عظة الأحد الأول من بؤونة: علمنا أن نصلى

" أبانا الذي في السماوات "

 

بقلم  الأب / بولس جرس

 

راعى كاتدرائية العذراء سيدة مصر – بمدينة نصر

 

  إعداد ناجي كامل-مراسل الموقع بالقاهرة

   الصلاة عبر التاريخ مع الذبائح و الاصوام ظلت وسائل للتواصل بين البشر والقوى العليا … لكن ليس بغريب أن نلحظ حاجة الإنسان في كل حضارة و مكان و عبر التاريخ من البداية إلى اليوم إلى التوصل أو التماس مع تلك القوى من خلال عملية الصلاة … فهي الوسيلة التي بها يتسامى الإنسان فوق حواجز المكان و الزمان و يتجاوز عوائق المادة و معطيات الواقع منطلقا في رحلة سماوية يستمد خلالها قوة و دعما من ربه و خالقة . حفظت لنا معظم الديانات في مختلف الحضارات الكثير من الصلوات ، لقد اكتشف الآباء قديما في  ك. م و الأنبياء و القديسون أهمية هذا العمل الخاص بالإنسان وحده فكان تستطيع أن تقول أن الإنسان حيوان ناطق أو عاقل أو اجتماعي , نستطيع بصدق من أن نقول أن الإنسان كائن " مصلى "  يبحث عن التواصل مع كائن أعلى يستشعر وجوده و يسعى إلى اللقاء به و يصيغ  عبر كلمات و حركات و أفعال ، ذبائح و قرابين و اصوام و محرقات، صلاته نحوه يتحقق له هذا الكائن الحاضر "غير المرئي " مبتغاه و منية قلبه .

 

لعل أجمل الصلوات على مر التاريخ تتجسم في سفر المزامير حيث يقدم داود نماذج متعددة للصلاة فمن مزامير توسل إلى مزامير تسبيح إلى مزامير تعبر كلها النفس البشرية  نحو خالقها في اصفي  وأبهى صور الصلاة … قد ألهمها  روح الله القدوس إلى قلب وعقل و فم و قلم داود فحفظتها البشرية ترددها و تشدو بها و تترنم بها عبر القرون بكل اللغات في الصباح و السماء و سبع مرات كل يوم …

 

    كان المسيح و هو صورة بهاء الأب أروع من قدم الصلاة في أبهى صورها و ابسط معانيها، كان ينفرد  الليل كله على الجبل في صلاه توحده بابيه و تجمعه معه .

 

كما يعود الإنسان إلى بيته ليلا ليستريح و يجدد نشاطه. في مره اصطحب يسوع ثلاث من تلاميذه إلى الجبل ليشاركوه هذا النشاط الفريد و انفرد عنهم و بدا يصلى فيا هول ما حدث لم تكن صلاه شفاه أو عقل أو قلب بل صلاه حياه ,صلاه كيان  لذا رأى التلاميذ هذا الكيان، كيان المعلم مدرجا في النور في بهاء إلهي لا مثيل له و لا يستطيع صانع أن يقلد بهاءه …لقد دخل المسيح بالصلاة إلى حضرة الأب .

 

ورأى التلاميذ في تلك الحضرة ابأئهم موسى وإيليا ،أحياء في مجد  أبيهم ومتحدون مع المسيح في صلاته ،يجاورونه فيما هو مزمع أن يصنع ليتمم الخلاص وعندما نزل التلاميذ من الجبل شعروا بأنهم بحاجة كبيرة إلى التعلم والدخول في مدرسة الصلاة التي يرأسها معلمهم العظيم فطلبوا منه  "علمنا أن نصلى " فجاء تعليمه فريدا وحيدا جميلا بسيطا رائعا يفوق المزامير روعة ويتجاوز في العمق كل صلاة أخرى. فجعل لصلاة التلميذ "المسيحي" بعدا لا يصل إليه اى تلميذ آخر ذلك لان المعلم هو الوحيد الذي في حضن ألآب وهو الذي رأى ويخبر وهو الوحيد الذي يعرف الطريق إلى قلب ألآب.

 

تعالوا نتأمل قراءات اليوم ثم نصل إلى صلاة الابانا التي علمنا إياها يسوع.

 

+ البولس : من الرسالة إلى رومية 15/ 13-29

 

  يتحدث بولس عن إله جديد لم تعرفه البشرية هو" إله الرجاء " هو يملأ قلوب عبيده بكل فرح ورجاء ليس بالخوف والرعدة بل بالفرح والانتظار والتوقع مما يملأ قلوبهم بالسلام فيزدادون في عمل الخير وهو واثقون في رحمته وحبه وحنان أبيهم الذي لا يعاملهم كالعبيد اللذين لا رجاء لهم فلن يصيروا أبدا ورثة إذ ليسوا أبناء، بل يعاملهم كالبنين لذلك يعيش المسيحيون على رجاء الميراث الابدى ،الغير مبنى على استبعاد الأب وفناءه بل على حضور ألآب و الاتحاد به إلى الأبد وبقوة الروح القدس,

 

 

 

+ الكاثوليكيون من رسالة يوحنا  الأولى 1/ 1-5

 

يتحدث يوحنا كشاهد عيان عن شخص الرب يسوع الذي ادخل الجميع إلى شركة الأب ,فقد سمعناه ، رأته عيوننا ، لمسه أيدينا… هو من أعطانا الحياة و أظهرها لنا.

 

 و هذه الشهادة يقدمها الرسول المؤمنين الجدد بالمسيح يسوع , حتى يدخلوا معه في " شركة " معه و مع الأب و تلك الشركة هدفها الفرح الكامل اى الدخول إلى النور، نور الله الذي لا يعرف الظلام .

 

 

+ الابركسيس من سفر أعمال الرسل : 12/25 إلى 13/5

 

يقود الروح القدس الكنيسة فيطلب من الرسل أن يفرزوا  له" بولس و برنابا"  للعمل الذي دعاهما الله إليه،ألا وهو  حمل بشارة الملكوت الجديد إلى الأمم، و تم ذلك بعد الصوم و الصلاة فروح الله كي يكون حاضرا يحتاج أن نعد له الطريق و نمهد له دروب أنفسنا و تقدس أروحنا كي يدخل و يعمل و بغير .

 

 

 

+ المزمور 142: 8- 10

 

روحك القدوس يهديني إلى الاستقامة، اسمع في الغدوات رحمتك و انى  عليك توكلت

 

 

كما ترى في القراءات و الإنجيل روح الله ,روح المسيح يقود البشرية إلى السراط  المستقيم نسمع في الذهاب و الإياب و الترحال عن رحمة و حب وحنان  اله الرجاء فنسلم له قيادة حياتنا و ندعوه" أبا"  أيها الأب الذي في السموات .

 

 

 

+ الإنجيل من لوقا / 11:1-13

 

* يا أبانا الذي  : تغيير جذري مطلق و غير مسبوق ولا ملحوق في رؤية الخلائق  لخالقها ليست علاقة مسا واه ولا علاقة عبودية و تبعية غاشمة تستوجب الرهبة و الخضوع و التوسل  بل علاقة" أسرية "علاقة أب و بنيين ، علاقة أولاد بابيهم، علاقة أبوة و بنوة تجعل الحب  أساسا .

 

* في السموات : و الاحترام قاعدة و الطاعة منهاجا .علاقة أولاد يعيشون في غربة فهم  على الأرض بينما أبوهم في السموات لكنه يرعاهم و يرقبهم،  يعتني بهم ولا تغفل عيناه عنهم . هم يدعونه وهو يستجيب له.

 

* ليتقدس أسمك : هدف وجود هؤلاء البنين ورسالتهم  على لأرض هو تقديس أسم أبيهم و تمجيده بالكلام والعمل والحياة ..فأول طلب  للبنين البررة ليس موجها لمصلحتهم بل المجد لله.

 

  * ليأت ملكوتك : ما أجمل هؤلاء البنين فبعد أن أعلنوا عن هدف وجودهم على الأرض ها هم يعلنون تجنيدهم في سبيل هذا الهدف المجيد ليعرف العالم أبوهم و يمجدوه فيحل ملكوته ملكوت الرجاء و الفرح و السلام في قلوبهم .

 

  * لتكن مشيئتك : ما أروع تلك الصلاة ,فحتى أن كانت رغبات البنيين و صلاتهم موجهه بالكامل إلى الأبد نحو تحقيق ملكوت أبيهم و تقديس أسمه , ألا أنهم لايفرضون رغبتهم المقدسة تلك على أبيهم و بالتالي على الآخرين فأنهم يقبلون تلك المشيئة سواء ستحقق ذلك أمالهم أو أجل التحقيق.

 

 وردت كلمة ليكن أربع مرات في الكتاب المقدس :

 

  1- الأولى في سفر التكوين : ليكن نور …خلقت العالم قالها الله  .

 

2- الثانية في إنجيل لوقا    : ليكن لي كقولك قالتها مريم ,فجسدت  المسيح في العالم

 

3- الثالث في الإنجيل        : لتكن مشيئتك قالها يسوع ,فخلص بها العالم .

 

4- الرابعة في الأبانا        : لتكن مشيئتك، نقولها نحن المسيحيين فهل نحقق ملكوت الله في العالم؟  بالطبع إذا قدسنا اسمه  واجتهدنا  في تشر ملكوته فستتحقق مشيئته لخير البشرية .

 

* كما في السماء  : حيث أن  أباهم هو مالك السموات فهناك يحقق كل مشيئته ولا معارض .

 

* كذلك على الأرض: لكن على الأرض الأمر مختلف , فالخلائق كلها تتقدم تسبيحا يكفى أن نقرأ  المزمور التاسع " السموات تخبر بعمل الله و الفلك يخبر بعمل يديه  " فالنجوم و الكواكب و الحيوان و الطير بل الجبال والبحار تمجد وتقدم تسبيحا … أما الإنسان ذلك الابن الضال , الذي شاء بإرادته أن يخالف مشيئة  أبيه و طلب الميراث ليبدده راحلا  إلى كوره بعيدة ,فهو الوحيد القادر بإرادته  أن يخالف مشيئة الله و الغريب أن الله يحترم حريته و يسمح له بذلك،  ما أعظمه  من آب لكنه ينتظر عودته متلهفا ليأخذه في حضنه و يرده إلى مجده الأول مجد الأبناء خاتما في أصعبه،  حذاء في قدميه، حله الفرح و ذبح العجل المسمن، ها هو الابن يعود إلى نفسه و يقول أقوم وامضي إلى أبى وبذلك تتم مشيته الله على الأرض بعودة كل الخطاة.

 

* خبزنا كفافنا : يتذكر الإنسان في هذه الصلاة الرانعة   أن لديه احتياجات أساسية لكن لا يبالغ في  السعي  في تأمين  مستقبله أن يطلب من أبيه الكفاية و يعرف أنها وافرة،  العبيد في بيت أبى"  يفضل  الخبز عنهم"  وان كان الخبز دافعا لذلك الابن الضال كي يعود فان الخبز هنا ليس مطلبا أساسيا فانه متوافر  ويفيض في بيت الأب ،  ليس على البنين  فقط بل حتى العبيد ، لا تهتموا بما تأكلون و ما تشربون فأبوكم  السماوي يعلم ما  انتم بحاجة إليه دون أن تطلبوه.

 

– استعجبت من الترجمة القبطية "خبزنا الذي للغد" فهي إهانة للنص ولجوهر تلك الصلاة.

 

* اغفر لنا: يشعر الابن الضال في طريق العودة إلى حضن الأب وبيت الأب بجسامة ما اقترف وبشاعة ما أقدم على ارتكابه من خطأ في حق أبيه فيقرر " أقول له أخطأت إلى السماء وقدامك ولست بمستحق أن ادعى لك ابنا بل اجعلني كأحد إجرائك"  ، بهذا يعرف الإنسان مقدار ضعفه وهشاشته بدون رعاية أبيه فيطلب الصفح والغفران

 

* كما نغفر: لكنه كابن واع تعلم الدرس ،يعرف انه" بالكيل الذي به تكيلون يكال لكم" ،و لا يستبعد  أن يرتكب خطأ أخيه الأكبر الذي " غضب ورفض أن يدخل " لذا يعترف بخطاياه بكل تواضع ويعرف أن عليه أن يقبل ضعفات الآخرين و ذلاتهم وان يغفر لهم كما يطلب وينتظر  من أبيه أن يغفر له . 

 

* لا تدخلنا في تجربة : حدد الرب للنجوم والكواكب مسارات لا تحيد عنها ، رسم للحيوانات والطيور غرائز لا تستطيع أن تغير منها ورسم للجبال والبحار حدودا لا تتجاوزها … ليست الخلائق مجربه ولا حرية لها، الإنسان وحده هو صاحب الحرية و الإرادة وطالما قادته إرادته وسوء استخدامه للحرية إلى الضلال والهلاك والابتعاد عن بيت الأب ، تلك هي تجربته وذلك هو قدره حيث يتوقف خلاصه على اختيارات حريته وهو هنا يعترف بقصور عقله و إرادته عن احتواء هذه العطية الفريدة التي بدلا من أن تكون تاجا ونعمة ،صارت تجربة وفخا منصوبا يسقط الإنسان كل يوم ولا نجاة.

النجاة" انى اغرق" فيمد الله يده ويخرجه من التجارب والغرق ،قائلا يا قليل الإيمان لماذا شككت؟

 

* نجنا من الشرير : الشرير حاضر منذ البدء ،أغوى حواء واخرج ادم من الفردوس ،هو في حرب مستمرة لا تعرف هوادة ،تشتد كلما ازداد تمسك البنين بابيهم " قصة الأنبا انطونيوس" كل هذه الجيوش من أجلى أنا الضعيف الخاطئ ! وسيظل الشرير يعمل ولن ينجينا من عمله ومكره سوى المزيد من التعلق بالأب والتشبث به والصراخ المستمر في صلاة الأب الذي لا يهمل صلاة أولاده .

 

هكذا صارت صلاة يسوع هي صلاة البشرية ،ولم يعد الإنسان يريد أن يصل إلى الأب سوى سلوك هذا الطريق…