المزمور السابع والعشر ون: نوري وخلاصي

المزمور السابع والعشر ون: نوري وخلاصي

همسات الروح

تأمُّل في سفر المزامير

بقلم الأب/ بولس جرس

المزمور السابع والعشرون

نوري وخلاصي

أولا: تقديم المزمور

  • وحدة المزمور: يعتقد كثير من المفسّرين مثل الأسقف وايزرWeiser   أن المزمور السابع والعشرون يتألّف من “مزمورين” يختلفان عن بعضهما في الأسلوب والمحتوى. الجزء الأول هو أنشودة قوية تعبّر عن الثقة في الله التي لا تتزعزع، أمّا الجزء الثاني فهو صلاة مرثاة لشخص في محنة وهو في أشد الحاجة إلى العون الإلهي. الأول من  (آ 1- 6) حيث يعبّر المرنمّ عن ثقته بالرب، والثاني من (آ 7- 13) حيث يرفع شكواه إلى الله. ويفكّر آخرون أن يكون القسم الأول مزمور لصلاة الصباح، والقسم الثاني مزمور لصلاة المساء حتى يمكن أن نقلب المزمور فنقرأ القسم الثاني مكان القسم الأول، فيبدأ المزمور بالشكوى وينتهي بإعلان ثقة المؤمن بربه.
  • يرى آخرون وجود تناغُم بين الجزئين، فالمرتل الذي يهدّده جيش من الأعداء والخصوم حتى تكاتف الكل ضده؛ يعتقد بأن كل عون بشري يختفي فيسترجع الثقة في الله وحده الذي هو نوره وعونه وحصنه، خاصة في قدس هيكله حيث يطلب عون الله المقدس. في ضيقته يسأل المرتل أن يحيا كل أيام حياته في بيت الله، حيث يختبر عذوبة الله ويعاين جمال هيكله، إنّه يطلب ما هو أعظم من مجرّد الحماية من أعداء مؤقتين، يطلب من الله الوقوف في مدينته والتمتُّع بوجهه وإدراك فرح بيته.
  • مناسبة المزمور: كما في المزمور السابق يرتبط هذا المزمور باضطهاد شاول لداود؛ أو بالفترة التي هرب فيها داود من وجه ابنه أبشالوم؛ أو تلك التي كان يتصارع فيها مع الفلسطينيين، حينما توغّل كثيرًا بين أعدائه وكان على وشك أن يُقتل على يد الجبابرة الفلسطينيين “وهمّ يشبي بنوب أحد جبابرة الفلسطينيين أن يقتله… فأنجده ابيشاي… وضرب الفلسطيني فقتله. فما كان من رجال داود إلاّ أن استحلفوه وقالوا: “لا تخرج معنا إلى الحرب لئلا تموت وينطفئ سراج إسرائيل”. (2 صم 21: 15-22) فلو لم يتقدّم أبيشاي في اللحظة الحاسمة لكان داود الملك الذي كان في ذلك الحين شيخًا واهنًا، وإن كان قد احتفظ بشجاعته كما كان عليها من قبل، لكنه فقد رشاقته وقوة الشباب الجسدية؛ إذ كان الشعب مهتمًا ألاّ يفقد مُلكه وقائده.
  • عنوان المزمور: “لداود، قبل أن يُمسح” كيف وقد كان في آخر أيامه؟ الرد هو ان داود النبي والملك قد مُسح ثلاث مرات  المرة الأولى: وهو صبي، مُسح خفية في بيت أبيه دون أن يعلم الملك شاول ودون معرفة الشعب. في المرة الثانية مسحه رجال يهوذا علانية، وفي الثالثة:  أُقيم ملكًا على كل الأسباط. في هذا كان داود رمزًا لابن داود، المسيا المخلّص. (1 صم 16: 13؛ 2 صم 2: 4، 5: 3) فهو أولاً: ممسوح منذ الأزل مُسح الكلمة مخلصًا وفاديًا للبشر، قبل خلقتنا وسقوطنا. وثانيًا: جاء الملك ليملك على شعبه الذين هم خاصته. وثالثًا: أعلن ملكوته في كنيسته الممتدة من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها.  هكذا يكون عنوان المزمور: “مزمور لداود قبل مسحه”… كانت المسحة آنذاك خاصة فقط بالملك والكاهن. إذ ينال هذان الشخصان وحدهما المسحة المقدسة، وفيهما كان الرمز الذي تحقّق في الآتي ملكًا وكاهنًا في نفس الوقت، المسيح الواحد الحامل الوظيفتين. وقد دُعي “المسيح“، لأن الله (الآب) قد مسحه رأسًا للكنيسة التي هي جسده لم يمسح الرأس فقط، بل ومُسحنا نحن جسده وكلنا نشترك في المسحة وفيه… فهو ملك يقودنا ويرشدنا، وهو الكاهن لأنه يشفع فينا (رو 7: 22). “وهو أيضًا الكاهن والذبيحة، لأن الذبيحة التي قدّمها لله الآب لم تكن سوى نفسه لهذا فإن المزمور هو صلاة إنسان يتوق إلى هذه الحياة، ويطلب بلجاجة من أجل نعمة الله التي تكمل فينا في النهاية”.
  • أقسام المزمور: ففي القسم الأول آ 1-6: كما كان الوضع في المزمور السابق (26) نحيا جوّ هذا المزمور؛ حيث نتابع بريئًا مضطهدًا لا يزال مطاردًا بعيدًا عن وطنه، والهيكل هو محور وقلب هذا الوطن وفيه يبحث عن ملجأ. هذا المزمور خير تعبير عن ثقة داود بأنه سيجد في هيكل الله ملجًا، وما أن يصل إلى الهيكل حتى يسأله أن يُبعد عنه خطر العدو المتربّص الذي يطارده أينما حلّ. وفي هيكل قدسه يستقبل الله الانسان كما في بيته، فيعزّيه ويشدّد قلبه لأنه نور وخلاص لأحبائه لذا نسمع الكاهن يجيبه من الداخل: “ترجَّ الرب وتشجَّع”. يتحوّل المشهد من عدوّ محارب ومضطهد يطارد فريسته (آ 1- 3) إلى مشهد التواجد في حضرة الله في هيكله (آ 4- 6). في آ 1 يعلن “القائد” أنه لا يخاف أحدًا (3: 7؛ 23: 4)، لأنه وجد الخلاص في الربّ (18: 3؛ 23: 5) والنور (4: 7؛ 18: 29) والقوّة (28: 8؛ 37: 39)، ولهذا فهو يدخل إلى الهيكل ليس كلاجئ هارب بل كقائد منتصر مرفوع الرأس (5: 6) وهو هناك ليقدّم ذبيحة يهتف فيها الشعب هتاف الحرب.
  • في القسم الثاني آ 7-13: نرى المؤمن يطلب وجه سيّده. يرجو ابتسامة رضى (مز 4- 7)، لأن في هذا الرضى عونه وخلاصه. ولن يحجب الله وجهه عنه، بل سيستقبله وإن رذله الجميع، حتى وإن تركه أبوه وأمه. “وإن نست أمّ أبناءها، فالله لن ينسى شعبه” (أش 49: 15) ويمسكه الربّ بيده، فيقوده في طريق السلامة وسط عالم مملوء بالأعداء.
  • شعار المزمور: “إذا كان الله معنا فمن يقدر علينا” (رو 8: 13) يُعتبر هذه الكلمات تفسّر ثقة المرنم بربّه. فلا الأشرار، ولا النمّامون الذين (يأكلون لحمي)، ولا المحاربون العمالقة والجبابرة، يستطيعون أن يفصلوه عن الله. فالرب نوره وخلاصه، وأعداؤه سيعثرون ويسقطون. والمرنم متأكّد من حماية الله له لأنه بحضرته، لأنه في الهيكل بيت الله دومًا سواء بالجسد أم بالروح، وهذا الحضور ليس وليد الإيمان، بل الإيمان هو وليد هذا الحضور. ولهذا فكل ما يرجوه المرنم هو أن يبقى في بيت الرب طوال أيام حياته ليعاين مجد الرب وجماله.
  • في هذا القسم نتأمّل رجلاً تركه كلّ الناس وتخلّى عنه حتى أبوه وأمه. ولكنّه لا يشعر بالوحدة، لأن وجوده في الهيكل حيث يحبه الرب ويقبله، وينتظر نظرة رضى من الرب الذي لا يحجب وجهه طويلاً عمّن يطلبه. فإن كان كل الناس ضدّه، فإيمانه بالرب مخلّصه يجعله واثقًا من رحمة الله ورضوانه. وهكذا يبتعد الخطر عنه وقد خبّأه الله في خيمته ورفعه على صخرة محبته فلا يطاله خطر.

ثانيًا: نص المزمور وتقسيمه

يمكن تقسيم المزمور إلى أربع أقسام:

القسم الأول. ثقة مطلقة   في الرب                     (1-3)

  1. الرب نوري وخلاصي فممن أخاف؟ الرب حصن حياتي ممن أرتعب؟
  2. إذا هاجمني أهل السوء ، أعدائي والذين يضايقونني ليأكلوا لحمي كالوحوش يعثرون ويسقطون 
  3. إن اصطف عليّ جيش فلا يخاف قلبي

القسم الثاني: حصانة إلهية  في الهيكل                     (4-6)

  • وإن قامت عليّ حرب، فأنا أبقى مطمئنًا لي طلبة من الرب ولا ألتمس سواها أن أقيم في بيت الرب جميع أيام حياتي، حتى أعاين نعيم الرب وأتأمل في هيكله.
  •    هناك يظللني يوم السوء ويسترني بستر مسكنه وعلى صخرة يرفعني.
  • والآن يرتفع رأسي فوق أعدائي حولي، وأذبح في هيكل الرب ذبائح هتاف له، وأنشد وأرتل لاسمه.

القسم الثالث:   صلاة  مفعمة بالرجاء                (7-13)

  • اسمع يا رب صوت دعائي وتحنّن واستجب لي.
  • قلتَ: “التمسوا وجهي” فقلت: وجهك يا رب ألتمس”.
  • لا تحجب وجهك عني ولا تصد بغضب عبدك. كنت نصيري فلا تنبذني، ولا تتركني يا الله مخلصي
  • إن تركني أبي وأمي فأنت يا رب تقبلني (الذهبية)
  • أرني يا رب طريق النجاة من هؤلاء الثائرين عليَّ ويسِّر لي سُبلي.
  • لا تسلّمني إلى خصومي، إلى أعداء يقاومونني باطلاً، وصدورهم تنفث الظلم.
  • أنا مؤمن بأن أرى جود الرب في أرض الأحياء.

القسم الرابع:  نصح وإرشاد                         (14)

  1. ليكن رجاؤك بالرب، تشدّد وليتشجّع  قلبك، وليكن رجاؤك بالرب.

ثالثًا: تفسير المزمور

القسم الأول: ثقة مطلقة في الرب                      (1-3)

  1. الرب نوري وخلاصي فممن أخاف؟ الرب حصن حياتي ممن أرتعب؟

                الله نور السماوات والأرض، هو نور ساكن في النور، هو نور العالم، خالق النور وصانع النجوم والكواكب، وهو المشرق في الظلمة نورًا، إنه النور الحقيقي الذي يضيء لكل إنسان آت إلى العالم، بل أيضًا للضالين وغير العارفين. والنور في الكتاب المقدس مرتبط بالنهار، والنهار على عكس الليل، فالليل يعني الظلمة والخوف من المجهول، بينما يعني النهار الرؤية والنور والوضوح والخلاص من الخوف… والرب يسوع يدعو شعبه “سيروا في النور ما دام النور معكم” (يو 12: 35) وهو يؤكّد قوله عن ذاته “أنا نور العالم مَن يتبعني لا يمشي في الظلام” (يو 8: 12)، وهو حسب قول يوحنا “النور جاء إلى العالم والظلمة لم تدركه” (يو 1: 9) والرب لداود بمثابة نور عينه وحياته. يتمتّع معه في أعماق كيانه بعلاقة حيّة، هكذا نراه يعيش هذه الثقة العجيبة المتجذرة في أعماق كيانه دومًا وتخرج به غالبًا منتصرًا على كل ما يعترض سبيله من أهوال ومخاوف ظلّت تلازمه إبّان مسيرة حياته الطويلة يعبّر عن ثقة وإيمان حي، فلا ينحصر عمل الرب على مجرد الإضاءة بنوره حتى يتجنّب أحباءه التعثُّر والسقوط، بل يتعدّاه فيصير لأحبائه نورًا وخلاصًا “الرب نوري وخلاصي” (مز 27: 1) “إن سرت في وادي ظلال الموت لا أخاف” ((مز 23: 4) والمخلّص كما نعرفه خلال رحلتنا في المزامير هو الرب ولا أحد سواه.

  • الرب حصن حياتي فممن أرتعب ؟

       ما أحب صيغة السؤال ههنا، هو ليس سؤالاً استفهاميًا ولا استنكاريًا، إنه صورة جديدة من التساؤل الاستعجابي! يحتوي على تعجُّب وفيه استغراب لما ينتاب الآخرين من الخوف، وما يستولي عليهم من الرعب لا سيّما في ساعة الضيق وما أكثرها في حياة المؤمنتين وكأنّهم وحدهم… بينما ينسون أن الله معهم ينير طريقهم بكلمته ويحصّن حياتهم ضد أي خطر ويخلّصهم من الهلاك بيمينه فلا تُمَس شعرة من رؤوسهم لذلك يسير المؤمنون بأمان وفي نوره ينعمون بالراحة والسلام.

  • إذا هاجمني أهل السوء، أعدائي والذين يضايقونني ليأكلوا لحمي كالوحوش يعثرون ويسقطون

حسن أن يطمئن القلب في الرب، وحسن جدًا أن تأنس النفس إلى وجوده بجوارها، جيد أن نبقي بجواره ونسير معه حيث يمضي ففي ذلك ثقتنا وسلامنا، ما أجمل أن نبقي ههنا “ابق معنا يا سيد فقد مال النهار” (لو 24: 29) لكن:

عندما تشتد الرياح ويهيج البحر ويرتفع الموج،

عندما يضايقنا العدو في الحياة ويضيّق علينا الخناق، عندما يلتف حولنا الأعداء ويحيطوا بنا كأسوار،

عندما يهاجمنا أهل السوء يريدون القضاء على حياتنا

عندما يريدون القضاء علينا بتمزيقنا، وسفك دمنا،

عندما يشهر العدو سلاحه ونرى السهام منطلقة نحونا

ألا نرتعب … بل ألا نخاف ونجزع؟!!

أما صرخ دانيال إلى الرب من الجب فسد أفواه الأسود؟

أما تضرّع الفتية الثلاثة في الأتون فأرسل ملاكه ليصحبهم وحوّل النار بردًا وسلامًا؟

أما صرخ بطرس حين بدأ يغرق “يارب نجني”؟

ألم يتضرّع داود ويصرخ مستغيثًا في مزاميره؟

بل ألم يصرخ ابن الله ويتألم في بستان الزيتون

طالبًا من أبيه أن يعبر عنه هذه الكأس؟

لكن الحقيقة أن اللجوء لله كلجوء الطفل إلى حضن أبويه: قد يراودني خوف لكني لا أرتعب

قد أزل وأتعثر لكني لا أسقط وإن سقطت أقوم سريعًا

قد أبتل لكني لا أغرق، قد أرتجف لكني لا أجزع

وإن شككت فسرعان ما تمتد يده وتنتشلني …

وإن ضللت الطريق فسرعان ما أتذكر وأستكمل سيري

وإن قاومت سرعان ما أستسلم وألقي بنفسي في حضنه ومهما عاندت فسأسلّم زمام حياتي لقيادته

وأخيرًا حتى إذا قام أعداء كثيرون وحوش برية مفترسة

وأتوا ليقضوا علىّ وسمعت صليل سيوفهم، فأنا لا أجزع،

وإذا شرعوا الأقواس وشدوا الأوتار وأطلقوا السهام ليفتكوا بي وشهدت الشرر يتطاير من عيونهم بغضب تتقدّم خطواتهم لتحاصرني… فسأظل مطمئنًا متماسكًا بل مستعدًا لسفك دمائي كما قال بولس الرسول: “أي شيء يفصلني…” (رو 8: 35).

لأني أعرف أنه افتدي وسوف يردهم خائفين مذعورين ويحطّم سيوفهم ويروّضهم ويهشّم أنيابهم بل سيفتك بهم.

ستنكسر الفخاخ وتطيش السهام ويجعلهم يتخبّطون كمن يمشي في الظلام… وهم بالحقيقة في ظلام الحقد يسيرون

وسيسقطون بلا قيامة في الحفرة التي حفروا …

  •  إن اصطف عليّ جيش فلا يخاف قلبي، وإن قامت عليّ حرب، فأنا أبقى مطمئنًا

                ما أروعك يا داود وما أقوى إيمانك! إنك لعجيب بين البشر، حقًا لقد صار قلبك النقي ونفسك الشجاعة، وروحك الوثابة نموذجًا لجميع الأجيال، فطوبي لك لأنك وضعت على الرب اتكالك وجعلت فيه كل ثقتك، إنه عن يمينك فلن تتزعزع إلى الدهر …

                لقد حاربك العدو دومًا بلا هوادة وحاول أن ينال منك بكل الوسائل فلم تبال:

                هدّدوك بكل الويلات فلم ترتجف

حاولوا إرهابك بكل أسلحتهم فلم تعرهم انتباهًا أعلنوها حربًا واصطفوا عليك بعسكرهم

                لكن السلام والأمان والاطمئنان ديدنك

والسكينة والهدوء يملئون قلبك النقي.

خرجوا عليك كالوحوش وباسم الرب قهرتهم

لقد حلّت ساعة الظلمة وجاءت ساعة الصفر، لن يكتفي العدو بالتحرُّكات السرية وبالتحرُّش ومحاولات الاغتيال واستعراض أنواع السلاح المشروع والغير مشروع، لقد أعلن الحرب وصفّ الجيوش، فماذا أنت فاعل؟ كيف تقدر بهشاشة صباك أن تواجه الجبار؟ كيف لك أن تواجه وحيدًا عسكر جيش بأكمله؟ هل ستهرب كالعصفور؟ هل ستحسب النفقة؟ هل سترسل صفارة طالبًا سلامًا؟ أنا متلهف لأسمع ردك!!!              

  • فأنا أبقى مطمئنًا

       الفاء سببية أي تعطي نتيجة ما تقدّم من أسباب، ونحن نعرف ما تقدّم من أهوال تحيط بالنبي، تنوء بحملها الجبال! فما سبب الطمأنينة والسكينة عندك أيها البار؟ ما أجملك …

أعطني بعضًا من اطمئنان قلبك

                امنحني قليلاً من سلام نفسك

                أريد أن أكون مطمئنًا مثلك حيث لا اطمئنان

                أن أمتلك سلام قلب مثلك حيث تعلن الحرب

أن أتعلم منك يا أبي داود الشجاعة والسكينة وعدم الخوف والاستسلام.

القسم الثاني: حصانة  إلهية  في هيكل              الله                    (4-6)

4. لي طلبة من الرب ولا ألتمس سواها أن أقيم في بيت الرب جميع أيام حياتي … حتى أعاين نعيم الرب وأتأمل في هيكله

                ماذا تطلب وماذا تبتغي؟ سلني فأعطيك الأرض ميراثًا وملوك الأرض لتتسلط عليهم …هكذا فعل الرب مع داود ومع سليمان ومع موسى … طلب موسى أن يبقى الرب على شعبه فلا يهلكه في غضبه، فكان له. وطلب سليمان الحكمة فنالها مضاعفة. فماذا سيطلب داود؟ ما هي يا ترى أمنية قلبه الغالية في هذه اللحظة الحاسمة من حياته وقد:

                دقّت طبول الحرب حوله وأعلنت عليه المعارك

اصطفت عليه الجيوش وقامت يحاصرونه كالوحوش ليأكلوا لحمه وها أهل السوء يهاجمونه والأعداء يضيّقون عليه الخناق فما عساه يطلب؟  فرقة من جُند السماء،

 برقًا، رعدًا، نارًا، كبريتًا ودخانًا… أو حتى أن تنشق الأرض وتبتلعهم؟ ما هي أغلى أمنية على قلبه في هذه اللحظة؟ أمنية واحدة غير قابلة للتأجيل أو التأخير، بل تتطلّب التحقيق الفوري، وليس له أن يطلب غيرها!!!

                “كما يشتاق الأيل إلى مجاري المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله” ( مز 42 :1) وكما في المزمور السابق (مز 26) نراه في الغربة ووسط الأعداء يحن لهيكل الرب وإليه تهفو نفسه. هل هذا وقته، أتلك هي اللحظة المناسبة؟ ألا يُعدّ ذلك هروبًا؟ هكذا يتهم الناس داود ومن يتبعه على طريق الرب ويعتقدون أن هذه الأمنية الغالية في الدخول إلى بيته وتكريس النفس للعبادة والصلاة بعيدًا عن ضجيج العالم هروبًا! لكنهم لا يدرون كم تشتاق النفوس البارة إلى النواجد في حضرة الرب.

                وههنا يريد داود أن يؤكّد على تلك الحقيقة، بعد أن زهدت نفسه صراعات العالم وسكنى القصور وشأم الحروب واقتحام الحصون وقيادة الجيوش وتحدّي المغاوير، أن يهجر مجد العالم وكل زينته ليسكن في بيت الرب، أي ليكون بجواره دومًا وفي صحبته أبدًا، فهو اليوم لم يعد يكتفي بزياراته المتكرّرة ولا يرتضي بذلك القليل الذي لا يشبع جوع نفسه العطشى التي نتوق باستمرار إلى الصعود المتواتر إلى بيت الرب في جبل صهيون لقد عافت نفسه نعيم العالم حوله، فهو يروم ويرغب وينحو نحو نعيم جديد، نعيم التواجد بالحضرة الإلهية.

  • حتى أعاين نعيم الرب

          أنت تعرف ما هو النعيم فمملكتك امتدّت من النيل إلى الفرات، وقد حُملت إليك العذارى من كل مكان وتذوقن طيبات الأرض وخيراتها، وتمتّعت بكل جمالها وامتلكت كل ما اشتهت نفسك، حتى وإن كلّفك هذا الكثير. فأنت تعرف إذًا معنى النعيم على الأرض يا ملك مملكة إسرائيل العظيمة، ملك شعب الله الذي يسكن الرب في وسطه بنفسه… فما أدراك ما نعيم الرب لتعاينه وتطيل النظر إليه متأمّلاً في الهيكل، أي رؤية سماوية تنظر أم لعلك نظرتها بروحك العطشى وقلبك المشتاق؟

         لذيذة هي العلاقة القلبية التي تربطك بالرب أيها النبي المرنم! فريدة في نوعها، تتميّز بخصوصيّة لا تتكرّر، تدعوه فيجيبك، تصلّي إليه بتسبيحاتك ومزاميرك الخالدة فيسمعك وتحتمي باسمه وهيكله فينجيك تعوّدت أن تبحث عنه وترنو نحو هيكله المقدس فتجده بالروح قبل الجسد يبحث عنك فيجدك…

5. هناك يظللني يوم السوء ويسترني بستر مسكنه وعلى صخرة يرفعني

  • هناك 

         بعيدًا عن ساحات معارك العالم الفانية، هناك، وبعيدًا عن كل من يحيط بك من وحوش وبشر، بعيدًا عن كل ما ترى من أنياب ورماح، بعيدًا عن كل ما تسمع من قعقعة سلاح، تريد أن تنطلق من هذا العالم الذي لا يعرف سوى الصراع طريقًا للوصول إلى التنعُّم الزائف، إلى ذلك العالم الذي يعي أن النور والخلاص والفرح والسلام أي النعيم هم عنده وحده وفيه وحده ووحده يهبهم لمن يشاء.

  • يظللني يوم السوء

            يعرف البدو والرعاة معنى كلمة “ظل” وقيمة هذا الظل، لا سيّما في وهجة الحر وقت الظهيرة حيث يبحث الجميع عن مفر من لهيب الشمس وحرارتها، فحين يجد الراعي ظلاً هناك يتكئ ويجلس ويأكل ويغفو في سلام…

 هكذا يرتد داود إلى ذكريات صباه راعيًا للغنم لكنه اليوم يشعر بلفحة شمس الشر تكاد تقترب منه وتؤذيه… يبحث عن ظل به يستدفئ، فلا يجد سوى ستر بيت الرب راعيه، ليستظل به من كل شر، وبه يستعين لمواجهة الخطر في يوم السوء.

  • ويسترني بستر مسكنه

          الستر في الكتاب المقدس هو عملية وقاية وحماية يقوم بها الستار الذي هو اسم من أسماء الله العلي، والمسكن هو بين الرب، بيت الأبرار، إليه تشتاق نفوسهم وبه يستظلون في يوم السوء.

      هناك يجدون قوتهم وعونهم وكافة طلبة قلوبهم، وهناك يستمتعون بطعامهم وشرابهم ويستمرؤون سلامة سترهم… هناك يلتقي شوق قلب الإنسان مع شوق قلب الله الأب الحنون، حافظ أبناءه وحاميهم من كل شر، ومنقذهم من كل ما يعترض طريقهم من مصاعب وهو هنا يحفظهم في بيته حيث لا يستطيع العدو أن يقترب .

  • وعلى صخرة يرفعني

       بيت الرب على جبل صهيون أعلى الجبال … مبني على الصخرة، والصخرة في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد هي البقعة الصلبة التي يمكن الارتكاز عليها بقدمين ثابتتين سواء في القتال أو البناء وهي تعطي للواقف عليها ولا سيّما إذا كانت مرتفعة مميزات القوة والثبات والقدرة على إدراك ما يحيط به وما يجري حوله، وقد قال المسيح عن نفسه”الصخرة التي رفضها البنّاؤون صارت رأس الزاوية”(مر12: 10) وقال لبطرس “أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها” (مت 16:18). والرب حين يرفع داود الذي لجأ إليه فارًا من اضطهادات العدو وضجيج حروب العالم الفاني، يعلم أن الرب سوف يظلّله بظله، ويستره بستر مسكنه وعلى هذه الصخرة سيرفعه في أعلى موضع، وكأنه يعلن أن الله لن يكتفي بإيوائه والتظليل عليه وستره بل أنه حامي والمدافع عنه أمام أعدائه سيرفعه ويضعه في مكانة سامية.

  • والآن يرتفع رأسي فوق أعدائي حولي، وأذبح في هيكل الرب ذبيحة هتاف له، وأنشد وأرتل لاسمه

وقد تحقّقت أُمنيته ورغبة قلبه في أن يكون في هيكل الرب، نراه قد استراح من كل همومه وفارقته مخاوفه والهواجس، واختفى الأعداء وانتفى وجودهم، فها هويشعر بالراحة تحت مظلة العلي، وههنا يريد أن يبقى “جميع أيام حياته” ليحيا في نعيم الرب العالي مرتفعًا فوق جميع الأعداء من حوله، يا لها من أمنية ويا له من طلبة قلب تذوّق نعيم الرب وعرف عز البقاء في حضرته فصار لا يطيق البعد عنه…

  • والآن يرتفع رأسي فوق أعدائي حولي

في هذه اللحظة عينها، حيث يصل المرنّم فكرًا وروحًا وربما جسدًا، إلى هيكل الرب، وقتها فقط، يشعر بالنصر والغلبة، فيرفع في شموخ المنتصرين رأسه وقد غلبه الرب على جميع أعداءه .

  • وأذبح في هيكل الرب ذبيحة هتاف له

تقديم الذبائح في الهيكل وصية إلهية تختلف باختلاف العيد والأهداف: ذبيحة كفارة-ذبيحة سلامة، فصح… هناك إذًا ذبائح وتقدمات مختلفة حسب الغرض والنذر. أمّا ذبيحة الهتاف فنستطيع القول إنها تعبير خاص بداود.

  • وأنشد وأرتل لاسمه

 النشيد علامة الفرح والتهليل والترتيل وهو عبارة عن صلوات ملحنة بصوت رخيم ترفعها الجماعة كعبادة وهنا يرفعهما داود معذبيحته في هتاف فريد ممجدًا اسم الرب إلهه… نوره وخلاصه.

القسم الثالث:   صلاة  مفعمة بالرجاء               (7-13)

7. اسمع يا رب صوت دعائي وتحنّن واستجب لي

    يتضرّع النبي بعد الذبيحة ويصلّي مجددًا إلى الرب راجيًا أن يتقبّل تضرُّعاته وذبائحه الروحية وأناشيده القلبية فقد تمّم كل الطقوس وقدم الذبائح وأقام العبادة كاملة بفرح وتهليل. لم يتبق سوى استجابة الله مخلّصه الذي سيتحنّن عليه حتمًا ويستجيب لكل طلبة قلبه وأماني حياته.

8. قلت “التمسوا وجهي” فقلت “وجهك يا رب التمس”

أحاط بالمرنّم أعداءه فصار يُصلّي طالبًا العون من الله نوره وخلاصه، لكنه إذ يصل إلى الهيكل حيث يُعاين النور الإلهي، ينسى أعداءه، سائلاً الله أن يشرق عليه، فيتنعّم بنور وجهه. في النص العبري: “قلت: اطلبوا وجهي”، ربما تذكّر داود النبي الدعوة المملوءة نعمة أو الوعد الإلهي أن الإنسان إن طلب وجهه فهو لا يحجبه عنه. بينما كان المرنّم معذبًا بالتفكير في الضيق الذي جلبه على نفسه بالخطيئة، تشرق في مخيلته، كنور وسط الظلمة، ذكري الوعد الإلهي.

 فيستدعى من ذاكرته تلك العهود التقليدية، التي طالما التزم الله بها وهو الذي لم يتخلَ أبدًا عنها، فكلمته تعتبر وصية ووعد في آن واحد: “اطلبوا وجهي”. فعوض الارتباك بالتفكير في المشاكل والأعداء وتهديداتهم، ينشغل المرنّم بوصية الله ووعده، ويوصي بطلب وجهه، وتحسب هذه الوصية وعدًا، إذ يحقّق الطلبة فتنعم نفسه بالتطلُّع إليه.

9.  لا تحجب وجهك عني ولا تصد بغضب عبدك، كنت نصيري فلا تنبذني ولا تتركني يا الله مخلصي

حجب الله وجهه أو إخفائه، في الكتاب المقدّس والمزامير، يعني غياب وجوده ورفضه الوقوف كقاضٍ كي يستمع إلى القضية وأن يحكم لعبيده بالخلاص. ربما يُريد المرنّم القول: أعرف أن خطاياي الكثيرة هي ما يحجب وجهك عني، فكأنك ترفضني بسبب عدلك وبرّك، لكنك إله رحوم وقادر أن تخلّص. وفي هذا المجال يقول القديس اغسطينوس: “حجب وجهه بسبب خطايانا لا يعني انصرافه عنّا في غضب؛ فقد يحوّل وجهه عن خطاياك لكنه لا يحوّله عنك شخصيًا”.

  • فلا تنبذني ولا تتركني يا الله مخلصي

يقول أغسطينوس يصرخ المرنّم ألا تُذكر خطاياه بل يذكر نفوسنا الخاطئة لتتقبّل بالتوبة رحمته، وألاّ يحجب وجهه عنّا فنرجع إليه، كي نراه ويرانا! لذا يكمّل صلاته: لا تستخف بجسارة مائت يطلب الأبدي، لأنك أنت يا الله تشفي الجرح الذي تركته خطيتي.

10. إن تركني أبي وأمي فأنت يا رب تقبلني

إذ يُصلي المرنّم يتذوّق تعزية ويحس بالعزاء، ويشعر بالراحة الحماية والغفران، كأنه مرفوع بالنعمة الإلهية ومع أن أصدقاء داود قد أداروا له ظهورهم، لأنهم حسبوا ضيقته تأديبًا من الله يسبب خطاياه كما فعل اصدقاء أيوب؛ وربما أبوه وأمه أيضًا قد تركاه لنفس السبب، لكنه يستشعر نورًا يبهجه في عزلته ويشعره برفقة بهية، إذ يقبله الله ويضمه إلى صدره ويحتضنه، وكابن له يحمله على ذراعيه. لقد أدرك في محنته أن محبة الله تسمو فوق كل محبة، “إن نسيت الأم رضيعها فأنا لا أنساكم” (أشع49: 15).

من الصعب أن نتصوّر ترك الأب والأم لطفلهما، لكن حتى إن، فهناك الآب السماوي الذي يضمه إليه ويرفعه فوق الأعداء، ويدخله إلى الأحضان الأبوية. لقد تركت هاجر ابنها تحت الشجرة ليموت عطشًا ومضت وجلست من بعيد، أمّا الرب فسمع أنين الغلام وفتح عيني الأم لتبصر بئر ماء تروي الغلام فيحيا، وهكذا أيضًا ترك أبوا موسى ابنهما في النهر والرب أرسل اليه ابنه فرعون تتبنّاه. وهكذا يؤكّد الرب يسوع في الانجيل في حديثه عن الأب السماوي (مت 5).

ونحن لم نسمع أن والدي داود النبي غضبا عليه، وإن حدثت انشقاقات في عائلته، كما يرى البعض أن الأب والأم والأصدقاء والأقربين يمكن أن يكونوا قد تخلّوا عنه أو على الأقل سحبوا ثقتهم فيه وتقديرهم له إبان محنته الشديدة. لكن ما يقصده النبي هو عجز البشر حتى أقرب المقربين عن تقديم المعونة في وقت الشدة.

يعني داود أن سكان هذا العالم، بمن فيهم من قدم له الميلاد في الزمن المائت” أبواه“، يمكن أن يخذلوه، فهما عاجزين عن تقديم ما تطلبه نفسه، وأمّا الرب فيقبله. لذا لجأ إلى الرب وطلبه وهو وحده ليهب نعمة ويهتم به ويرعاه… لقد جعل المتكلّم هنا من نفسه طفلاً صغيرًا أمام الله، فقد اختاره ليكون له أبًا وأمًا. إنه أبوه وخالقه، فهو أمه لأنه يرضعه ويهتم به ويُربيه ويقوته ويقوم بتمريضه. لنا أب آخر وأم أخرى.

لهذا نعتبر أن تلك هي الآية الذهبية لهذا المزمور فنكرّرها كل يوم من أيام حياتنا بثقة وتواضع لتعطي لنفسونا سلامًا وتمنح قلوبنا الطمأنينة.

11.  أرني يا رب طريق النجاة من هؤلاء الثائرين عليّ ويسِّر لي سبيلي

يعلّق القديس أغسطينوس على الآية بقوله: “إذ يعلن المرنّم عجز والديه عن مساندته أو حتى ملازمته أثناء الضيق، وجد في الله الأبوّة السماوية الحانية القادرة أن تخلّصه من أعدائه، وترد له كرامته فيرفع رأسه عليهم.” أنه مازال على الأرض، وهو يدخل دومًا في صراع مع العدو الروحي والزمني، وهو في هذا لا يحتاج فقط إلى خارطة للطريق فهو سيد من يعلم الشريعة ويعمل يها ويحفظ الناموس في قلبه لأنه صديق و”ناموس الرب في قلبه” لكنه سابقًا ومؤكّدًا كلام العهد الجديد” أنا هو الطريق والحق والحياة” يريد من الرب أن يرشده وأن تقوده ومن يده في معركته ضد العدو؛  إنه يحتاج إلى مرشد وقائد يمسك يمنه ويقوده، يستره ويظلّل عليه بيمينه ويخيفه في ستر مظلته، ويجتاز به أرض المعركة، وعلى صخرة حبه الأبوي وعنايته التي تتفوّق على عناية الأبوين الأرضيين مهما بلغت، واهبًا إيّاه لا النصر فقط بل الخلاص والفرح وروح الغلبة والنصرة.

12. لا تسلّمني إلى خصومي، إلى أعداء يقاومونني باطلاً، وصدورهم تنفث الظلم

وكأنّه يقرأ ما يجول بنفوس وعقول خصومه ويعرف ما في بواطنهم من حقد وحسد وغلّ وكره، إنهم يضمرون ذلك كله ضد داود كشخص، وضد كل مؤمن على مر الأجيال، إنهم يمضغون الشر ويلوكونه، هم يستنشقونه ويتنفسونه كما الهواء، وفي ظلم وظلمة نفوسهم الشريرة تتأجّج نار الحقد والكراهية وفي قلوبهم العمياء بالكره يتوقون أن يروا الصديق ساقطًا في الوحل مثلهم، بعيدًا عن حضن الرب وعنايته الأبوية…فيصبح جل المرام أن يوقعوا به ظلمًا فريسة ولقمة سائغة في ظلماتهم فيفترسونه بأسنانهم ويمزقونه بأنيابهم. وفي هذا نذكر القديس أنطونيوس الكبير أبا الرهبان حين أبدى في تواضع شديد تعجُّبه أمام الهجوم الكاسح والكم المريع من الشياطين التي جُندت لإسقاطه: “عجبًا أنكم تهتمون بإنسان حقير مثلي”! لكن في النهاية يجب أن نؤمن أن الله لا يسلّم أبدًا من يلوذ بحضنه إلى أ يدي العدو مهما بلغت شراسته ويقظة تربُّصه بالمؤمنين.

13. أنا مؤمن بأن أرى جود الرب في أرض الأحياء

وهكذا يؤمن داود وكل من ماثله في الإيمان أنه سيخلص ويحيا، وأنه سينتقل من وادي الموت إلى أرض الأحياء، وما معني أرض الأحياء هو  الحياة بين الأبرار الصالحين في سلام بعيدًا عن الخطأة والظالمين… هذا رجاؤه لكن المعنى الأبعد للآية هو الحياة الأبدية حيث نور لا يعرف غروبًا وشبعًا لا يعرف جوعًا وفرحًا لا يشوبه حزن أو كدر أو تنهُّد في نور الله وقديسيه…

القسم الرابع: نصح وإرشاد                         (14)

  1. ليكن رجاؤك بالرب، تشدّد وليتشجّع قلبك، وليكن رجاؤك بالرب.

حيث يتوجّه النبي بالروح والعقل والفكر والقلب نحو هيكل الرب ليستتر ويحتمي هناك تحت مظلّته، متسربلاً بروح الطفولة والتواضع والتوبة والاعتراف، متوشحًا بالإيمان أنه سيصل حتمًا إلى أرض الأحياء ليعلن نور الرب الذي يملأ قلبه وكيانه من اللحظة المُعاشة حتى وسط الأهوال. سينتقل إلى المرحلة الأخيرة متوجّهًا نحو الأمل والرجاء…حينئذ يظهر الرب للتائب وعبر الكاهن الذي يستقبله في الهيكل يسمع كلمات الرب: قلت التمسوا وجهي، وها قد أتيت يارب قارعًا باب تعطفاتك ملتمسًا ولو قبسًا من نور وجهك… فيسمع من جديد صوت الرب بفم الكاهن: تشدّد وليتشجّع قلبك، وليكن رجاؤك بالرب. وهكذا تصل رسالة الرب لكل مضطهد متألم من أجل البر خلاصك حاضر فلا تخف ويرد قلب المؤمن: الرب نوري وخلاصي فممن أخاف وإذا كان الرب معنا فمن علينا؟

رابعًا: تطبيق المزمور

  • كيف عاش الرب يسوع

يمكن أن ينطبق هذا المزمور على العديد من مراحل حياة الرب يسوع: فالحقيقة أن يسوع ملك المجد، قد سار في طريق الاستقامة حتى صار هو” أنا الطريق والحق والحياة” (  )، والحق يقال أنه يمكن تطبيق كل ما يقوله هذا المزمور عن الله على يسوع المسيح.

  • الرب نوري وخلاصي فممن أخاف؟ الرب حصن حياتي ممن أرتعب؟ قال يسوع: “أنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاً يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ” (يو 12:8) استمد النور من أبيه السماوي “الله نور السماوات والأرض إِنَّ اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّة”َ).ايو 1:5) وعاش في النور وأمرنا “النُّورُ مَعَكُمْ زَمَانًا قَلِيلاً بَعْدُ، فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئَلاً يُدْرِكَكُمُ الظَّلاًمُ. وَالَّذِي يَسِيرُ فِي الظَّلاًمِ لاً يَعْلَمُ إِلَى ًايْنَ يَذْهَبُ ” ( يو 12:35).
  • إذا هاجمني أهل السوء… يعثرون ويسقطون: سقط جميع أعداء يسوع الذين وقفوا ضده وحاربوه وذهبوا إلى مقبرة التاريخ وقد أرادوا أن يقضوا عليه ويفنوه: وَلا يُفَكِّرُونَ ًانَّهُ خَيْرٌ لَنَا أنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاً تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا” (يو 11: 50) لكن الله أقامه حيًا وأجلسه ملكًا إلى الأبد وعثر مضطهدوه وسقطوا.
  • إن اصطف عليّ جيش فلا يخاف قلبي: اصطف الأعداء جميعًا ضده وأحضروا شهود زور وقدّموه إلى الولاة الوثنين وأوقفوه أمام بيلاطس فلم يخف ولم يتراجع ولم يتزعزع قلبه حتى أذهل وحير قلوب من حاكموه وحكموا عليه ظلمًا.
  • وإن قامت عليّ حرب، فأنا أبقى مطمئنًا: لم يضطرب قلبه إبان المعركة ولم يخف من مواجهة مخاصميه، بل كان سكونه وسلامه مصدر قلق واضطراب كبير لمحاكميه.
  • §      لي طلبة من الرب ولا ألتمس سواها أن أقيم في بيت الرب جميع أيام حياتي: كان الرب يسوع “مقيمًا” بالفعل والقول والحق في بيت الله بل في الله نفسه حيث يقول: “أنا في الآب والآب في” وهكذ تحقّقت أمنية قلبه في التجسُّد وبعد القيامة: “أنا عائد إلى أبي وأبيكم”(يو 20: 17).
  • §      حتى أعاين نعيم الرب وأتأمّل في هيكله: عاد يسوع صاعدًا منتصرًا إلى السماء ليعاين نعيم الرب ويجلس عن يمينه في أورشليم السمائية غير المصنوعة بأيد بشر وهناك سيبقى إلى الأبد. وَقَائلاً: «أيُّهَا الرِّجَالُ الْجَلِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى السَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هكَذَا كَمَا رأيتموه مُنْطَلِقًا إِلَى السَّمَاءِ” (اع 1: 11).
  • هناك يظللني يوم السوء ويسترني بستر مسكنه وعلى صخرة يرفعني: تحقّقت النبوءة بالفعل في حياة يسوع فقد ظلله الله بستره ورضاه: “هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُوا” (مت 17:5) ورفعه ودحرج الصخرة عن باب قبره وأقامه ديانا للشعوب.
  • والان يرتفع رأسي فوق أعدائي حولي: الآن وكل أوان يظل اسمه فوق كل اسم وله تسجد “سَتَجْثُو كُلُّ رُكْبَةٍ، وَكُلُّ لِسَانٍ سَيَحْمَدُ اللهَ” (رو 14:11).
  • §      وأذبح في هيكل الرب ذبائح، وأنشد وأرتل لاسمه: لم يشأ الرب أن يقدّم ذبائح حيوانية ولم يرتضِ بذبائح بشرية بل قدّم ذاته ذبيحة مرة واحدة عن الجميع فصار اسمه هتافًا وحياته نشيدًا تتغنّى بها الأجيال.
  • اسمع يا رب صوت دعائي وتحنّن واستجب لي: صلّى يسوع ضارعًا إلى أبيه واستمع الرب الإله إلى صرخة ابنه فتحنّن عليه واستجاب له وأقامه من الموت حيًا.
  • قلتَ: “التمسوا وجهي” فقلت: وجهك يا رب ألتمس”: في كل لحظات حياته حتى وهو معلّق على خشبة الصليب ظل يسوع متمسكًا بالآب ملتمسًا وجهه حتى في اللحظة التي بدا فيها وجه الآب محتجبًا صرخ: “إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟” 0(مت 26 :47) وكأنه يردّد مع المرنًم “لا تحجب وجهك عني لا تنبذني، ولا تتركني يا الله مخلصي” وسمعه الناس يناجي أبيه من فوق الصليب فقالوا: “هُوَذَا يُنَادِي إِيلِيَّا” (مر 15:35).
  • إن تركني أبي وأمي فأنت يا رب تقبلني (الذهبية): عاش يسوع تلك الثقة بكامل معانيها وترك هو بالفعل أبويه الأرضيين لينشغل “بأعمال” أبيه السماوي يَنْبَغِي أنْ أعْمَلَ أعْمَالَ الَّذِي أرْسَلَنِي” (يو 9:4).
  • لا تسلّمني إلى خصومي، إلى أعداء صدورهم تنفث الظلم: طلب في بستان الزيتون ألاّ يسلم إلى يدي أعدائه، لكنه أدرك أن تلك هي مشيئة الأب فقال: يَا أبَتَاهُ، إِنْ أمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ، وَلكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أنْتَ”(مت 26 :39).
  • أنا مؤمن بأن أرى جود الرب في أرض الأحياء: تجلّى إيمان يسوع بهذه الحقيقة السمائية الفردوسية حين أجاب اللص الذي سأل أن يذكره في ملكوته: “الْحَقَّ أقولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْس” (لو 23 :43).
  • §      ليكن رجاؤك بالرب، تشدّد وليتشجّع قلبك، ظل رجاء يسوع في أن يعبر أباه عنه كأس الألم وأن يقويه ويعينه على اجتياز تلك الساعات المريرة ليعبر هو بهبوطه إلى الجحيم بالبشرية جمعاء نحو رجاء أكيد لا يغرب ولا يغيب، نحو الملكوت السماوي في أرض الأحياء إلى الأبد.
  • كيف نعيشه نحن المسيحيون

يمكن أن ينطبق هذا المزمور على حياة المسيحي المؤمن الذي يحيا في عالمنا المعاصر كإنسان يعرف الله ويحبه ويحاول السير حسيسًا في نور الرب الذي لا يعرف غروبًا، في درب يسوع –نور العالم، الذي من يتبعه لا يمشي في الظلام الذي أعلن لمن يريد اتباعه “أنا نور العالم” (  )، وهكذا يصير ممكنًا تطبيق كل ما يقوله هذا المزمور عن الله على حياة كل مؤمن مسيحي:

  • الرب نوري وخلاصي فممن أخاف؟: الرب بكلامه ورعايته وعنايته الأبوية ينير حياة المؤمن المسيحي ويخلّصه من سلطان الظلام فلا يعرف الخوف إلى قلب المؤمنين سبيلاً.
  • §      الرب حصن حياتي ممن أرتعب؟: يدرك المؤمن المسيحي أنه محفوظ في حدقة عين الرب ولا يستطيع الشر أن يقترب منه “أيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لا أخَافُ شَرًّا، لأنك أنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي. (مز 23 :4) فيسير في دروب العالم العسيرة والشاقة خالي البال مطمئنًا.
  • إذا هاجمني أهل السوء، أعدائي والذين يضايقونني ليأكلوا لحمي كالوحوش يعثرون ويسقطون: اختبر المؤمن المسيحي كل هذا في حياته وفي تاريخ كنيسته التليد هذه الحقيقة الإيمانية الراسخة فقد سقط كل أعداء الكنيسة على مر العصور وبقيت هي حية نابضة شامخة على مر الدهور.
  • إن اصطف عليّ جيش فلا يخاف قلبي: كم من الجيوش والملوك والأباطرة والخلفاء والحكام والولاة حاولوا الوصول إليها للقضاء عليها لكن هيهات فهي تظل ثابتة القلب راسخة اليقين رافعة الرأس لا تخاف مهما علت أمواج الاضطهاد الفردي والجماعي.
  • وإن قامت عليّ حرب، فأنا أبقى مطمئنًا: هل يستطيع مؤرّخ أن يعدّد مرات الظلم وانواع الاضطهاد وكم الحروب التي شُنت على الكنيسة منذ بزوغ شمسها إلى اليوم؟ لا أظن.
  • §      لي طلبة من الرب ولا ألتمس سواها أن أقيم في بيت الرب جميع أيام حياتي: يشتاق المؤمن المسيحي إلى بيت الله ويتوجّه إليه بكل قلبه وبكامل زينته وبجميع أفراد أسرته ليرتّل ويسبّح وبمجّد خالقه وصخرة خلاصه ويعود فرحًا متشبّعًا بالأمل والرجاء.
  • §      حتى أعاين نعيم الرب وأتأمّل في هيكله: جميع المؤمنين المسيحيّين يتنعّمون بتواجدهم في هيكل الرب بالكنيسة ويتمنون أن يقضوا فيها بقية حياتهم ومنهم من يقرر أن يفعل ذلك وهم ملايين على مدى الأجيال تركوا أهلهم وقصورهم وبيوتهم ودخلوا الأديرة والصوامع ليبقوا في بيت الرب كل أيام حياتهم.
  • والآن يرتفع رأسي فوق أعدائي حولي: يشعر المسيحي الحقيقي بالنصر حتى وهو معلّق على الصليب مع سيده فهو لا يخاف الموت ولا يبالي بالأم ولا يهاب العدو.
  • §      وأذبح في هيكل الرب ذبائح هتاف له: يقدّم المسيحي الحقيقي حياته ذبيحة وينبض قلبه بالشكر والحمد والتسبيح في كل حال ومن أجل كل حال وعلى كل حال.
  • وأنشد وأرتل لاسمه: حياة المسيحي نشيد حب للرب إلهه وأيامه قيثارة عشق بها يمجّده وسنوه مجرد لحظات غربة في انتظار العودة ليستكمل نشيده السرمدي مع الملائكة والقديسين.
  • هناك يظلّلني يوم السوء ويسترني بستر مسكنه وعلى صخرة يرفعني: في الكنيسة بيت الرب يشعر المؤمن المسيحي أنه في ستر العلي وفي بيت الآب ولا شيء يعوزه.
  • اسمع يا رب صوت دعائي: يعلم المسيحي الحقيقي أن أباه السماوي يصغي إليه ويعرف ما هو محتاج إليه قبل حتى لأن يطلبه.
  • قلتَ “التمسوا وجهي” فقلت وجهك يا رب ألتمس: شعار المسيحي الحقيقي في الحياة هو “البحث عن الله” ويقول أحد القديسين الكبار: “بحثت عن الله فلم أجده وبحثت عن نفسي فلم أجدها وبحثت عن القريب فوجدت فيه الله ونفسي وهذه هي خلاصة الدرس الإنجيلي ففي الدينونة يقول: تعالوا… كنت
  • لا تحجب وجهك عني ولا تصد بغضب عبدك: لا يخشى المسيحي شيئًا في الحياة بقدر احتجاب نور الرب عنه واختفاء وجهه من أمام ناظريه فمحرد أن يصرف الله وجهه سيبد وينتصر عليه العدو مؤكدًا قول الرب يسوع بدوني لا تستطيعون أن تعملوا شيئًا” لذا فهو يتضرع صارخًا إلى الرب “اصرف وجهك عن خطاياي وامحو جميع آثامي لكن لا تحجب وجهك عني فأشابه الهابطين في الجب.
  • كنت نصيري فلا تنبذني: يعلم المؤمن المسيحي تلميذ يسوع الناصري أن الرب ناصره ولن يرذله أو يتخلّى عنه ولن يتركه الله مخلصه.
  • إن تركني أبي وأمي فأنت يا رب تقبلني (الذهبية): بهذه العبارة يؤكّد المؤمن المسيحي على مدى عمق وحميمية العلاقة مع الله ابيه السماوي الذي يعتني به ويحرسه ويرعاه.
  • أرني يا رب طريق النجاة …ويسّر لي سبلي: الله هو المرشد والمسيح هو القائد والمعلم فهو الطريق والحق والحياة.
  • لا تسلّمني إلى خصومي: يعرف المؤمن المسيحي أن سيده سلّم نفسه وقدّم حياته من أجل أن يفتديه، ولن يسلّمه أبدًا إلى أيدي الأعداء.
  • أنا مؤمن بأن أرى جود الرب في أرض الأحياء: يحيا المؤمن المسيحي على هذه الأرض بالإيمان انه سيعبر إلى الحياة الأبدية “أرض الأحياء إلى الأبد” وما حياته على الأرض سوى فترة اختبار إلى زمن يسير ينطلق بعدها إلى المروج السماوية.
  • ليكن رجاؤك بالرب: هذا هو إيمانه وتلك هي ثقته وذاك هو رجاؤه الذي لا يخيب.
  • تشدّد وليتشجّع قلبك: يتقوّى المؤمن المسيحي في أزمانه اليومية والحياة بهذا الإيمان والرجاء ويحيا في المحبة، لذا لن يخيب رحاؤه أبدًا.

خامسًا: المزمور في فكر وأقوال الآباء

يقول القديس أغسطينوس: “اهدني” يتقدّم السيد المسيح كمرشد وطريق في نفس الوقت، يسند المؤمن ليجتاز الطريق الملوكي الضيق، طريق الصليب، بلا توقُّف ولا تراجع. اهدني الاستقامة في الطريق الضيق، فإنه لا يكفي أن أبدأ، إذ لا يكف الأعداء عن مضايقتي حتى أبلغ غايتي. لا يقدم الظلم التهنئة لنفسه إلاّ بتحقيق البطلان الذي له، لكنه أخفق في إزعاجي، لذلك صار لي الوعد بمكافأة أعظم في السماء: “وأنا أؤمن إني أُعاين خيرات الرب في أرض الأحياء”.

القديس غريغوريوس أسقف نيصص:”وجد الظلم” له شهودًا كثيرين ووجدت أنا بالإيمان الله أبًا وأمًا وسندًا لي”. ينتهي الظلم ببلوغ غايته وهو البطلان والدمار، وأبلغ أنا غايتي إذ أُعاين ما وعدني به الله من بركات في السماء “أرض الأحياء”. يتكئ الأشرار على الظلم فينهارون معه، واتكئ أنا على الإيمان فأرتفع به إلى أرض الأحياء. ما هي أرض الأحياء؟: لست أظن أن النبي يدعو هذه الأرض أرض الأحياء، إذ يرى أنها لا تُعطي إلا الأمور الزائلة، وينحل فيها كل ما يصدر عنها. لكنه عنى بأرض الأحياء تلك التي لا يقترب منها موت ولا يطأها سبيل الخطأة ولا شّر فيها.

الأب قيصروس أسقف آرل:  بالمعمودية صرنا نحن أرض أحياء لا أرض أموات، أعني الفضائل لا الرذائل. لكن يكون هذا صحيحًا إن كنّا لا نعود إلى حمأة الرذائل بعد نوالنا المعمودية، وإن كنّا بعدما نصير أرض الأحياء لا يكون للدم موضع فينا، أي أعمال الشر المُلبس الموت.

يضيف القديس أغسطينوس:  يليق بهذه الأرض أن تُشتهى لا بشكل أرض بلا حياة، بل بطريقة سماوية، وبقلب يقظ، لأنها الأرض التي التهب حب المرنّم شوقًا إليها، فرنَّم في فرح. وإذ يقول في مزمور آخر: “أنت هو رجائي، وحظي في أرض الأحياء” (مز 142: 6).

القديس أمبروسيس: لأن أرض الأحياء هناك، فمن المؤكّد أن أرض الموتى هنا‍‍! لأن الخيرات هناك، حيث الحياة الأبدية، الحياة التي بلا خطية. يقول في موضع آخر: “نمتلئ من خيرات بيتك”.

القديس أغسطينوس: إذ يعلّمنا المرنّم حياة الصلاة مع التوبة لننعم بالغلبة على الأعداء والتمتُّع بجمال هيكل الرب ورؤية وجه الرب نفسه، يعود فيؤكّد الحاجة إلى الثقة في الله، فنصطبر للرب ونترقّب عمله فينا، ننتظره بإيمان بقوة اليقين، متأكدين من أبوّته الحانية الواهبة كل بركة سماوية. تحمّل برجولة النيران التي تُطهر شهواتك، وفي شجاعة تلك التي تُطهر قلبك. لا تظن أن ما لم تنله بعد لا تحصل عليه. ولا تخور يائسًا ما دمت تتأمّل الكلمات: “انتظر الرب”.

 يتقدّم السيد المسيح كمرشد وطريق في نفس الوقت، يسند المؤمن ليجتاز الطريق الملوكي الضيق، طريق الصليب، بلا توقُّف ولا تراجع. اهدني الاستقامة في الطريق الضيق، فإنه لا يكفي أن أبدأ، إذ لا يكف الأعداء عن مضايقتي حتى أبلغ غايتي.

لا يقدم الظلم التهنئة لنفسه إلاّ بتحقيق البطلان الذي له، لكنه أخفق في إزعاجي، لذلك صار لي الوعد بمكافأة أعظم في السماء: “وأنا أؤمن إني أُعاين خيرات الرب في أرض الأحياء”.

خاتمة المزمور

إذا كان الله معنا إذا كان الله معي فمن علينا؟ هذا هو جوهر هذا المزمور وسرّه، حيث يقف المؤمن بين يدي الله معبرًا عن محور إيمانه وأساس يقينه، وهكذا يكون هذا المزمور تفسيرًا لما قاله القديس بولس في الرسالة إلى أهل رومة من يفصلني عن محبة المسيح” مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أشِدَّةٌ أمْ ضَيقٌ أمْ اضْطِهَادٌ أمْ جُوعٌ ً أمْ عُرْيٌ أمْ خَطَرٌ ًامْ سَيْفٌ؟”  (8: 35). فلا الأشرار، ولا شهود الزور، ولا المحاربون المدجّجون بالسلاح، يستطيعون أن يفصلوه عن حماية الله. فالله نوره وخلاصه.

المؤمن متيقّن من حماية الله له ،إنه  ليس بموقن لأن الله حاضر فيه، بل هو موقن بحضور الله ذاته. وهو  يثق من هذا الحضور  لا  بسبب اختبار داخلي شخصي فحسب ، بل لأنه  واقف في هيكل، ولأن الربّ حاضر في هيكله المقدس حسب وعده. بل لا نبالغ إذ نقول إن هذا الحضور لا يتعلّق بإيمان المؤمن أو بعوا طفه فحسب، بل إن إيمانه وعواطفه مرتبطان بهذا الحضور.

 لهذا لا مبالغة على الإطلاق فيما يطلبه قبل كل شيء، بل الشيء الوحيد الذي يرجوه، هو أن يقيم في بيت الرب أيام حياته. هناك يرى بهاء الله وجماله، فتزول كل الظلمات ويهرب الاشرار. أجل، فمجرد الوجود  في كنف الربّ وحضرة الإله يعزّينا،  فهو يسكن في وسطنا أيضًا.

إن كلمات هذا المزمور الذي سمعناه وأنشدنا آياته، هي من الروح القدس قبل أن تكون منا، ونحن لا نستطيع أن نجعلها كلماتنا دون أن نسلّم أنفسنا بين يديه فإن اقتصرت على الشفاه دون القلب كنّا كاذبين. إنه صوت روح الله يصرخ في قلوبنا بأنّآت لا توصف لأنه إن لم يكن هو الذي أوحى بهذه الكلمات لما كنّا نقولها فهي في النهاية هي كلماتنا البشرية التي نعبّر عنها بين يديه فنكون في أمان حين نتأمّل حلاوة الربّ، حين نكون في ظلّ هيكله المقدس. نصلّي أمامه ساجدين رافعين أيدينا ونتأوّه… تمرّ الصلاة فيحلّ صراخ التهليل. وتمرّ الدموع فيحلّ الفرح! هكذا يعلّمنا هذا المزمور أن نصلّي وكيف نصلّي وماذا نطلب من الربّ حين نصلّي، فلا تتوقّف صلاتنا إلى أن نحصل على النعم المرجوة لأنه هو نفسه يريد أن يمنحها.

صلاة بروح المزمور

نور وجهك يا رب التمس

ربي أنت نور حياتي ، أنت هدي ومقصدي

تعرفني قبل أن أعرف ذاتي وتفحص قلبي وكليتي

تحصي أيام عمري وغير خافية عليك أفكاري ومخاوفي

أنت حصني وإلى حضنك التجئ فكيف أخاف وأنت معي

وكيف أضطرب عندما يهاجمني أهل السوء

ولِمَ أبالي إن اصطف عليّ عسكر جيش كامل؟

علّمني ألاّ أخاف، ودرّبني كيف لا أضطرب،

اتحدني بك يا صخرتي، وحصّني فأبقى هادئًا مطمئنًا

حيث  نورك يهديني ويمينك تحيط بي وقلبك يرعاني

 فيختفي كل خوف من حياتي وأظل مستريحًا في كنفك

 أتمتّع بالنظر نحوك والتملّي في نور وجهك

ابق معي يا سيدي فلا يخاف قلبي ولا يميل النهار عني أبدًا

 ولا تعرفن الظلمة إلى نفسي طريقًا

ربي وإلهي نوري وخلاصي

من كل جوارحي إليك أتضرّع

قلت التمسوني ها قد أتيت يا سيدي

خاشعًا طارقًا باب تعطُّفك

 قلت اطلبوا وجهي ووجهك يا رب ألتمس

يتيم أنا في هذا العالم فإن أبي وأمي قد تركاني

تحت رحمة أمواج أليم وأنت مددت يدك وانتشلتني

 ابق روحي دومًا راسية في مرفأ حبك الدافئ

حيث لا يصل العدو إلى حدودي المحصّنة بك وفيك

ولا تهز عواصفه  سفينتي الراسية في كنفك

 ولا تكدر أمواجه نفسي المستريحة بين يديك

أنت أبي وأمي حقًا، لأنك من يرعاني وفي حضنك أحتمي

علمني أن أدرك قوة وجودك فأنعم بضياء وجهك

درّبني أن أبحث وأفتش عنك دومًا

في كل يوم وحدث وشخص

فأنت يا رب نوري وخلاصي

أنت شمسي التي لا ولم ولن تغيب. آمين

فهرس المزمور السابع والعشرين

نوري وخلاصي

أولاً: تقديم المزمور  

ثانيًا: نص المزمور وتقسيمه

ثالثًا: تفسير المزمور

القسم الأول. ثقة  مطلقة في الر ب (1-3)

القسم الثاني: حصانة  إلهية  في هيكل   الله  (4-6)

القسم الثالث:   صلاة  مفعمة بالرجاء (7-13)

القسم الرابع:  نصح وإرشاد   (14)

رابعًا: تطبيق المزمور

كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور

كيف نعيش نحن المسيحيين هذا المزمور

خامسًا: المزمور في فكر الآباء

خاتمة المزمور

صلاة حسب روح المزمور

فهرس المزمور السابع والعشرين