن يكون أسدًا ولا نعجة. إن لم يمسكوا لك الصغائر فأنت تكون عندهم مثل الله، وأعلم أنه ليس من كثرة طهارة الرئيس يشقى المرؤوسون بل لعظمة إيمانهم تساعدهم النعمة، فكل شيء مستطاع للمؤمن. أقطع هواك لله واتخذ مدبرين لما هو داخل وما هو خارج ليخف اهتمامك. بعض الكفلاء كان له غنى كثير ولما تهاون في حفظ المكفولين قسم غناه عليهم وبقي فقيرًا. الكفالة على أقسام كثيرة، منها نفس بنفس، ومنها مال بمال، ومنها كفالة للخطايا السالفة فقط، ومنها المستأنفة، وبالجملة فبقدر ما يقطع التلميذ هواه طاعة معلّمه يلزمه دين كفالته.

الابن الحقيقي في غيبة أبيه يظهر حبه وحريته. والابن الغريب في حضرة أبيه بالاسم يظهر فساده وغربته.انتهر المقاوم لئلا يتعلم منه الوديع. قال الرب: " الذي يصير الشرير صالحًا فمنى يكون"، الراعي الصالح يتشبه براعي الرعاة الأعظم القائل: " ليس حب أعظم من هذا يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه". فيحب قريبه أكثر من نفسه. والراعي بالاسم لا يحب قريبه كنفسه فيتهاون به إلى أن يأخذه اللص أو يخطفه الذئب. حذر تلاميذك أن لا يتذكروا خطيتهم البدنية لئلا يسرقوا بذكر لذتها، أما باقي مناقصهم  فليذكروها نهارًا وليلاً. علّمهم أن يكونوا ودعاء حكماء، لا يخدعنك حبّهم وموافقتهم.

لا تكسل أن تصلّى من أجل الكسالى لينهضوا، قبيح بالحارس أن ينام، وبالمدبر أن يتوانى، وبالمجاهد عن النيران أن يفزع من الموت. أفرز مواضع الأحداث، وامنع من الاختلاط بهم، وبقدر سنّهم ألزمهم أجزاء السيرة أولاً فأولاً، وقبل تطيرهم لا ترهبهم لئلا يغدروا. أبصرت ضعيفًا قد أعان ضعيفًا بالثقة وأسلم نفسه بدلهم باتضاع فشفاهم وشفي معهم، وأبصرت ضعيفًا آخر وثق بنفسه وصنع كذلك فسمع: " أيها الطبيب اشف نفسك".قد يمنع الحكيم من فعل خير من أجل خير أعظم منه، وقد يصنع شرًا أكبر منه، وهذا يحتاج إلى حكمة الإفراز، إن كان الذي معه كلمة منفعة، ويمنعها لحسد يعاقب أكثر.

كن كاهنًا صالحًا، تقدم لله قرابين لا عيب فيها، أيها الراعي النشيط أطلب الضال، واحمله على منكبيك بفرح. بقدر شفاء الأمراض المميتة المؤلمة تعظم الجبابرة، والموهبة للطبيب.  رأيت اثنين يتخاصمان قدام حاكم حكيم، فجار على المظلوم  لمعرفته بصبره على الظلم، لئلا من أجل العدل يزداد الشر، لكنه أخذ كل واحد ناحية وعرفة الحق، وعرف المريض النفس بما يلزمه.

إن كنت قد وهبت موهبة معرفة الغيب، فلا تصرح لمن سقط، لكن بحسن الإشارة أجعله يقر بالسقطة ليغفر له بإقراره، واهتم به أكثر مما كنت تهتم به في حالة سلامته، واتضع له قليلاً  بمعرفة بعد إقراره. إن كنت مستغنيا بالهدوء النفساني فلست مضطرًا إلى الجسماني وإن عدمت الأول فاهتم بالثاني. تقرب بنفس واحدة إلى الله بالتوبة أفضل عند الله من جميع القرابين، إذ ليس في الدنيا عند الله أفضل من النفس الإنسانية، لأن كل ما في العالم يزول إلا النفس المذكورة فإنها لا تزول.

رأيت راعيًّا فاضلاً اقتنى قوة سمائية وعفة جسمانية وفضائل نفسانية روحاني، وكان تارة يوبخ، وتارة يتنازل. ومن أتاه ورآه حريصًا على خلاصه يهتم به، ومن عرفه متوانيا مضى إليه وجذبه إلى الحرص. وكان يقول: " الأفضل أن يطرد التلميذ من الدير من أن يترك يفعل هواه، لأن الذي يطرد يتضع ويقطع هواه، والذي يترك يفعل هواه فعاقبته ردية وسيلعنه يوم خروجه من الدنيا، لأنه بتنازله معه خدعة ولم ينفعه". وكان من بعد صلاة المساء يجلس على كرسيه ويحيط به جماعة كالنحل ويسمعون كلامه بشهوة، ويقبلون وصاياه كمن فم الله. وكان يأمر بعضهم أن يقرأ ثلاثين مزمورًا، وبعضهم ستين، وبعضهم مائة، وآخرين بمطانيات محدودة، وآخرين بصلاة زائدة. وكان وقد أقام عليهم اثنين يفتقدانهم، ويمنعانهم في النهار من الاجتماع والحديث، وفي الليل من النوم  في وقت الصلاة. وكان يميز لكل قوم طعامهم بعضهم رطبًا وبعضهم يابسًا، وبعضهم أقل من بعض، وهم يقبلون ذلك بغير تقمقم وكان له دير يجلس فيه أصحاب السكوت. والمجد لله دائمًا»

 

الأب إسطفانوس دانيال جرجس

خادم مذبح الله بالقطنة والأغانة – طما