بين وَحْي الله وِإيْمَان الإنْسَان للأب فـاضـل سيداروس اليسوعي(جزء1)

بقلم: الأب فاضل سيداروس اليسوعي

بَيْن وَحْي الله
وِإيْمَان الإنْسَان

الأب
فـاضـل سيداروس اليسوعي

محاضرات ألقيت
فى المعهد الإكليريكى للأقباط الكاثوليك بالمعادى
وفى معهد الدراسات اللاهـوتية بالسكاكينى
القـاهرة

الطبعة الثانية

المقدمة العامة

إن موضـوع محاضراتنا هـو الوحى والإيمان. فالله يوحى بذاته وبالإنسان للإنسان، والإنسان يتجاوب معه بالإيمان. هـذا هـو أساس أىّ حـديث لاهـوتى فى الأديان، ولا سيّما فى اليهودية والمسيحية والإسلام.

من هـنا أهمية الموضوع فى منطـقة الشرق الأوسط حيث الأديان الثـلاثة هـذه، إذ إنّ لكـلّ منها نظـرة خاصّة وإشكالية خاصّة فى ما نحن بصـدده. وعـلى الرغـم من أننا سنعالج الموضوع من وجهة نظـر مسيحيّة، إلاّ أنّ جـذورها متأصّلة فى اليهـودية وسنبرزها فى كلّ خطـوة من خطواتنا. وإمَّـا وجهة النظـر الإسلامية فلن نتعـرّض لها مباشرة، بل سنـنوّه بها عـرضًا بمقارنات خاطـفة قـد تفـتح المجـال لدراسة أشمل وأعـمق.

وحيث إنّ فى الشرق الأوسط الطـوائف المسيحية الثـلاث ـ الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروستانتية ـ يتحتّم عـلينا أن نبرز التقـاليد الثـلاث فى شأن ما نحن بصـدده. لذلك سنستشهد بآباء الكنيسة الشرقية والغـربية، وفى داخـل التقـليد الغـربى سنستشهد بإشكالية الكثلكة والإصـلاح معـًا.

فنحن فى عـصر الحوار بين مختلف الأديان والطـوائف، ومن المهمّ، غـاية الأهمية ـ فى منطـقتنا خاصّة ـ أن نتطـرّق إلى دراسات لاهـوتية مقارنة برزانة الفكـر السديد.

وتنقسم معالجتنا للموضوع ـ طـبقـًا للعـنوان نفسه ـ إلى وحـدتين، وحـدو تُعـالج الوحى وحـدة تعالج الإيمان. إلاَّ أنّ الوحـدة الثانية نقسمها قسمين، الأول يتحدث عـن الإيمان بحـدّ ذاته، والثانى عـن التعـابـير الإيمانية.

فثمّة، إذًا، ثـلاث وحـدات: الوحى، الإيمان، التعـابير الإيمانية، سنعالجها متتالية. وسيسبق الوحـدات الثـلاث هـذه مدخل عـام وهو عـبارة عـن تفسير لنصّ كتابى يُفـيد موضوعـنا، إذ يبيِّن كيف كان يسوع يوحى بذاته وبالإنسان وكيف كان التلاميذ يعـبّرون عـن هـذا الوحى ويؤمنون بيسوع المسيح، أى طريقة الوحى والإيمان فى العهد الجديد.

الفصل الأول
طريقة الوحى والإيمان

تمهـدًا لدراسة الوحى والإيمان، نبحث فى الإنجـيل عـن الطريقة التى إستخدمها يسوع ليُعـلن ذاته ورسالته وليكشف عـن حقـيقة الإنسان، كما نبحث عـن تفـاعـل تـلاميذه.

ففى الإزائيات، تسلّسل بين أربع وحـدات متّصـلة بعـضها ببعـض إتصـالاً وثيقـًا يُفـيد ما نحن بصـدده: شهادة بطـرس بلاهـوت يسوع ـ تنبؤ يسوع بآلامه وصلبه وموتـه فقـيامته ـ شروط إتّـباع التلاميذ ليسوع ـ التجـلّى. وليس هـذا التسلّسل مصـادفة، بلّ هـو متعـمّد إذ يُبـرز منطـق الوحى / الإيمان فى المسيحية. وسنعـتمد عـلى نصّ متى [ 16: 13 ـ 17: 8 ] ، محلّـلين وحـداته الأربع بالتسلسل.

قـد يبـدو غـريبـًا لأوّل وهـلة أنّ يسوع لم يقـل قـطّ فى أيَّـام حـياته الأرضـية إنـّه المسيح، أو الله … ورغـم ذلك فنحـن نعـرف من هـو.

الحقـيقة أنـّه لم يصـرّح بذلك خوفـًا من أن يفهـمه المستمعـون خطـأ. فـلو قـال إنـّه المسيح، لقهـموه عـلى أنـّه محـرّر سياسىّ وإجتمـاعىّ وإقـتصـادىّ … هـذا ما رفضـه أيَّـام حـياته الأرضـية. لذلك حافظ الإنجـيليون عـلى ” السرّ المسيانى” ( secret messianique )، إذ كان يسسوع يرفـض لقـب ” المسيح” تحـاشيًـا لأىّ إلتباس فى المفهـوم.

ولكن هـناك سببـًا أعـمق من ذلك، وهـو أن يسوع قـد ترك تـلامـيذه أنفسهم يقـولون من هـو، عـندما سألهم:
{ مَنْ يَقُولُ اَلنَّاسُ إِنِّي أَنَا اِبْنُ اَلإِنْسَانِ؟ } [ متى 16: 13].
” من أنـا عـلى حـدّ قـولكم أنتم؟”.
فـأراد يسوع هكـذا أن يُشرك الإنسان فى الوحى نفسه والتعـبير عـنه، فى إيجـاد الألقـاب التى تدل بمن هـو يسوع ومن هـو الله، مثلما ترك آدم يسمّى هـو بنفسه الكائنات الحـيّة [ تكوين 2: 19 ، 20 ]، ثقـة من الله بالإنسان. وبلغـت هـذه الثقـة قمـتها بتجسّد الله حيث أصبح الله إنسانـًا، فإتحـد الله بالبشرية فأشرك الإنسان فى الوحى والإعـلان عـمَّـن هـو المسيح.

غـير أنّ يسوع نفسه هـو الذى بـادر بالسؤال: ” سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ…”، فـلا يستطـيع الإنسان من تلقـاء نفسه أن يقـول شيئـًا عـلى الله إلا بمبادرة من الله نفسه.

وبنـاء عـلى هذه المبادرة، إعـترف بطـرس بشخص يسوع معـبّرًا عـن إيمان الكنيسة: { أَنْتَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللَّهِ اَلْحَيِّ } [ متى 16: 16 ]، مستعـينـًا بالكتب التى تحـدّثت عـن الله ومسيحه ومعـبّرًا عـن إنتظـار الشعـب للمَسيَّـا.

إلاّ أنّ التعـبير الإنسانى يتّسم بطـابع السرّ، حيث إنّ الله نفسه يكشف فعـلاً للإنسان من هـو يسوع: { طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ لَكِنَّ أَبِي اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاوَاتِ } [ متى 16: 17 ] (1). فيسوع يتدخـّل هـنا ليؤكّـد ما قـاله بطـرس : { طُوبَى لَكَ… } وليصحّح قـوله: { إِنَّ لَحْماً وَدَما.. } وليُـضفى المعـنى الحقـيقى لقـوله : { لَكِنَّ أَبِي ..}. هكـذا لا يكفى أن يجد الإنسان التعـبير المـلائم للإعـتراف بيسوع بناء عـلى مبادرة يسوع، بل يجب أن يوافـق يسوع ويشرح ويصحّح (2). فله المبادرة فى السؤال وفى الردّ، وإن كان الردّ ردًا بشريًـا. هـذه هى طريقـة يسوع فى إعـلان ذاته.

ونتساءل الآن: كيف إستطاعـت الكنيسة ـ المرموزة هـنا فى بطرس وسائر التلاميذ، فهم نواتها ـ أن تجيب الجـواب الصـائب؟ إن إستطاعـت إلى ذلك سبيلاً، فـلأن يسوع قـد أعـدّ تـلاميذه فى صـبر وطـول أنـاة. فقـد قـادهم تدريجـيًا إلى الإعـتراف به كمسيح ابن الإلـه الحىّ. ولولا هـذا الإعـداد لِمـَا توصّـلوا إلى معـرفـته حقـيقةً. لذلك لم يثِـرْ يسوع التساؤل للجمـوع التى كانت تتبعـه، وإنما لتـلامـيذه، أولئـك الـذين اهتـمّ بهم إهـمامـًا خاصـًا: { حِينَئِذٍ صَرَفَ يَسُوعُ الْجُمُوعَ وَجَاءَ إِلَى الْبَيْتِ. فَتَقَـدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ… } [ متى 16: 36 ] ـ { لأَنَّهُ قَدْ أُعْـطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْـرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَأَمَّا لأُولَئِكَ فَلَمْ يُعـْطَ… فَإِنِّي الْحَقَّ أَقـُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ وَأَبْرَاراً كَثِيرِينَ اشْتَهـَوْا أَنْ يَرَوْا مَا أَنْتُمْ تَرَوْنَ وَلَمْ يَرَوْا وَأَنْ يَسْمَعـُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُـونَ وَلَمْ يَسْمَعُـوا } [ متى 13: 10 ـ 17 ]. فللجموع، كان ” المسيح” يمثّـل الملك المنتصـر، لا يسوع المتواضع. لذلك أوصى تـلاميذه بألاّ يُخـبروا أحـدًا بأنَّـه المسيح.

ولقـد تمّ إعـداد التلاميذ هـذا بواسطة الكـتب التى تتحـدّث عـن المسيح. فـفـى ردّ التـلاميذ، هـناك استشهـاد بها : ” هـو يوحـنا المعـمدان”، ” هـو إيليا”، “هـو إرميا أو أحد الأنبياء”(3)، فضـلاً عـن لقـب ” المسيح” نفسه وهـو لقـب كـتابىّ. فيعـتمد، إذًا، الإعـتراف بذات يسوع عـلى الكـتب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ليس الآب فقـط يكشف، بل الروح القـدس أيضًـأ: { لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: { يَسُوعُ رَبٌّ } إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ } [ 1 كورونثوس 12: 3 ] ـ { يَشْهَدُ لَهَا الرُّوحُ الْقُدُسُ: لأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ ذَاتُهُ } [ 1 يوحنا 5: 6 و يوحنا 14: 26]، ولكنَّه لا يشهـد وحـده بل يشهد مع أرواحنا { اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضاً يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اَللهِ } [ رومية 8: 16 ]، فالإنسان شريك مع الله دائمـًا.
(2) وبالمثـل، عـندما قال الرجل الغـنى ليسوع: { أَيُّهَا اَلْمُعَلِّمُ اَلصَّالِحُ مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ اَلْحَيَاةَ اَلأَبَدِيَّةَ؟. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اَللَّهُ } [ مرقس 10: 17، 18 ]. فلم يرفض يسوع صفة ” البر والصلاح” لنفسه، بلّ صحّح ما قـد يشوبها من إلتباس وسوء فهم، مثل لقب ” المسيح”
(3) عـلى جبل التجلّى، ظهـر موسى وإيليا، أىّ الشريعة والأنبياء، وهما قسما الكتاب المقدّس الرئيسيان.

تنبُّؤ يسوع بآلامه وصلبه وموته فـقيامته
لم يُعـلن يسوع ذاته فحسب، بلّ أعـلن رسالته وملكـوت الآب أيضـًا:” من هـو ابن الإنسان…؟” وإثـْر إعـتراف بطـرس، أعـلن يسوع ثـلاث مرات أن ابن الإنسان سيُسلّم إلى أيدى الناس، فيقـتلونه, وفى اليم الثالث يقـوم:
{ مِنْ ذَلِكَ اَلْوَقْتِ اِبْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ اَلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ اَلْكَهَنَةِ وَاَلْكَتَبَةِ وَيُقْتَلَ وَفِي اَلْيَوْمِ اَلثَّالِثِ يَقُومَ } [ متى 16: 21]،
{ وَفِيمَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي اَلْجَلِيلِ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: اِبْنُ اَلإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي اَلنَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ وَفِي اَلْيَوْمِ اَلثَّالِثِ يَقُومُ } [ متى 17: 22، 23]،
{ وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ صَاعِداً إِلَى أُورُشَلِيمَ أَخَذَ الاِثْنَيْ عَشَرَ تِلْمِيذاً عَلَى اِنْفِرَادٍ فِي اَلطَّرِيقِ وَقَالَ لَهُمْ: هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَاِبْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ اَلْكَهَنَةِ وَاَلْكَتَبَةِ فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ وَفِي اَلْيَوْمِ اَلثَّالِثِ يَقُومُ } [ متى 20: 17ـ 19].
وفى أسفـار العـهد الجديد، لا يأتى عـامَّة ذكـر ” ابن الإنسان” إلاَّ للحـديث عمّـا يفعـل يسوع ويجب عـليه أن يفعـل، أى عـن رسالته، لا للإعـلان عـن ماهيَّـته وكـينونته. غـير أنَّ إعـلان كـيونة يسوع وماهيَّـته يتضمَّن إعـلان رسالته، فثـمَّـة تطابـق بين مَـن هـو يسوع وما عـليه أن يحـدث له من موت وقـيامة (4).

وكيف تقـبّـلت الكنيسة هـذا الإعـلان بالمـوت والقـيامة؟.
رغـم إعـداد يسوع لتـلاميذه، ورغـم معـرفتهم للكـتب، لم يُـدركوا بعـد، فى إعـترافهم بـذات يسوع، عـمق هـذا الإعـتراف وحقـيقـته الكاملة. لذلك نجـد بطـرس، إثـر إعـلان يسوع رسالته ( الموت / القـيامة )، ينفـرد به و ” يعـاتبه” فيقـول: { حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هَذَا! } [ متى 16: 22 ]. فيجيب عـليه يسوع : { اِذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ. أَنْتَ مَعْـثَرَةٌ لِي لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا لِلَّهِ لَكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ } [ متى 16: 23].

تظهـر هـنا حقـيقـة الكنيسة. فلقـد أسَّسها يسوع ” عـلى هـذه الصخـرة”. وبطـرس هـنا يمثـّل الإثنى عشر وهم أعـمدة الكنيسة. فإن أرسى يسوع أسس الكنيسة فى هـذه اللحظـة حـيث يعـترف بـه بطـرس، وحيث يُعـلن يسوع نفسه عـن رسالته، فلكى يُظهـر لا،ّ دور الكنيسة هـو أن تتمم رسالته عـلى الأرض. وهـذه الكنيسة هى عـلى حقـيقتها مبنيَّـة عـلى المسيح نفسه، عـلى رسالته، عـلى الصخـر، كما أنَّهـا مبنيَّـة عـلى ضعـف البشر، الذين لا يفهـمون تمامـًا حقـيقة المسيح. فالكنيسة هى مزيج من القـوة والضعـف، من القـبول والرفض، من القـداسة والخطـيئة، من الألوهـية والإنسانية.

هـذه الكنيسة تؤمـن، فى نهاية الأمـر، بشخص لا بحقـائق أو بمبادئ أو بقـيم أو حتى بكـتاب. إنَّ إيمانها يتعـلّـق بشخص حىّ: { أَنْتَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللَّهِ اَلْحَيِّ }، وبرسالته: موته وقـيامته.

وستنكشف كـيونة هـذا الشخص عـند إتمـام رسالته، أىّ عـندما يمـوت عـلى الصـليب ويقـوم من بين الأمـوات ويصعـد عـن يمين الآب. فكـينونتـه الحقـيقـية أنَّـه ” ابن الله المتجسّد”. أمَّـا بطـرس فـأراد أن يعـترف بالكـيونة بـدون الرسالة، فـأخطـأ. وبالمثـل لا تستطيع الكنيسة أن تؤمن بيسوع إلاَّ مصـلوبًـا / قـائمـًا، مائتًـا / حيًّـا، متـألمـًا / ممجـدًا …. وإنّ أىّ فصـل بين كـينونته ورسالته يوقع الكنيسة فى مـا رفضـه يسوع طـوال حـياته حتّى عـلى الصـليب: أن يكـون مسيحـًا منتصـرًا بـدون أن يكـون مسيحـًا متألمـًا.

فهـناك، إذًا، قطـبان فى الوحى المسيحىّ لا ينقسمـان ولا يتجـزآن ولا ينفصـلان: شخص يسوع / حـدث موت يسوع وقـيامته، أو كـينونة يسوع / رسالة يسوع. وتقـتفـى الخطـب فى أعـمال الرسل هـذين القـطـبين، فإنَّهـا تُعـلن أولاً رسالته: مـوت / قـيامة، ثمّ تُعـلن كـيونته:
{ سَبَقَ فَرَأَى وَتَكَلَّمَ عَنْ قِيَامَةِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ لَمْ تُتْرَكْ نَفْسُهُ فِي الْهَاوِيَةِ وَلاَ رَأَى جَسَدُهُ فَسَاداً } [ أعمال الرسل 2: 36 ].

فى هـذا يكمن سرّ المسيحية الـذى لا يكشفه ” اللحم والدم” ، ولا ” العـقـل والاجتهاد”، وإنَّمـا الله وحـده، ولكن مستعـينًـا بالإنسان وبتعـابيره البشرية وبفهـمه البشرىّ وبحـدوده البشريَّـة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4) ومن دينونة أيضًـا { وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ } [ متى 25: 31]، ومن منح جسده ودمه { فـَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: اَلْحـَقَّ اَلْحَـقَّ أَقـُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلـُوا جَسَدَ اِبـْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُـوا دَمَهُ فـَلَيْسَ لَكُمْ حـَيَاةٌ فـِيكُمْ } [ يوحنا 6: 53]… ففى كلّ هـذه الأحـداث التى حـدثت ليسوع، إنّ اللقـب المستخـدم هـو ” ابن الإنسان”. وفى رواية لوقـا لمشهـد التجلّى، أخـذ يسوع يتحـدّث مع موسى وإيليَّـا عـن { خُرُوجِهِ اَلَّذِي كَانَ عَـتِيداً أَنْ يُكَمِّلَهُ فِي أُورُشَلِيمَ } [ لوقـا 9: 31 ].

شروط اتباع يسوع
إذا كـان الله يكشف ذلك، فعـلى الإنسان أن يقـبل هـذا الكشف لا بالاقـتناع أو العـقـل، بالتسليم أو الاستسلام، بل بإتـباع يسوع. لذلك تتبع هـذا النصّ دعـوة يسوع لتـلاميذه: { إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَتْبَعْـنِي } [ لوقا9: 23] (5). فعـلى الإنسان أن يتجاوب ـ بكلّ شخصه وبمـلء حـرّيته ـ مع هـذه الدعـوة، إذ إنّهـا دعـوة حـياتيَّـة، مصـيريَّـة، وجـوديَّـة، إيمانيَّـة، موجَّهـة إلى جميع طاقاته: { فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهَذَا يُخَلِّصُهَا } [ لوقا 9: 24].

وهـذه الدعـوة منبعها وهـدفها هـو يسوع المسيح ابن الآب الحىّ. فليس الإيمان الحـقـيقىّ بيسوع المسيح إعـترافـًا به بالشفاه، بلّ يصـل إلى حـدّ إتـّباعه. فـلا يستطيع المسيحىّ أنّ يقـول ” قـانون الإيمان” بـدون أن يقـوده ما يتفـوّه بـه إلى إتـّباع يسوع، فيمـوت معـه ليقـوم معـه. وهـذا ما لم يتوقـّعـه بطـرس عـندما إعـترف بـلاهـوت يسوع: فالإعـتراف بالشفاه يقـود إلى الإعـتراف بالحـياة. فـلا يختصّ الوحى المسيحىّ بالله فحسب، بلّ بالإنسان أيضـًا الذى يؤمن ويحـيا بموجب هـذا الإيمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) هـذا هـو الإقـتداء بالمسيح. المـوت ـ معه، الدفـن ـ معه، القـيامة ـ معه، الصعـود ـ معه، التمجيد ـ معه… { فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَنَبْقَى فِي اَلْخَطِيَّةِ لِكَيْ تَكْثُرَ اَلنِّعْمَةُ؟ حَاشَا! نَحْنُ اَلَّذِينَ مُتْنَا عَنِ اَلْخَطِيَّةِ كَيْفَ نَعِيشُ بَعْدُ فِيهَا؟ أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اِعْتَمَدَ لِيَسُوعَ اَلْمَسِيحِ اِعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ حَتَّى كَمَا أُقِيمَ اَلْمَسِيحُ مِنَ اَلأَمْوَاتِ بِمَجْدِ الآبِ هَكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضاً فِي جِدَّةِ اَلْحَيَاةِ. لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ } [ رومية 6: 1ـ 5]. وهـذا العنصر الثالث ـ أىّ اتباع يسوع ـ موجود هو الآخـر فى الخطب الةاردة فى سفر أعـمال الرسل، وهـو خاصّ بالإهـتداء { تُوبـُوا وَلْيَعـْتَمِدْ كُلُّ وَاحِـدٍ مِنْكُمْ عَـلَى اسْمِ يَسُوعَ اَلْمَسِيحِ لِغـُفْرَانِ اَلْخَطَايَا فَتَقـْبَلُوا عَـطِيَّةَ اَلرُّوحِ اَلْقـُدُسِ } [ أعمال الرسل2: 38].

التجلي
هكـذا تلـوح لنـا جليًّـا الخطـوات الثـلاث لإعـلان يسوع بذاته وبالإنسان ولإيمـان الكنيسة به: من إعـلان الـذات الإلهـية، إلى إعـلان الرسالة الإلهـية، الأمـر الـذى يتطـلّب من الإنسان إتـّباع الله إتـّباعـًا كـلّيًّـا، لأن الله لا يقـبل إلاّ الإنسان بكـلّ قـلبه وكلّ فكـره وكلّ قـوّته. غـير أن متطلّبات الله هـذه تأخـذ بعـين الإعـتبار ضعـف الإنسان كما قـدّره يسوع فى شخص بطـرس.

وهـذه الثـلاثيّـة التى أوضحـناها ـ الكينونة / الرسالة / الإتباع ـ تتـتوّج وتتكلّـل عـلى جـبل التجلّى عـندما قـال الآب فى الروح (6): { هَذَا هُوَ اِبْنِي اَلْحَبِيبُ اَلْذِى عَنْه رَضَيْتُ. لَهُ اِسْمَعُوا } [ لوقا 9: 35].

فكـأن الآب يقـول لبطـرس فى كـينونة ابنـه:” أنت قـلت إنّ يسوع ابنى الحىّ، فنِعَـم قـولك، وإنّى أؤكـدّ لك أنّ شهادتك هـذه صـائبة كما أكّـدها له ابنى من قـبلى”. هـذا هـو الجـزء الأول من كـلام الآب { هَذَا هُوَ اِبْنِي اَلْحَبِيبُ }.

وأمَّـا الجـزء الثـانى، فيتعـلّـق برسالة يسوع ولا سيّما بمـوته / قـيامته. فـلأن يسوع سيتمّم مشيئة الآب، مطـيعـًا حتـّى المـوت والمـوت عـلى الصـليب { وَإِذْ وُجِدَ فِي اَلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى اَلْمَوْتَ مَوْتَ اَلصَّلِيبِ } [ فيليبى 2: 8 ]، فالآب يرضى عـنه وعـن طاعـته هـذه. هـذا هـو معـنى الجـزء الثـانى من كـلام الآب { اَلْذِى عَنْه رَضَيْتُ }.

أمَّـا الجـزء الثـالث فيختصّ بإتّـباع يسوع: { لَهُ اِسْمَعُوا }، أىّ: ” إسمعـوا كلّ ما سبق أنْ قـال لكم فى شروط إتـّباعه من زهـد بالـذات وحمل الصـليب معه”.

هكـذا إنّ إعـلان الآب بحضـور الروح يلخـّص الوحـدات الثـلاث التى تسبق مشهـد التجـلّى، فإنّ الآب والـروح يُعـلنان الابن للكنيسة المتمثـّلة فى التـلامـيذ الثـلاثة الحـاضـرين مشهـد التجـلّى.

وإنّ إعـلان الآب والـروح عـن الابن ما هـو إلاّ صـدى منهما لإعـلان الابن نفسه عـن الآب. فإثـْر إعـتراف بطـرس بيسوع المسيح، أرسى يسوع أسس كنيسته عـلى الأرض لتـتمّ رسالته وتمهّـد السبيل إلى الملكـوت: { وَعَلَى هَذِهِ اَلصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي وَأَبْوَابُ اَلْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا. وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ اَلسَّمَاوَاتِ فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى اَلأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي اَلسَّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى اَلأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي اَلسَّمَاوَاتِ } [ متى 16: 18، 19]. ثم صـرّح يسوع: { فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ } [ متى 16: 27]. فرسالة يسوع تستهـدف الملكـوت. بلّ الملكـوت نفسه هـو قـدوم المسيح الملك والديّـان مع الآب.

هـنا يتمّ الإعـلان: صلة يسوع بأبيه وإعـلان يسوع عـن أبيه. لذلك عـندما سأل يسوع تلامـيذه: { مَنْ يَقُولُ اَلنَّاسُ إِنِّي أَنَا؟ } أعـلنـوا: { أَنْتَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللَّهِ اَلْحَيِّ }. فوضعـوه فى عـلاقـة مميّـزة مع الآب. لأنّ الآب هـو ملء الإعـلان الذى أتى من أجـله يسوع، بلّ مـلء هـويّته وكينونتـه، فمشهـد التجـلّى يـأتى بعـد هـذا الإعـلان، مثـبتـًا ومكـلِّـلاً هـذا الإعـلان: { هَذَا هُوَ اِبْنِي اَلْحَبِيبُ }، هـو ابن الله الحىّ حقـًا، كما قـال بطـرس بوحىٍ من الآب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6) فى الأيقـونات الشرقـية عـن مشهـد التجلّى، إنَّ الروح القـدس حاضر متمثـلاً فى النـور الساطع المشع من يسوع الإله المتجلّى.

الخاتمة

إنَّـه لأمـرٍ معـزّ للغـاية أن يُشرك الله الإنسان فى الوحى بهـذا المقـدار، أن يُعـلن ذاتـه ورسالته بلّ والإنسان، مستعـينـًا بالإنسان. فلم يُنـزل الله الوحى إنـزالاً، بلّ أشرك الإنسان إشراكـًا. ذلك لأنّ مصـير الله مرتـبط إرتبـاطـًا وثيقـًا ونهـائيـًا بالإنسان منـذ تجسّد الله نفسه. فالإنسان شـريك كامـل فى الوحى، بفـيض من الآب الذى بـلغ من حـبه للإنسان حـتى يـذل ابنه الوحـيد { لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْـلِكَ كـُلُّ مَنْ يـُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ } [ يوحنا 3: 16 ]، ذلك الابن الذى بلغ حـبه للإنسان حتى بـذل حـياته عـلى الصـليب: { لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ } [ يوحنا 15: 13]، فـبذل روحه: { فَلَمَّا أَخَذَ يَسُوعُ اَلْخَلَّ قَالَ: قَدْ أُكْمِلَ . وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ اَلرُّوحَ.. لَكِنَّ وَاحِداً مِنَ اَلْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ } [ يوحنا 19: 30، 34 ]، ذلك الـروح الذى يدفـع الإنسان إلى أن يسمع صـوت يسوع ليتبعـه إتـّباع التلميذ لمعـلّمه، حـامـلاً معه ومثـله الصـلب، قـائمـًا معه، وحـيًّـا مثـله، وكـلّ ذلك فى داخـل الكنيسة، ففى الكنيسة يتجـاوب الإنسان مع الله بالإيمـان.

بهـذا نكـون قـد أظهـرنا أهمّ مـلامح الوحى المسيحى والإيمان المسيحىّ التى سنتحـدّث عـنها ونتعـمّق فيها عـند تحليلنا للوحى من جهـة وللإيمان من جهة أخـرى.

الوحدة الاولى
الوحى

المقدمة

ما هو الوحى؟ هـذا هـو موضوع الوحدة الأولى. وكى نتوصّـل إلى تعـريفه وتفهّـمه، بوسعـنا أن نستعـين بالكـلام البشرىّ الذى يوضـّح لنـا معـنى الكـلام الإلهىّ أو كلمـة الله.
للكلمة البشريّة، من منظـار شخصىّ وجـودىّ دينـامىّ، أربعـة أقطـاب:
1ـ إنّـها من شخص يبادر بالكـلام. ولنسمّه “أنـا”.
2ـ إنّهـا موجّهـة إلى شخص آخـر، فتطلّب تجاوبًـا منـه. ولنسمّه ” أنت”.ّ
3ـ لهـا مضمـون موضـوعىّ، يريـد ” أنـا” توصـيله إلى ” أنت”، فهـو إعـلام.
4ـ لهـا هـدف ذاتىّ، ألا وهـو تشـييد عـلاقـة بين ” أنـا” و” أنت”.

وإذا حـاولّـنا أن نطـبّـق ذلك عـلى الوحى، أىّ كـلام الله، وجـدنـا العـناصر الاربعـة هـذه:
1ـ2 فالله يبادر إذ يخاطب الإنسان. وهـذا هـو موضـوع فصـل أوّل يوضّـح النظـرة التـاريخـية إلى الـوحىّ.
3ـ4 والله يعـلن للإنسان من هـو الله ومن هـو الإنسان، ومن خـلال ذلك يبغـى الله تشييد عـلاقـة عهـد ومحـبّة بينه وبـين الإنسان. وهـذا هـو موضـوع فـصـل ثـان يوضّـح الوحى .

الفصل الثاني
التحقيق التاريخى للوحى

من”الأديان الطبيعية” إلى “الوحى التاريخى”

عـندما نتحـدّث عـن الوحى الإلهـى، نقصـد بـه كشف الله عـن ذاتـه وعـن الإنسان، فى اليهـوديّـة والمسيحيّـة. فهـذا موضـوع تحـقـيق الوحىّ تحقـيقـًا تـاريخـيـًا. وقـد نال البُعـد التاريخىّ أهـمّـية بالغـة فى الحـديث اللاهـوتىّ المعـاصر.

وقـد سبقـت الوحىّ التاريخىّ مرحـلة ” الأديـان الطبيعـية” وهى تستدعى شرحـًا قـبل أن نخـوض مراحـل ” الوحىّ” التاريخىّ.

1-الاديان الطبيعية و التطابق الله/الطبيعة

ففى الأديان الطبيعـية، كانت الطبيعة تظهـر للإنسان بمثـابة الواقـع الأسـمى، فهى تسيطـر عـليه: هى تغـذّيه وتحفظـه، وهى تخـيفه وتهـدّد حـياته. وهى مهـده ولحـده. وهى تمنحـه الخـيرات المـادَّيَّـة من ثمـار الأرض، وهى تخـرّبها بالزلازل والعـواصف… فوهبها الإنسان صفـة الألوهـية، وألَّههـا، فألَّـه الشمس وبعـض الحـيوانات..، أو تصوَّر الله عـلى صـورة الطبيعـة التى يعـيش فيهـا: فالله يمنحه الحياة، والله يسحبها منه. الله يهـبه الخـيرات الأرضـية، والله يعـاقـبه عـن طـريق الطبيعة، مسببـًا العـواصف والزلازل والفيضـانات ومختلف الكـوارث… وبالتالى حاول الإنسان إرضـاء الله واستجلابه، خائفـًا منه إذا عـصاه وخالفـه. كما كان يدعـو الله عـند الحاجة، ويستغـفره عـند المعـصية. فكـان الله يظهـر له حامـيًا من الكـوارث الطبيعـية، ومعـاقـبـًا إيَّـاه من خـلالها… هكـذا نجـد أنَّ ثمـة تطابقـًا بين الله / الطبيعـة فى ” الأديـان الطبيعـيَّـة”.

إلا أنّ الوحىّ الإلهىّ ألغـى هـذا التطـابق وأدخـل مفهـومـًا جـديدًا عـن الله وعـن عـلاقـته بالإنسان وبالطـبيعـة. هـذا ما ندرسه الآن.

2- الوحي و التمايز الله / الطبيعة

لقـد مـيّز الوحىّ اليهـودىّ ـ المسيحىّ تمايزًا واضحـًا بين الله والطـبيعة.

فـفى قـصَّة الخـلق مثـلاً، إنّ الطـبيعة فى مـنزلة خـليقـة الله. فلم يعـد المؤمن يؤلِّـه الطـبيعـة وإنَّمـا الله وحـده خـالق الطـبيعة وخـالق الإنسان.

غـير أنّ التمايز هـذا بين الله / الطـبيعة لم يصـل إلى كماله دفعـة واحـدة بلّ تدريجـيـًا. فـفى العـقـليَّـة اليهـوديَّـة لم يـزل الله يعـاقـب الإنسان عـن طـريق الطـبيعـة. فرمـزيـة قـصَّـة نـوح هى شاهـدة عـلى ذلك ، وبالمثـل رمـزيـة قصـَّة أصـدقـاء أيـوب وقـد حـاولوا إقـناعـه بأنَّ الله يعـاقـبه عـن طـريق المـرض والألم والمـوت.

ونجـد العـقـلية عـينها فى أيَّـام حـياة يسـوع الأرضـيَّـة، عـندما سأله اليهـود عـن الأعـمى منـذ ولادته، إن كان هـو خطئ أمّ والداه:{ فَسَأَلَهُ تلاَمِيذُهُ: ” يَا مُعَلِّمُ مَنْ أَخْطَأَ: هَذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟”. أَجَابَ يَسُوعُ:” لاَ هَذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ لَكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اَلْلَّهِ فِيهِ. يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ اَلَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ } [ يوحنا 9: 2ـ 4، راجع 13: 1ـ 4 أيضًا ] ـ فهـذا معـناه أنّـهم كانـوا يظـنّون أنّ الله يعـاقـب الإنسان بالأمـراض والمصـائب والمـوت…، أىّ من خـلال الطـبيعة. ولم تـزل هـذه العـقليّة حاضـرة فى بـداية المسيحـيّة فى مثـل قصّـة عـقـاب الله لحـنانيا وسفـيرة بالمـوت لكـذبهما عـلى بطـرس الرسول [ أعـمال الرسل 5: 1ـ 11].

أمَّـا يسوع، فقـد غـيَّر المفهـوم الخطـأ عـن الله وعـن عـقـابه للإنسان: { لا هَـذَا أَخْـطـَأ ولا أبَـوَاه } فالوحى المسيحىّ قـد وضـع حـدًا فـاصـلاً ونهـائيـًا فى التطـابق الله / الطـبيعة، إذ يُخـاطب الله الإنسان ” بلسان الابن” ـ فى الوحى المسيحىّ ـ بعـد أن كلَّـمه قـديمـًا ” بلسان الأنبياء” ـ فى الوحى اليهـودى:
{ اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ } [ عـبرانيين 1: 1 ]،
عـوض أن يظـنّ الإنسان أنّ الله يعـاقـبه عـن طـريق الطـبيعة. هـذا لا يمنع أنّ مرضـًا أو ألمـًا أو مـوتـًا، حـادثـًا مفاجـئـًا أو كارثـة طـبيعـية… قـد توقـظ الإنسان وتنبَّـهـه أنَّـه إبتعـد عـن الله فتقـرّبـه إليه، غـير أن الله لايُعـاقـب الإنسان من خـلال الطـبيعة.

وهـذا التطـوّر من الأديـان الطـبيعـية إلى الوحى اليهـودىّ فالوحى المسيحىّ، قـد غـيّر مفهـوم العـلاقـة الله / الإنسان. فالخـوف فى الأديـان الطـبيعـية قـد حـلّ محـلّه فى العـهد القـديم المخـافـة التى تعـنى الاحـترام والسجـود لله بإعـتباره خـالق الإنسان والكـون. وأمَّـا العـهد الجـديد، فقـد كشف أنّ ” الله محـبّـة”، وبالتـالى:
{ وَنَحْنُ أَنْفُسُنَا اخْتَبَرْنَا الْمَحَبَّةَ الَّتِي خَصَّنَا اللهُ بِهَا، وَوَضَعْنَا ثِقَتَنَا فِيهَا. إِنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ. وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي اللهِ، وَاللهُ يَثْبُتُ فِيهِ. وَتَكُونُ مَحَبَّةُ اللهِ قَدِ اكْتَمَلَتْ فِي دَاخِلِنَا حِينَ تُوَلِّدُ فِينَا ثِقَةً كَامِلَةً مِنْ جِهَةِ يَوْمِ الدَّيْنُونَةِ: لأَنَّهُ كَمَا الْمَسِيحُ، هَكَذَا نَحْنُ أَيْضاً فِي هَذَا الْعَالَمِ. لَيْسَ فِي الْمَحَبَّةِ أَيُّ خَوْفٍ. بَلِ الْمَحَبَّةُ الْكَامِلَةُ تَطْرُدُ الْخَوْفَ خَارِجاً. فَإِنَّ الْخَوْفَ يَأْتِي مِنَ الْعـِقَابِ. وَالْخَائِفُ لاَ تَكُونُ مَحَبَّةُ اللهِ قَدِ اكْتَمَلَتْ فِيهِ. وَنَحْنُ نُحِبُّ، لأَنَّ اللهَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً } [ 1يوحنا 4: 16ـ 19].

وظـلّ الفكـر البشرىّ قـرونـًا وقـرونـًا، حتى بعـد الوحى اليهـودى ـ المسيحىّ، يضـع تطـابقـًا بين الإنسان / الطـبيعـة، حتّـى أكّـد الفيلسوف ديكـارت ( 1596 ـ 1650 ) الإنفصـال بينهـما، بعـد الإنسجام بينهـما، بفضل ” الذات” البشريّة التى تمنح الإنسان مـيّزة عـلى الطـبيعة. وأخـذت كلمة الفيلسوف اللاهـوتىّ باسكال ( 1623 ـ 1662 ) رواجـًا إذ قـال:” إنَّ الطـبيعة تقـدر أن تقـتل الإنسان ولكنَّـها لا تعـرف أنَّهـا تقـتله فى حـين أنَّ الإنسان يعـرف أنَّ الطـبيعة تقـتله، فيفـوقها هكـذا ” الوعى” البشرىّ”.

ولندقـق النظـر الآن فى الوحى اليهـودىّ وفى الوحى المسيحىّ فى ثـلاث مراحل متكاملة:

الوحي اليهودي بين الخلاص و العهد

1ـ من ” الخروج” إلى ” الإختيار” و ” العهد”:

لقـد وعى الشعـب اليهـودىّ تدخـّل الله فى تاريخـه بفضـل حـدث ” الخـروج” من مصـر إلى فلسطـين بعـبوره البحـر الأحـمـر ـ من هـنا تسـميته بالشعـب العـبّرانى ـ فـتمّ الخـلاص من أرض العـبوديَّـة. وفى أثـناء مسيرتـه فى البـرّيّـة، وعـى أنّ الله قـد وعـده بأرض الميعـاد وعـدًا يعـود إلى ” إخـتيار” الله للآبـاء ـ إبراهـيم وإسحـق ويعـقـوب ـ وقـد قطـع معـهم ” عـهـدًا” ليصـيروا شعـبه وهـو إلهـهم، وأعـلن لهم عـن إسمه: { فَقَالَ مُوسَى لِلَّهِ: “هَا أَنَا آتِي إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَقـُولُ لَهُمْ: إِلَهُ آبَائِكُمْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. فَإِذَا قَالُوا لِي: مَا اِسْمُهُ؟ فَمَاذَا أَقـُولُ لَهُمْ؟” فَقَالَ اَللهُ لِمُوسَى: ” أَهْيَهِ اَلَّذِي أَهْيَهْ”. وَقَالَ: “هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ”} [ خـروج 3: 13، 14]. وقـد أرسل الله إليهم أنـبيـاء ليعـلّموهم تعـاليمه ووصـاياه ويذكّـروهم بالعـهد الخـلاصىّ.

ومن خلال تدخـّل الله هـذا فى تاريخ شعـب إسرائيل، يمكن استنباط بعـض مـلامح الوحى اليهـودىّ.

3-الوحي قصد الهي في التاريخ

إنَّ الله قـد بـادر فى الوحى إذ تدخـّل فى إخـتيار شعـب وتعـاهـده معـهم وخـلاصه لهم، وكذلك فى إعـلانه عـن ذاتـه لهم. فلله قـصـد فى ذلك، قـصـد لا يتحـقّـق فى الطـبيعـة بقـدر ما يتحـقّـق فى التـاريخ، فى تـاريخ الشعـب الـذى إخـتاره فقـطـع عـهـدًا معـه، ثـمّ أخـرجه من أرض العـبوديَّة فـوعـده بأرض المـيعـاد وعـلَّمـه حفظ وصاياه، ثـمّ ذكَّـره بكلّ ذلك تذكـيرًا مستمـرًا عـن طـريق الأنبياء. فهـناك خـطّ سير وتطـوّر ونمـوّ، هـناك أحـداث فـريدة من نوعـها، خـلافـًا للأديـان الطـبيعـية حيث لا أحـداث بلّ تكـرار للفصـول وللمـواسم وحـيث التـاريخ كالدائـرة، والتحـديد الدورىّ، وأمَّـا فى الوحى فالتـاريخ كالخـطّ، له بـدايـة ولـه نهـاية، وفـيه وعـود من الله يحقـقهـا فى تـاريخ الشعـب.

إنّ الأديان الطـبيعـية مبنيَّـة عـلى أساطـير غـير تاريخيّة، أمَّـا الوحى فعـلى معـاملة تاريخيَّـة من الله.
إنَّ الأديان الطـبيعـية لا زمـن لهـا، أمَّـا الوحى فمـتزمّـن فى الزمـن البشرىّ فلـه مـاضٍ وحاضـر ومستقـبل، فمن حاضـرهم يتذكّـر المؤمنـون ماضى معـاملة الله لصـالحهم ويرجـون تحـقـيق وعـوده المستقـبليّة، وفى حاضـرهم يفهـمون معـنى ماضـيهم ومستقـبلهم بـل ويدركـون معـنى حاضـرهم من ماضيهم ومستقـبلهم. والله فى كـلّ ذلك يتعـامل مع شعـبه معـاملة تربـويّة وتدريجـيّة بحسب ما يستطـيعـون أن يتقـبّلوه وبحسب ظـروفهم الإجـتماعـيّة والسـياسيّة والتاريخـيّة……، حتى { مِـلء اَلأزْمِنـَة } [ غلاطية 4: 4] وهى { آّخِـر اَلأيَّـامِ } [ عـبرانيين 1: 2 ].

3-الوحي علاقة شخصية بين الله و الانسان

فى الأديان الطـبيعـيّة، لا عـلاقـة شخصـيَّـة بين الله والإنسان. فـإله أرسطـو مثـلاً بعـيد كلّ البعـد عـن الإنسان، وهـناك العـملاء بينه وبينهم. وأمَّـا فى الوحى اليهـودىّ، فالله يخـتار شعـبـًا ويعـمل لأجـلهم ويتعـامل معـهم ويعـتنى بهم ويتحـاور معـهم. والله ينتـظـر تجـاوبهم، وعـندما ينحـرفـون عـن عـهـده يُرسل إليهم أنبيـاء ليذكـّرهم بالعـهـد وبأعـماله الخـلاصيّـة. إنّ الله يرتبـط هكـذا بشعـبه إرتبـاطـًا لا رجعـة فـيه، إرتبـاطـًا شخصـيًا: هـو إلهـهم وهم شعـبه.

هكـذا، نـرى الإنسان فى الأديـان الطـبيعـيّة يتـلاشى فى الطـبيعـة، بيـد أنّ المؤمنين يكتشـفـون فى الوحى هـويّـتهم كمخـلوقـين من الله وكشعـب إخـتاره الله وقطـع عـهـدًا معـه وخلّصه.

وكـون الله قـد إخـتـار شـعـب إسـرائيـل لا شـعــبـًا آخـر، يكـوّن ” عــثرة التـاريخ ” بحـسـب تعـبير أحـد مفـسّـرى العـهـد الجـديـد ( Dodd). إلاَّ أنَّ الله إخـتار شعـبـًا واحـدًا من أجـل شعـوب العـالم كلّـه، وقـد ظهـر هـذا الإتجـاه الشمولىّ بعـد سبى إسرائيـل إلى بابـل عـند إحتكاكه بشعـوب غـير مؤمـنة، فوعـى أنَّ الله يـريد خـلاص البشر بأجمعـهم وترسّخـت هـذه النزعـة الشموليّـة حتّى إكتملت فى المسيحيـّة.

3-الوحي عن طريق اقوال الله و افعاله الخلاصية

إنَّ العـلاقـة الشخـصيّـة بين الله وشعـبه ممكنـة لأنَّ الله يقـول أقـوالاً لشعـبه ويقـوم بأفعـالٍ لأجـله. فـللَّه أقـوال وأفعـال خـلاصيّة قـد عـبّر عـنها المجمع الفاتيكانى الثـانى خـير تعـبير:
” إنَّ تدبـير هـذا الوحى يقـوم فى الأفعـال والأقـوال مرتبطـة فى ما بينها إرتبـاطـًا جـذريًّـا. فالأعـمال التى أنجزها الله فى تاريخ الخـلاص توضّح وتدعّـم التعـاليم والحقـائق التى تشير إليهـا الأقـوال. وأمَّـا الأقـوال فتعـلن الأعـمال وتضئ السرّ الكامن فيها” ( فى الوحى الإلهى رقم 2).

فلفظة ” دبـار” العـبريّة ـ أىّ ” كلمة” العـربيّة ـ هى كلمة الله الفعّـالة، فهى تُعَـبّر عـن فعـل الله، كما أنّها تُعْـلن الله. ففى قصّة الخـلق مثـلاً، يقـول الله: ” كُـنْ “، ” فيكُـون”. إنّ أقـوال الله تُعْـلن حقـيقـته، وإنّ أفعـاله تُحـقـّق قـصـده الخـلاصىّ. إنّ أقـواله ـ للأنبياء مثلاّ ـ تُـفسّر أفعـاله الخـلاصـيّة لتُذكّـر الشعـب بها، كما أنّ أفعـاله هـذه تُجسّـد أقـوال من وعـود، كالذرّيّة والأرض والعـهد الجـديد من مجئ المسـيح وإنسكاب الروح.

3-الوحي بين الاختبار و الكتاب

إنّ قصـد الله فى التاريخ، وعـلاقـته الشخصيّة بالإنسان، وأقـواله وأفعـاله الخـلاصيّة، إنّما تختصّ بأشخاص: الآبـاء والأنبياء والملوك… إنّ الديانة اليهـوديّة ديـانة أشـخاص يتعـامل الله معهم فيخـتبرون تدخّـله فى تاريخهم. فيتبادر سؤال: ما هـو دور الكتاب المقـدّس فى هـذا الوحى؟.

الحـق يُقـال إنّ الله لم يكشف عـن ذاتـه وعـن أقـواله وأفعـاله فى كـتاب ـ خـلافـًا للإسلام مثلاً ـ بلّ عـن طـريق أشخاص إخـتارهم وقطـع معـهم عـهـدًا وأرسلهم ليعـلنـوه للشعـب. إنّ الله كشف عـن ذاتـه من خـلال إخـتبار شعـبه لـه. إنّمـا الإخـتبار هـو الأساس. وتلت هـذا الإخـتبار مرحـلة التـدوين فى كـتاب أصبح الكتـاب المقـدّس. وقـد دوّنـه كـتّاب مختلفـون، كلّ واحـد بحسب أسلوبه وطبعـه وشخصيّته، وبحسب الجمهـور الذى يوجّه إليه كلامه. فالاخـتبار أوّلى عـلى الكـتاب. والكـتاب من صـنع البشر ألهمه روح الله. بهـذا المعـنى لا يمكن إعـتبار اليهـود ـ ولا المسيحيين ـ ” أهـل الكـتاب”، إذ إنّ الله أعـلن ذاتـه فى أقـوال وأفعـال خـلاصيّة لا فى كـتاب.

وأمَّـا الكـتاب، فإنَّـه يُدخـل عـنصرًا ثـالثـًا عـلى الأقـوال والأفعـال الإلهيّة، ألاَّ وهـو الصـور. إنّ الأديـان الطبيعـيّة تلجـأ إلى صـور وتشابيه ورمـوز للتعـبير عـن الله: إمّـا حـيوانات وإمّـا عـناصر من الطـبيعة كالشمس مثلاً. كما أنّها تُدخـل الله فى عـالم البشر فى الأساطير. وقـد إستعـان الوحى اليهـودىّ المـدوَّن فى كتبه المقـدّسة بهـذه الصـور والأساطـير للتعـبير عـن الله. فالعـهـد القـديم ملئ بالتشابيه عـن الله مقتبسة من الأديـان الطـبيعـيّة: فـقـوة الله ثابتة ثبات الجـبال الشامخة، وظهـوره للبشر مصحـوب بالبـرق والرعـد والزلزال والدخـان… وكذلك إستخـدم أساطـير الخـلق والطـوفـان وبـابل… وأضـفى عـليها معـنى لاهـوتيّـًا يخـدم الوحى من تدخّـل الله فى تاريخ البشر. فالصـور والأساطـير تعـبير مهّم فى الوحى اليهـودىّ ـ وقـد أثّـرت فى الوحى المسيحىّ فى سـفـر الرؤيـا مثـلاً أو فى مشهـد العـنصرة…. إلاّ أنّهـا خاضعـة للأقـوال والأفعـال الخـلاصيّة عـلى خـلاف الأديـان الطبيعـيّة المبنيّة عـلى الصـور والأساطـير بـدون تدخّـل الله التاريخىّ.

{ اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً… كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ } [ عبرانيين 1: 1، 2].
أرسل الله ابنه، ” اَلْكَلِمَة” الأولى وهـو ينير جميع البشر، ليسكن بينهم ويُطـلعـهم عـلى أسرار الله [ يوحنا 1: 1 ـ 8]. فيسوع المسيح… { يَتَكَلّم بِكَـلامِ الله } [ يوحنا 3: 43 ] ويتمّم الخـلاص الذى كلّفـه به الآب [ يوحنا 5: 36، 17: 4]، ومن يرى المسيح يرى الآب [ يوحنا 14: 9 ]. فالمسيح أكمـل الوحى وتمّمه وثبّته بشهـادة إلهـيّة…( فى الوحى الإلهى رقم 4 ).

والجـديد فى هـذه المرحـلة من الوحى، أنها { اَلأَزْمِنَةِ اَلأَخِـيرَة } [ 1بطرس 1: 20] أو { مِـلء اَلأزْمِنـَة } [ غلاطية 4: 4]، حيث ” أكمل” يسوع العـهد القـديم [ متى 5: 17 ]. وذلك بأقـواله وأفعـاله الخـلاصيّة.

إنّ ابن الله المتجسّد هـو ” اَلْكَلِمَة” [ يوحنا 1:1]، كلمة الله. كان الأنبياء يتلقـّون كلمة الله منه ويُعْـلِنونها للشعـب، أمَّـا يسـوع فهـو هـذه الكلمة الحَـيّة. لذلك قـال:
{ اَلْكلاَمُ اَلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُـوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ } [ يوحنا 6: 63].

وإنّ يسوع ” اَلْكَلِمَة” قـد أعـلن الآب إعـلانـًا خاصًا إذ إنّه { اِبْنَه اَلْوَحـيد } [ يوحنا 13: 16 ]، هـو والآب { وَاحِـد } [ يوحنا 10: 30 ]، فما سـمعـه من الآب قـاله للعـالم [ يوحنا 8: 26 ]. فمن منطـلق كينـونته هـذه وهَـوِيّته، أعـلن الآب إعـلانـًا إختلف كلّ الاخـتلاف عـن إعـلان الأنبياء، فـقـد كشف أنّ الله الذى إخـتار وقـطع عـهـدًا وخلّـص هـو آب.

وقـد قـال إغـناطيوس الأنطاكىّ إنّ يسوع المسيح هـو ” ظهـور” ( Epiphania ) للآب: ” لا يوجـد إلاّ إله واحـد، وقـد “أظهـره” يسوع المسيح ابنه، وهـو كلمته الذى خـرج من الصمت”.

ولمّـا كان الابن والآب واحد، فإعـلان يسوع للآب إعـلان للابن فى آن واحـد. فلم يكن يسوع المعـلِـن فحسب، بل المعـلَن أيضًا، كان موضوع الوحى. لذلك قـال يسوع فى صـلاته الكهـنوتيّة قـبل إنتقـاله من العـالم إلى الآب:
{ يَعْـرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ اَلْحَقِيقِيَّ وَحْـدَكَ وَيَسُوعَ اَلْمَسِيحَ اَلَّذِي أَرْسَلْتَهُ… أَنَا أَظْهـَرْتُ اِسْمَـكَ لِلنَّاسِ اَلَّذِينَ أَعْـطَيْتَنِي مِنَ اَلْعَالَمِ. كَانُوا لَكَ وَأَعْطَيْتَهُمْ لِي وَقَدْ حَفِظُوا كلاَمَكَ. وَاَلآنَ عَـلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أَعْـطَيْتَنِي هُـوَ مِنْ عِـنْدِكَ… وَعَـلِمُوا يَقِـيناً أَنِّي خَـرَجْتُ مِنْ عِـنْدِكَ وَآمـَنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي } [ يوحنا 17: 3، 6ـ 8].
فبصـفته ابن الله، و { الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ } [ يوحنا 14: 6]،
إنّه دعـا إليه بسلطان التلاميذ الذين اختارهم: { لَيْسَ أَنْتُمُ اِخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اِخْتَرْتُكُمْ وَأَقَمـْتُكُمْ لِتَذْهَـبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ لِكَيْ يُعـْطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ بِاسْمِي } [ يوحنا 15: 16]،
وقـد وهـبه إيّاهم الآب { مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ. لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ اَلْعَالَمِ بَلْ مِنْ أَجْلِ اَلَّذِينَ أَعْـطَيْتَنِي لأَنَّهُمْ لَكَ } [ يوحنا 17: 9].
فبينما كان الناس يلتفّـون حول ” الرابّيين” ـ المعـلّمين ـ ليتعـلّمـوا منهم الكتب والشريعة، كان يسوع هـو الذى يدعـو أساسًا حـول شخصه ولا يُفسّر لهم الكـتاب، بلّ يُعـلن لهم الآب، يُعـلن شخصه، والـروح القـدس أيضًا { وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعـْطِيكُمْ مُعـَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَـكُمْ إِلَى الأَبَدِ } [ يوحنا 14: 16].
وقـد إستمـرّ إعـلانه هـذا بعـد قـيامـته إذ فـتح أذهـان تـلامـيذه ليفهـموا الكتب عـامّة وما يعـنيه خاصّة { ثُمَّ اِبْتـَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ اَلأَنْبـِيَاءِ يُفـَسِّرُ لَهـُمَا اَلأُمُورَ اَلْمُخْتـَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ اَلْكـُتُبِ… حِينَـئِـذٍ فـَتَحَ ذِهْـنَهُمْ لِيَفْهَمُوا الْكُتُبَ }[ لوقـا 24: 27، 45].

افعال يسوع قوة الله

لم يُعـلن يسوع الآب وشخصـه والـروح القـدس بكـلامه فحسب، بلّ بأفعـاله أيضًا. وبين كـلامه وأفعـاله تطـابق كـامل، وبين كـلامه وأفعـاله من جهـة وشخصـه وكـيانه من جهـة تطابق تـامّ.
فهـو نفسه ” قـوة” الله الآب { مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ اِبْنَ اَللَّهِ؟ أَجِئْتَ إِلَى هُـنَا قَبْلَ اَلْوَقْتِ لِتُعَـذِّبَنَا؟ } [ متى 8: 29].
وكان يعـمل بسلطـان وقـوّة: { فَوَقَعَـتْ دَهْشَةٌ عَـلَى الْجَمِيعِ وَكَانُوا يُخَاطِبُونَ بَعْـضُهُمْ بَعْـضاً قَائِلِينَ: مَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ! لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ وَقُـوَّةٍ يَأْمُرُ الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتَخْرُجُ }[ لوقـا 4: 36]،
ما يرى الآب يفعـله: { الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ. لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهَذَا يَعْمَلُهُ الاِبْنُ كَذَلِكَ } [ يوحنا 5: 19 ]. وأفعـاله هـذه ـ من معـجـزات وشفاءات وآيـات ـ هى خـلاصيّة، عـلى صـورة أفعـال الله الخـلاصيّة فى العـهـد القـديم.

وجـدير بالإشارة إلى أنَّ أعـظم فعـل من أفعـال يسـوع الخـلاصيّة ـ آلامه وصـلبه ومـوته ـ لم يكن يسوع فـيه فاعـلاً، (Action- Agir ) فحسب، بلّ ” مفعـولاً به” ( Passion – Patir ) أيضـًا، وهـذا ما يجـدر الإشادة بـه.

فـنرى يسوع ” فـاعـلاً ” بتمام معـنى الكلمة:
{ لِهَذَا يُحِبُّنِي الآبُ لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً ” لأنالها ثانية”. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي “برضـاى” لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً. هَذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي }[ يوحنا 10: 17، 18].

ويُعَـبّر يسـوع عـن هـذا الجانب ” الفـاعـل” فعـلاً حـرًا عـندما يُطـْلق عـلى نفسه اسم ” ابن الإنسان”، وهـو يذهب بمحض إرادتـه نحـو المـوت.

ونـرى يسوع ” مفعـولاً به” عـندما يقـول: ” يجب أنْ ” يتألّم ويُصْـلب ويمـوت [ متى 16: 12] أو ” لتتمّ الكـتب” أو ” كما جاء فى الكتب”، فيسلّم حينـذاك مصـيره وحـياته لمشيئة الآب الخـلاصيّة ولإرادة البشر الشرّيـرة، ويحـيا ذلك وهـو ” مفعـول بـه” أكـثر منه ” فـاعـل” ولا يـدّ لـه عـلى الأحـداث.

ويضفى ذلك معـنى عـلى آلام البشر، فقـد حـوّلهـا يسوع المسيح ـ بآلامـه الشخصـيّة ـ إلى قـوة خلاصيّة، إذ خلّص البشريّة لا بأقـوال فحسب، ولا بأفعـاله فحسب ( تجسّده ومعـجزاته وعـلاقـاته…)، ولابصـلاته فحسب، بلّ بآلامـه بصفـة خاصّة.

وإنّ أعـظم فعـل من أفعـاله هـو حـدث مـوته عـلى الصليب وقـيامته من بين الأمـوات.
فعـلى الصـليب قـد أعـلن نهـائيّـًا أنّه ابن الآب:{ حَقّاً كَانَ هَذَا اَلإِنْسَانُ اِبْنَ اَللَّهِ!} [مرقس 15: 39]،
مطيعـًا إيـّاه طاعـة الابن:{ مَعَ كَوْنِهِ اِبْناً تَعَلَّمَ الطَّاعَةَ مِمَّا تَأَلَّمَ بِهِ… وَإِذْ وُجِدَ فِي اَلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى اَلْمَوْتَ مَوْتَ اَلصَّلِيبِ } [عـبرانيين 5: 8 / فيليبى 2: 8]،
ومنَح الـروح القـدس:{ مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ اَلْكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ. قَالَ هَذَا عَنِ اَلرُّوحِ اَلَّذِي كَانَ اَلْمُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوهُ لأَنَّ اَلرُّوحَ اَلْقُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَـدْ أُعْـطِيَ بَعْـدُ لأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَـدْ مُجِّدَ بَعْـدُ } [يوحنا 19: 30، 34 / 7: 38، 39]،
كما أعـلن للإنسان خطـيئته ومغـفـرة الآب له:{ يَاأَبَتَاهُ اِغْـفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْـلَمُونَ مَاذَا يَفْعَـلُونَ } [لوقـا 23: 34]،
فحقّـق المصـالحة بين الله والبشر{ وَلَيْسَ ذَلـِكَ فَقـَطْ بَلْ نَفْـتَخِرُ أَيْضاً بِاللَّهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الّـَذِي نِلْنَا بِهِ الآنَ الْمُصَالَحَةَ. مِـنْ أَجْـلِ ذَلـِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِـدٍ دَخَـلَتِ الْخَطِـيَّةُ إِلَى الْعَـالَمِ وَبِالْخَطـِيَّةِ الْمَـوْتُ وَهَـكَـذَا اِجْـتَازَ اَلْمَـوْتُ إِلَى جَـمِيعِ اَلنَّاسِ إِذْ أَخْطَـأَ اَلْجَمِيعُ }[ رومية 5: 10، 11]،
إذ إنّه ” الوسيط ” الوحـيد بينهما { وَلَكِنَّهُ الآنَ قَـدْ حَصَلَ عَـلَى خِدْمَةٍ أَفْضَلَ بِمِـقْـدَارِ مَا هُـوَ وَسـِيطٌ أَيْضاً لِعَهْـدٍ أَعْـظَمَ، قَـدْ تَثَبَّتَ عـَلَى مَوَاعِـيدَ أَفْـضَلَ } [عـبرانيين 8: 6].

تحقيق الوحي بالروح القدس في الكنيسة
1ـ دور الروح القـدس فى الوحى:

إنّ الإعـلان الذى أوحى به يسوع يحقّـقه الـروح القـدس فى الكنيسة جـيلاً فجـيلاً، وفى الأفـراد شخـصًا فشخـصًأ. ولتمايز نوعـيّة عـمل كلّ منهما، يمكن القـول إنّ يسوع قـد أعـلن إعـلانـًا عـامـًا، لكلّ البشر ولكلّ الأجـيال. وأمَّـا الروح القـدس فيعـلن الإعـلان ذاتـه إعـلانـًا خاصًا، لكّ إنسان ولكلّ جـيل.
إن يسوع قـد أعـلن موضـوعـيًا، وأمّـا الروح فـذاتيًا.
إنّ يسوع قـد أعـلن للإنسان، أمّـا الروح فيعـلن فى الإنسان.
فالروح، إذًا، عـنصر تخصيص وتشخـيص للإعـلان الذى أعـلنه يسوع، وقـد قـال يسوع عـلى الـروح فى هـذا الصـدد: { وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ رُوحُ الْحَقِّ فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُـورٍ آتِيَةٍ. ذَاكَ يُمَجِّدُنِي لأَنَّهُ يَأْخـُذُ مِمَّا لِي وَيُخـْبِرُكُمْ. كُلُّ مَا لِلآبِ هُـوَ لِي. لِهَـذَا قُـلْتُ إِنَّهُ يَأْخُـذُ مِمَّا لِي وَيُخـْبِرُكُمْ } [ يوحنا 16: 13 ـ 15].

فعـمل الـروح، المرتبـط إرتبـاطـًا وثيقـًا بشخـص يسـوع وبإعـلانه ـ بالأقـوال والأفعـال الخـلاصيّة ـ يتمثّـل فى أنّه:
{ وَأَمَّا الْمُعَزِّي الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ } [ يوحنا 14: 26]، و{ وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ رُوحُ الْحَقِّ فَهُـوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِـيعِ الْحَـقِّ لأَنَّهُ لاَ يَتَكَـلَّمُ مِنْ نَفْـسِهِ بَلْ كُـلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَـلَّمُ بِهِ وَيُخْـبِرُكُمْ بِأُمُـورٍ آتِيَةٍ } [ يوحنا 16: 13].

فالروح ذاكـرة الكنيسة، يذكّـرها بما أوحى به يسوع. وهـو معـلّمها، يعـلّمها جـيلاً فجـيلاً التعـليم الذى عـلّمه يسوع. كما أنّه يشرح لهـا حـقـيقة ما حـدث ليسوع المسيح عـندما مـات وقـام.

فخـلاصـة القـول إن الوحـى واحـد فـلا جـديـد بين يسـوع والروح، لأنـّه وحـى الآب والابـن والـروح (1)، إلاّ أنّ طـريقة أدائه وإعـلانه تمـيّز فى ما بينهم، فالآب يرسل الابن ليُعـلن الوحى للإنسان، والابن يُعـلن الوحى، والـروح يتمّـم الوحى فى الكنيسة عـامّة وفى الأشخـاص خاصّة. فالأقـانيم الثـلاثة، إذًا، يشتركون فى الوحى الواحـد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ نقـرأ فى الرسالة الأولى ليوحنا:
{ فَإِنَّ هُـنَالِكَ ثَلاَثَةَ شُهُـودٍ فِي السَّمَاءِ، الآبُ وَالْكَلِمَةُ وَالرُّوحُ الْقـُدُسُ، وَهَـؤُلاءِ الثَّلاَثَةُ هُـمْ وَاحِـدٌ }[ 1يوحنا 5: 7].
فهم إذًا متّفقون فى الوحى.

دور الكنيسة في الوحي

ومن هـذا المنطـلق، يمكننا رسم مـلامح دور الكنيسة فى الوحى، إذ إنّ الله يشاء أنْ يُشرك الإنسان فى الوحى، تاركًا له أنْ يُعـلن الوحى بكامـات بشريّة ـ كما إتّضح لنـا جـليًا فى تحليلنا لنصّ متى [ 16: 23 و 17: 8].

وتوضيحًا لدور الكنيسة هـذا، نمـيّز ثـلاث خطـوات يشترك فيها الإنسان فى الوحى المسيحىّ:

1- التلاميذ يختبرون فيشهدون للمسيح القائم
لقـد انطلقـت الكنيسة من شـهادة الرسل الذين اخـتبروا شخص يسـوع المسـيح:
{ نَكْتُبُ إِلَيْكُمْ عَمَّا كَانَ مِنَ الْبَدَايَةِ بِخُـصُوصِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ: عَـمَّا سَمِعـْنَاهُ، وَرَأَيْنَاهُ بِعـُيُونِنَا، وَشَاهَـدْنَاهُ، وَلَمَسْـنَاهُ بِأَيْدِينَا.
فَإِنَّ الْحَيَاةَ تَجَلَّتْ أَمَامـَنَا. وَبَعـْدَمَا رَأَيْنَاهَا فِعْلاً، نَشْهَدُ لَهَا الآنَ. وَهَا نَحْنُ نَنْقـُلُ إِلَيْكُمْ خَـبَرَ هَـذِهِ الْحَـيَاةِ الأَبـَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِـنْدَ الآبِ ثُمَّ تَجَـلَّتْ أَمَامَنَا!
فَنَحْنُ، إِذَنْ، نُخْـبِرُكُمْ بِمَا رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْـنَاهُ، لِكَيْ تَكُونُوا شُرَكَاءَنَا. كَمَا أَنَّ شَرِكَتَنَا هِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُـوعَ الْمَسِيحِ.
وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هَـذِهِ الأُمُورَ لِكَيْ يَكْتَمِلَ فـَرَحُكُمْ!
وَهَـذَا هُـوَ الْخَبَرُ الَّذِي سَمِعْـنَاهُ مِنَ الْمَسِيحِ وَنُعْـلِنُهُ لَكُمْ: إِنَّ اللهَ نُورٌ، وَلَيْسَ فِـيهِ ظَلاَمٌ الْـبـَتَّةَ } [ 1يوحنا 1: 1ـ 5].

فما إخـتبره التـلامـيذ من يسوع المسيح القـائم قـد شهـدوا له وبشّـروا بـه وأعـلنوه.

هـذا وقـد وعـد يسوع المسيح تـلامـيذه بأنّهم سيشهـدون له: { لَكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُـوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ وَتَكُونُونَ لِي شُهـُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُـودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ } [ أعمال الرسل 1: 8].

وشهـادتهم هـذه هى شهـادة الـروح القدس نفسها، أى أنّ الـروح يشهـد فـيهم: { وَمـَتَى جَاءَ اَلْمُعَـزِّي اَلَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ رُوحُ اَلْحَقِّ اَلَّذِي مِنْ عِـنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ فَهـُوَ يَشْهـَدُ لِي. وَتَشْهـَدُونَ أ َنْتُمْ أَيْضاً لأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الاِبـْتِدَاءِ } [ يوحنا 15: 26، 27].

ولذلك تُظهـر الأناجـيل ووخُطب الرسل أهـمّيّة شهـود يسوع المسيح القـائم. فهم يشهـدون أنّه حىّ، أنّه مات، ثمّ قـام. فشهـادتهم لا تنحصـر فى سَـرْد أقـوال المسيح وأفعـاله فحسب، بلّ تختصّ بحـدث مـوته / قـيامته أساسًا، فقـد شاهـدوه حـيًّا. إنّهم إخـتبروه قـبل مـوته فشَهَـدُوا له بعـد قـيامته. فبقـدر ما يتعـلّق الوحى بشخص يسوع المسيح، كما رأينا، فالتـلامـيذ يشهـدون أنّه حىّ رغـم أنّه مات. ولولا شهـادتهم بأنّه حىّ، لَمَـا عَـرَفَ العـالم أنّه قـام. فبهـذا المعـنى يجب القـول بأنّ التـلامـيذ ـ وقـد مـلأهم الـروح القـدس ـ أعـلنوا الوحى، فهـم شركـاء فى الوحى، إذ أشـركهم الله فى تبليغـه. ولولا التـلاميذ الشـهـود لَمَـا عُـرِف يسـوع المسـيح القـائم. وهـذا البـلاغ نـابع من إخـتبارهم إيّاه ومن تكليف يسـوع بأنْ يكـونوا شُهـودًا له.

وبنـاء عـلى ذلك، قـال بولس: { مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ } [ أفسس 2: 20].

وهـذا ما يقصـده قـانون الإيمان عـندما يعـترف بأنّ الكنيسة ” رسوليّة ” أىّ مبنـيّة عـلى اخـتبار الرسل يسوع المسيح وشهـادتهم له، بالـروح القـدس. يُبـيّن ذلك إلى أىّ درجـة المسيحيّة دين أشخـاص قـبل أن تكـون دين كـتاب. فمحـورها هـو شخص يسوع المسيح فى سـرّ فصحـه، ومّن يُبـلّغـه هم أشخـاص أحـياء يُلهمهم الـروح القـدس قـبل تدوينهم الكـتاب المقـدّس.

2- الاميذ يعبرون عن الوحي

وعـبّر التـلامـيذ ـ بإلهـام الـروح القـدس ـ عـن إخـتبارهم بأنّ يسوع المسيح حىّ ـ فأىّ إخـتبار هـو شخصىّ ذاتىّ ، وعـليه أن يتمـوضع فى تعـابير ليكـون إخـتبارًا إنسانيًا جماعـيًا فيصـل إلى الآخـرين، عـلمًا بأنّ التعـابير هـذه لا تزال ناقـصة للتعـبير عـن الإخـتبار خـير تعـبير فـلا تستوفـيه. فأمّـا الإخـتبار الذاتىّ فهـو لا محـدود، وأمّـا التعـبير الموضـوعىّ فهـو محـدود. وكـلاهما ضـروريّان فى الشهـادة.

ولم يتلقّ التـلامـيذ تعـابير وصـياغـات جاهـزة، بلّ بحـثوا ـ بإلهـام الـروح القـدس ـ عـن أنسب التعـابير الإنسانيّة، الكـتابيّة وغـير الكـتابيّة، لتُمَوْضِعَ إخـتبارهم أنّ يسوع المسيح حىّ وقـد ظهـر لهم. فعـبّروا عـن ذلك فى ثلاثة إتّجاهات متكاملة:

3-علاقته بالطبيعة/ القيامة
وجـدوا فى اللغـة اليونانيّة لفظـين تُعـبّران عـمّـا حـدث ليسوع بعـد مـوته: Egeiromia ( إستيقـظ من النـوم ) Anistamai ( قـام من الفـراش ) فإسـتخـدموهما، فقـالوا أنّ { أَقَامَهُ اللهُ } فى خُطب أعـمال الرسـل [ أعمـال 2: 24]، ثمّ إنّ الـ { رُوحُ اَلَّذِي أَقَامَ يَسُـوعَ } [ رومية 8: 11]، وأخـيرًا { اَلْمَسِـيحُ قَـامَ } [ 2تيموثاوس 2: 8]. فإستخـدامهم ألفـاظ ” القـيامة” يُشـير إلى حـدث الفصـح: من المـوت إلى الحـياة.

3-علاقته مع الآب/ الصعود

ووصفـوا حـالة يسوع المسيح بعـد مـوته، فإستخـدموا تعـابير مثـل ” مجّـدَه الله” و ” رَفَعـَه”، و” أَصْعَـده” و” أجْـلَسه إلى يمينه” … ( فى خُطب أعـمال الرسل )، ثمّ إنّه هـو { لَمْ يَدْخُـلْ إِلَى أَقـْدَاسٍ مَصْنُوعَـةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ الْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِلَى السَّمَاءِ عَـيْنِهَا } [ عـبرانيين 9: 24] و { حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ } [ كولوسى 3: 1].
فألفـاظ ” القـيامة” تختصّ بـ “حـدث ” يسوع الفصحىّ، وأمّـا ألفـاظ ” الصعـود ” فتختصّ بـ ” حـالته” المجـيدة وتتعـلّق بعـلاقته مع الآب. وكـلتا النظـرتين متكاملتان: الأولى أكـثر تاريخـيّة، والثانية أكـثر حـاليّة.

3-علاقته مع البشر / الالقاب

وعـبّروا عـن أُلـوهـيّته فى أنّ الله أعـلنه ” سيدًا ” و ” مسيحًا ” و” ديّانًـا ” و ” رئيسًا للحـياة ” و” مخلّصًا “… فلقّـبوه هكـذا بألقـاب الأُلوهـية، تعـبيرًا منهم عـن كـينونته ـ لا عـن ” حـدثه ” و” حالته ” فحسب ـ وعـن عـلاقـته مع البشر.

ولم يستخـدم التـلامـيذ هـذه التعـابير المخـتلفـة دفعـة واحـدة، بلّ تدريجـيًا، فاقـتبسـوا البعـض منها من العـهد القـديم، والبعـض الآخـر من تعـابير عـصرهم فنصّـروها. هكـذا نـرى دور الكنيسة فى التعـبير عـن الإخـتبار، أى دور الإنسان فى التعـبير عـن وحى الله.

4- التلاميذ يدونون الوحي
وأخـيرًا دوَّنـوا الوحى إذ تأخّـر المجئ الثـانى ليسوع المسيح، ومـات بعـضهم. فالتـدوين تثبيتٌ للأجـيال اللاحقـة، ضـرورىّ فى غـيابهم ولا سيّمـا للكـرازة: { وَأَمَّا هَـذِهِ فَقـَدْ كُتِبَتْ لِتُـؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُـوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللَّهِ وَلِكَيْ تَكُـونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ } [ يوحنا 20: 31].

وقـد فعـلوا ذلك أيضًا بإلهـام الـروح القـدس لمّـا دوّنـوا البُشرى ـ من أقـوال يسوع وأفعـاله الخـلاصيّة ـ فى الأناجـيل وفى سـائر كتب العـهد الجـديد. ونحـن نعـلم أنّ تـدوينهم هـذا ليس سـيرة ليسـوع أو تحقـيقـًا صحـفيًا أو كـتاب تاريخ، بلّ هـو قـراءة لاهـوتيّة لِمـا قـاله وفعـله وحـدث له، فى ضـوء مـوت يسوع وقـيامته. وقـد تأثّـر تدوين الوحى هـذا بشخصيّة كلّ مُؤلّف وأُسلوبه ونظـرته اللاهـوتيّة وإخـتباره الشخصىّ ليسوع المسيح، والجمهـور الذى توجّه إليه وبيئته الدينيّة والثقـافـيّة…، وكلّ ذلك فى وحـدة وتجانس بين جميع المؤلّفـين من حـيث مضمـون الوحى الواحـد الوحـيد.

وبالإضـافة إلى أقـوال يسوع وأفعـاله، ثمّة صـور وتشابيه موحى بهـا إستخـدمتها كـتب العـهد الجـديد، فللتعـبير عـن الله هـناك صورة العـائلة: الله آب وابن، والبشر أبناء الآب وإخـوة يسـوع، والكنيسة عـروسه… وهـناك صـور العـلاقـات البشريّة: تلامـيذ يسوع هم أحـبّاؤه لا عـبيده، وأبناء الله الأحـرار… وهـناك الصـور الأنثروبولوجـيّة: الله روح، والكنيسة جسـد المسـيح…. وهـناك الصـور الزراعـيّة والهـندسـيّة: يسـوع هـو الكـرمة والآب هـو الكـرّام والتلامـيذ هم الأغـصان، ويسـوع هـو الراعى والمـؤمنون هـم خـرافـه، والمعـمّـدون هـم هـيكل الـروح القـدس… فجميع هـذه الصـور والتشـابيه وغـيرها هى من صميم الوحى المـدوّن للتعـبير عـن الله وعـن الإنسان وعـن عـلاقـتهما، وهى ثمـرة تضـافـر تعـابير البشـر وإلهـام الـروح القـدس.

ويطـرح تدوين الوحى عـدّة تساؤلات نعـرضها ونُجاوب عـليها:

لماذا لم يكتب يسوع

يسرد الإنجـيل أنّ يسوع قـد كـتب مـرّة واحـدة بإصبعه عـلى الأرض [ يوحنا 8: 6]. وكـنّا نتمنّى لو كـتب يسـوع سـيرته الذاتيّة هـو بنفسه عـوضًا عـن تلامـيذه أو معـهم. فلمـاذا لم يكتب يسـوع؟.

رأينـا فى تحليلنـا لنصّ [ متّى 16 ] أنّ طـريقة يسـوع فى الوحى إشراكه الإنسانَ فى التعـبير عـن الوحى، خـلافـًا لمفهـوم الوحى فى الإسـلام مثـلاً. ولقـد غـامر يسـوع إذ أراد إشراك الإنسـان. غـير أنّ مغـامـرته هـذه تنمّ عـن ثقـته بالإنسان عـامّة وبتلامـيذه خاصّة.

ما هو ضمان عدم تحريف التلاميذ للوحي
عـلاوة عـلى ثقـة يسوع بتلاميذه، أنّه أرسل إليهم روحـه القـدّوس وهـو يضمن أنّ ما عـبّروا عـنه شفهـيًا ثمّ كـتابيًا أمـين للوحى. فحـقـيقة الوحى تكمـن فى تضافـر عـمل الإنسان والـروح. لذلك أكّـد يسوع أنّ الـروح والتلامـيذ معًا يشهـدون له { فَهـُوَ يَشْهَدُ لِي. وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً } [ يوحنا 15: 26، 17]. وكـثيرًا ما كان الرسل يقـولون: { لأَنَّهُ قَـدْ رَأَى اَلـرُّوحُ اَلْقُدُسُ وَنَحْنُ… } [ أعمال الرسل 15: 28 ]، كما قـال بولس نفسه : { اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضاً يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا … } [ رومية 8: 16]. هـذه هى العـصمة بالـروح القـدس.

فكلّ مرحـلة من مراحـل الوحى ـ الإخـتبار بيسوع المسيح والشهـادة له، والتعـبير عـن الإخـتبار الإيمانىّ، والتـدوين ـ مـزيج من عـمـل الرسل والـروح القـدس.

وثمّـة مرحـلة أخـرى خاصّة بتـدوين كـتب الوحى. فـفى القـرن الثـانى، ظهـر العـديد من الكـتب إدّعـت أنّهـا موحى بها، منها الأناجـيل المـزيّفة أو المنحـولة ( Apocryphes). فـقى نهـاية القـرن الثانى أقـرّت الكنيسة، بإلهـام الـروح القـدس، الكـتب القـانونيّة وإعـترفت بأنّهـا كُـتُبهـا ـ المعـروفـة الآن بكـتب ” العـهد الجـديد ” ـ ورفضـت كُـتُبًـا أخـرى. وفى فعـلها هـذان كما فى المـراحل السابقـة، إنّمـا الضمـان الوحـيد لأمـانة الكنيسة للوحى هـو الـروح القـدس.

ما هي مكانة الكتاب المقدس في الكنيسة

لا شكّ أنّ الكـتاب المقـدّس، ولا سـيّمـا العـهد الجـديد مـنه، له مكانة مرموقة فى الكنيسة، نظـرًا إلى دور التـلاميذ الخاصّ، وقـد رافقـوا يسـوع. فهـم شهـود ليسـوع المسـيح فى حـياته الأرضيّة وبعـد مـوته وقـيامته، كما أنّهم الـذين عـبّروا عـن إخـتبارهم الإيمانىّ به قـائمًا ثمّ دوّنـوا ـ هم أو من صـاحـبوهم ـ إخـتبارهم هـذا فى كـتب العـهد الجـديد. وبهـذا المعـنى، إنّ دورهم لا يتكـرّر بلّ هـو فـريد من نوعـه. بهـذا قـال إيريناوس ” جهـلُ الِكـتاب هـو جهـلٌ للمسيح “.

وبالتالى، يظـلّ الكـتاب المقـدّس معـيارًا ومقـياسًا لجميع الأجـيال والعـصور الكنسـيّة، فيجب عـليها العـودة المستمرّة إليه. بلّ يجب أنْ تعـود إلى إخـتبار التـلاميذ الإيمانىّ المـدوّن فـيه. لأنّ إخـتبارهم الإيمانىّ هـو إخـتبارهـا هى عـلى مـرّ الأجـيال والعـصور. فكمـا شهـدوا هم ليسـوع المسـيح وعـبّروا عـن إيمانهم به ودوّنـوا ذلك، هكـذا فـإنّ كنيسـة جميع الأجـيال والعـصور تشهـد ليسوع المسيح وتُعَـبّر عـن إيمانها به معـتمدة فى ذلك عـلى ما دوّنـه التـلاميذ. فتظـلّ كُـتُب العـهـد الجـديد معـيارًا ومرجعـًا لها فى إخـتبارها وشـهادتها وتعـابيرها الإيمانيّة. إنّ الكنيسـة عـلى مـرّ الأجـيال والعـصور تُقـارن باسـتمرار ما تحـياه بمـا عـاشـه التـلاميذ من إخـتبار وشهـادة وتعـابير، وقـد سُـمّى بـ ” وديعـة الإيمـان “. فكلّ جـيل من الأجـيال وكلّ عـصر من عـصور الكنيسة يعـود بإسـتمرار إلى وديعـة الإيمـان هـذه ويُقـارن ذاتـه بها ليـرى إنْ كان أمـينًا لهـا، أى أمـينًا لإخـتبار الرسـل وشـهادتهم وتعـابيرهم أمّ لا. والـروح القـدس يضمـن ـ هـنا أيضـًا ـ الأمـانة هـذه.

ولكـن يجب التـذكـير أنّ المسيحيّة ليست أوّلاً ديـن كـتاب ولا تؤمن بكـتاب. إنّهـا دين شخص ـ هـو يسـوع المسـيح، ولذلك اسـمها “مسـيحيّة” ـ من خـلال أشـخاص ـ هـم التلاميذ، ولذلك هى ” رسـوليّة” ـ من أجـل عـلاقة شـخصيّة بين المسـتمعـين أو القـارئين وشـخص المسـيح ـ لذلك سُـمّوا ” مسـيحيين” ـ. ومن يضمـن صحّة ذلك هـو الشـخص ( أقـنوم ) الـروح القـدس.

فيجب وضع الكـتاب المقـدّس فى داخـل هـذه العـلاقـات، فى إطـار أوسع وأشـمـل من الكـتاب نفسه. فالكـتاب صيغـة الوحى وليس الوحى كـتابًا. هـذا ما يسـتأثر به الوحى المسـيحىّ والمسـيحيّة.

3-الوحي و ما بعد الوحي

هـل الوحى إنتهـى أمّ يسـتمـرّ بعـد التـلامـيذ وبعـد تـدوين الكـتاب؟.
يقـول بولس: { فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ ( ما تسـلّمته ) أَنَا أَيْضاً… } [ 1 كورونثوس 15: 3].

فكلّ جـيل بشرىّ يتسلّم ” وديعـة الإيمـان ” من الجـيل السابق ليُسـلّمها إلى الجـيل اللاحـق. ويتحـقّـق هـذا التسـلّم / التسـليم فى داخـل الكنيسة بفضـل الـروح القـدس الذى يضمن الأمـانة من جـيل إلى جـيل لـ ” وديعـة الإيمـان “.

فـالروح الذى جعـل التلامـيذ يخـتبرون يسوع المسيح ويشهـدون له ويُعـبّرون عـن الوحىّ ويُدوّنـونه، يجعـل كنيسة كلّ جـيل من الأجـيال تشـهـد ليسـوع المسيح بأمـانة لإخـتبار التـلاميذ الإيمانىّ ولتعـبيرهم المـدوّن فى الكـتاب. بلّ لإنّه يجعـلها تزداد تعـمُّـقـًا فى الوحى، مُكتشـفـة أبعـادًا جـديدة منه لم تتنبّـه إليها سابقـًا. هـذا هـو تاريخ العـقـائد فى المجامع، والعـبادة الليتورجـيّة، والفكـر اللاهـوتىّ… وجمـيعـها تعـابير عـن الإيمان، كما سـنراه فى القـسم الأخـير من دراسـتنا.

الحـقّ يُقـال إنّ الوحى بحصـر المعـنى قـد إنتهـى مع التـلاميذ الرسـل، إذ إنّهم بحـسب تعـبير بولس هم ” أَسَاس ” الكنيسة [أفسس 2: 20]. فـلا جـديد بعـدهم، وبهـذا المعـنى يمكن أنْ نُطْـلق عـلى الوحى من خـلالهم تسمية ” الوحى التأسيسىّ “، بقـدر ما هم شهـود ليسوع المسيح كمال الوحى. وأمّـا الوحى بالمعـنى الواسع، فيسـتمرّ فى داخـل الكنيسة بالـروح القـدس فى تعـمُّـقها للوحى، ويُمكن تسـميته ” الوحى اللاحـق”. وقـد قال البابا يوحنّا الثـالث والعـشرون فى إفـتتاح المجمع الفاتيكانى الثـانى، إن الكنيسة ترجـو ” عـنصرة جـديدة”، والبابا بولس الثانى من بعـده: ” عـنصـرة مُستديمة “. فالعـنصـرة تتجـدّد وتستمرّ فى الكنيسة من جـيل إلى جـيل. فالوحى، بهـذا المعـنى, حـركة ديناميكيّة لا تنقـطع حـتّى مجئ يسوع المسيح الثـانى المجـيد. حـينذاك يكتمل الوحى ويصـل إلى ملئه. ولكن قـبل ذلك، إنّ الكنيسة داخـلة فى الوحى وفى عـمليّة التعـمّـق فـيه والبحـث عـن أبعـاد جـديدة له ـ فى مثـل العـقـائد والليتورجـيّة والأحـاديث اللاهـوتيّة … ـ إلى أن يُخـتم عـندما يفُـضّ الحمـل المـذبوح والمجـيد الخُـتُم السبعـة [ رؤيا 6 ].

ويتطلّب ذلك من الكنيسة أمـانة وإبـداعـًا فى الوقـت نفسه: أمـانة لوديعـة الإيمان، وإبداعـًا لتوصـيلها بروح العـصر وعـقـليّته وفلسـفـته. وطبقـًا لاهـتمامات البشر الحاضـرة وتساؤلاتهم وحاجاتهم. والـروح القـدس يضمن أمـانة الكنيسة وإبـداعـها، أمـانتها لوديعـة الإيمان فى إبـداعها للتعـبير عـنها.

الخاتمة: بين الوحي اليهودي-المسيحي و الاسلام

خـتامًا لحـديثنا عـن تاريخيّة الـوحى اليهـودىّ ـ المسـيحىّ، بوسـعـنا إظهـار بعـض أوجه الشبه والإخـتلاف بينه وبين الإسلام.

إنّ الوحى اليهـودى ـ المسيحىّ يُحـقّـق قـصد الله الأزلىّ تحـقـيقـًا تاريخـيًا فى العـهـدين القـديم والجـديد. فهـو واحـد فى أزليّته، ومُتعـدّد فى تاريخـيّته. هـو نهـائىّ ( Définitif ) من جهـة، وحـدثىّ ( événementiel )من جهـة أخـرى. هـو مُتعـلّق بدوام الله، ومُرتبط بماضى الإنسان وحاضره ومستقبله. هـو يتمـيّز بإتّساقـه ( cohérence ) من جانب الله، وبتدرّجـه التربوىّ تجـاه الإنسان: فثمّة الإعـداد للوحى ـ فى ” الأديان الطـبيعـيّة ” ـ وهـناك بداياته ـ من الإخـتيار والعـهـد، من الخـروج والشـريعـة ـ فالنمـوّ فــيه ـ مع الأنــبيـاء ـ حـتّى إكـتمـالـه ـ بيـسـوع المسـيح ـ فإعـلانـه ـ بالـروح القـدس عــن طـريـق الـتلامـيـذ ـ وإسـتـمـراره وتـأوينه( actualisation) ـ بالروح القـدس عـينه فى كنيـسة كلّ جـيل وكلّ مكان. والحـقّ يُقـال إنّ هـذه النظـرة التاريخيّة إلى الوحى ليست بغـريبة عـن الإسلام إذ يعـتبر وحـيه خاتم الوحى اليهـودىّ ـ المسيحىّ.

وإنّ الوحى اليهـودىّ ـ المسـيحىّ فى جمـيع مراحله هـو ـ بحسـب تعـبير الآبـاء الشرقـيين ـ ” تلاحم” و” اتّحـاد وثيق”، “تعـاون عـملىّ ” و ” عـمل مشـترك ” بين الله والإنسان، بين مُـبادرة الله وهـو يوحى بذاته وإشـراكه الإنسـان فى الوحى. فهـو فى آن واحـد إلهىّ ومتسامٍ ومتعـالٍ، وبشـرىّ وباطـن وكامـن، ويعـود الفضـل فى ذلك إلى التجـسّـد حيث إتّحـد نهـائيًا الله بالبشـر، مشـيئة الله بحـرّيّة الإنسان، وحيث يتجـاوب ويتعـاون الإنسـان مع الله. ويتمـيّز الوحى المسيحىّ عـن الوحى اليهـودىّ بأنّ التـلاميذ شـهـود ليسوع المسيح وقـد إخـتبروه حـيًّا فأعـلنوه مـائتـًا حـيًا ثمّ دوّنوا شـهادتهم هـذه فى كـتب العـهد الجـديد، بيـد أنّ الأنبياء ـ فى الوحى اليهـودىّ ـ كانوا يتلقّـون فقـط كـلام الله.

والحقّ يُقـال إنّ نظـرة اليهـوديّة والمسـيحيّة عـلى الوحى، ولا سـيّما إلى دور الإنسان فـيه، تُخـالف تمامًا مفهـوم الإسـلام فى أنّ الوحىّ ” مُـنَزّل ” من لَـدُن الله للإنسان؛ فالـوحى فى المنظـور الإسـلامىّ كـتاب مُغـلَق ـ القـرآن ـ يعـتبره المسـلمون كلام الله الذى لا يتدخّـل فـيه الإنسان. وما دور محمّـد إلاَّ أنّه ينقـل الوحى بدون أنّ يتدخّـل أو يشـترك فـيه، خـلافـًا لأنبياء العـهد القـديم وتلاميذ العـهد الجـديد الذين صـاغـوا وحى الله بلغـة البشـر. وبالتالى يجـب القـول إنّ الإسـلام ” دين كـتاب “، وإنّ المسلمين ” أهـل كـتاب”، عـلى خـلاف اليهـوديّة والمسـيحيّة اللتَين هـما أوّلاً ” دين أشـخاص” ، كما رأينا طـوال نظـرتنا التاريخيّة إلى الـوحى.

ففى الأديـان الثلاثة يُخـاطب الله الإنسان: فى اليهـوديّة عـن طـريق الآبـاء والأنبياء الذين يتلقّـون كلام الله فى التاريخ البشـرىّ ولا سـيّمـا فى تاريخ شعـب الله المخـتار. وفى الإسـلام عـن طـريق القـرآن وهـو كـلام الله الأزلىّ ( بحسب إعـتقـادهم ). وفى المسيحيّة عـن طـريق يسوع المسيح الابن الكلمة وهـو أزلى وقـد ظهـر فى تاريخ البشر بتجـسّده. ونلاحظ أنّ الله يخاطب الإنسان فى اليهـوديّة والمسـيحيّة عـن طـريق أشـخاص، بيد أنّه يُخاطـبهم( بحسب إعـتقـادهم ) فى الإسـلام عـن طـريق كـتاب.

وفى سبيل توصـيل كـلام الله إلى الإنسان، تخـتلف الأديان الثلاثة. فـفى اليهـوديّة يُعـبّر الآباء والأنبياء عـن كلام الله فى داخل الشعـب المخـتار، وهـذا التعـبير مُـدَوّن فى كتب العـهـد القـديم. وفى الإسلام يقـوم محمّد بدور توصـيل القـرآن إلى الأمّة الإسلاميّة. وأمّـا فى المسيحيّة فإنّ التـلاميذ الرسل يخـتبرون يسوع المسيح مائتًـا قـائمـًا ويشهـدون لـه فيعـبّرون عـن ذلك فى داخـل الكنيسة لجميع البشر، وهـذا التعـبير مدوّن فى كـتب العـهد الجـديد، وتتمّ مختلف هـذه المراحـل بالـروح القـدس.

وقـد يَخـال للبعـض أنّ المسيحيّة دين الوساطة، بمعـنى أنّ الله لا يُخاطب الإنسان مباشرة ولا يدخـل فى عـلاقـة شخصـيّة معـه مباشرة بلّ بوساطة يسوع المسيح وبواسطة الكنيسة عـامّة والرسل خاصّة، والشكل السابق قـد يوحى بذلك.

صحيح أنّ يسوع المسيح هـو ” الوسيط” بين الآب والبشر، إلاَّ أنّه هـو نفسه الله وإنسان، واحـد مع الله وواحـد مع البشر، فـلا تمثّـل وساطـته عـائقـًا يحـول دون العـلاقـة الشخصيّة المباشرة. أمّـا الرسل، فما هم ” وسطاء” ـ إذ أنّ المسيح هـو الوسيط الوحـيد [1 تيموثاوس 2: 5] ـ بلّ ” شهـود” له، أرادهم يسـوع المسـيح هكـذا لا ليضـع حاجـزًا بينه وبين البشر بلّ ليبنى كنيسته عـلى أسـاسهم [أفسس 2: 20]، عـلى أسـاس بشـرى فيكـونوا ” آية” له. إنّ الله ـ الآب والابن والـروح القـدس ـ يُخاطب الإنسان مباشـرة ويتعـامل معه مباشـرة، وإن كان فى داخـل الكنيسـة ومن خـلالها.

ونذكـر ـ عـلى نقـيض ذلك ـ حملة شـنّها بعـض رجـال الدين المسلمين ( متولّى الشعـراوى ) عـلى الأديب توفـيق الحكيم عـندما أصـدر فى جـريدة “الأهـرام” فى بداية الثمانينات ” حـوارًا مع الله”، تصـوّر فـيه حـوارًا بين الله والكاتب نفسه، فـقـام عـليه البعـض من منطـلق أنّ الله لا يُخاطـب الإنسـان مباشـرة وإنما عـن طـريق الأنبياء فحسـب. فهـذه النظـرة لا تقـرّها المسـيحيّة وهى ” دين أشخاص” حيث يدخـل الله ـ الآب والابن والروح القـدس ـ فى عـلاقـة وطـيدة وثيقـة مباشرة مع الإنسان بلّ ويسكن فى الإنسان والإنسان يسكن فيه، وذلك بموجب تجسّد الابن ـ الكلمة وقـد وحّـد الله بالبشر نهـائيًـأ.

الفصل الثالث
موضوع الوحى

يدور موضوع الوحى حول قطبَين متكاملين: الوحى بالله والوحى بالإنسان، إظهـار حقيقة الله وحقيقة الإنسان، وهـذان القطـبان مرتبطان إرتباطـًا وثـيقـًا فى كون الله خـلق الإنسان وخلّصه: فلقـد أعـلن الله للإنسان من هـو الله فى حـدّ ذاتـه ـ { أَهْيَهِ اَلَّذِي أَهْيَهْ } [خروج 3: 14]، { اللهَ مَحَبَّةٌ } [1يوحنا 4: 8] ـ كما أعـلن له مَنْ هـو الإنسان ـ مخـلوق { عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا } [تكوين1: 26، 27]، { مُشَابِهِينَ صُورَةَ اِبْنِهِ} [ رومية 8: 29]، و { شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ } [2بطرس1: 4] ـ كما أعـلن له العـلاقـة التى تربطهما، عـلاقـة العـهد والخـلاص ـ هو إله إسرائيل وهم شـعـبه، يسـوع المسـيح هـو مخـلّص البشر ـ

وسنحلّل بالمنظـور المسـيحىّ كلاً من القـطـبين عـلى حـدّة، فأمّـا الله فمـن منطـلق أنّه ” محبّة”، وأمّـا الإنسان فمـن منطـلق أنّـه ” شريك فى الطـبيعـة الإلهيّة”.

الله محبة

إنْ أردْنـا أنّ نعـرف مَن هـو الله فى المنظـور المسيحىّ، إستندنـا ضـرورةً إلى التعـريف الذى تستأثر به المسـيحيّة دون سـواها من الديانات وقـد عـبّر عـنه يوحنا خـير تعـبير عـندما قـال: { اللهَ مَحَبَّةٌ }[1يوحنا 4: 8].

نجـد بوادر لهـذا التعـريف فى اليهـوديّة فى سرّ ” إخـتيار” الله شـعـبه إسرائيل و” العـهد” الذى قـطعـه معـه، وقـد إكـتمل ذلك فى تعـريف يوحـنّا لله. وأمّـا فى الإسلام فـللّه 99 صفـة، منها الله الرحمن الرحيم، وهى أقـرب ما يكون إلى المحبّة، غـير أنّ المحبّة ( باليونانيّة Agapé ) فى المسيحيّة ليست صـفة يثّسـم أو يتحلّى بها الله ضمـن صـفات أخـرى، بلّ هى جوهـره وماهيّته وكيانه، فالله فى حـدّ ذاته محبّة بصفة مطلقـة لا نهائيّة، ويستدعى ذلك شيئًا من التوضيح ويترتّب عـليه سرّ الثالوث الأقـدس.

لا يكفى أنْ نقـول إنّ ” الله محبّة” بمعـنى أنّه يحبّ البشر، أى أنّ حبّه يتناول طرفـًا خارجـًا عـنه، كما أنّ رحمـته أو عـدله أو غـيرهـما من الصـفات موجّهـة إلى الإنسان. فعـندما يُصَـرّح الوحى بأنّ ” الله محبّة” يقصـد أنّ الله ” محبّة” فى ذاته، فى داخـله، فى كيانه، بغـضّ النظـر عـن الإنسان، وقـبل أنْ يخـلق الإنسان، بحيث إنّه يحبّ الإنسان الذى خلقـه لأنّه محبّة فى عـمقه وجـوهـره.

ويترتّب عـلى هـذا حتميّة تواجـد أكـثر من طـرف فى ذات الله، فى داخله وكيانه. ففى الله عـنصـران أو أكـثر يتبادلون المحبّة. فإذا كان هـناك معـنى للقـول ” الله يحب الله”، ” الله يتبادل الحبّ مع الله”، فيجب أنْ يوجـد فى جوهـر الله أكـثر من طـرف يدخـلون فى تيادل الحبّ هـذا.

وهـذا ما قـصـده يسوع الناصرىّ عـندما أوحى بطـرفٍ أوّل ” الآب” وطـرف آخـر ” الابن” وطـرف ثالث اسمه ” الروح القـدس”.

وبين الآب والابن تبادل حبّ وإتحـاد فى الجوهـر:
{ أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ } [ يوحنا 10: 30].
{ اَلَّذِي رَآنِي فَـقَدْ رَأَى الآبَ فَكَيْفَ تَقـُولُ أَنْتَ أَرِنَا الآبَ؟ أَلَسْـتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟ الْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي لَكِنَّ الآبَ الْحَالَّ فِيَّ هُـوَ يَعْـمـَلُ الأَعْـمَالَ. صَدِّقـُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ وَإِلاَّ فَـصَدِّقُـونِي لِسَـبَبِ الأَعْـمَالِ نَفـْسِـهَا } [ يوحنا 14: 9ـ 11].

وبين الآب والابن إتحـاد فى المشيئة والعـمل عـبّر عـنه يسـوع فى قـوله:
{ وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ } [ يوحنا 4: 34].

وقـدّ صـرّح يسوع فى آخـر لحـظة من حـياته، وهـو عـلى الصـليب:
{ أَنَا عَطْشَانُ } [ يوحنا 19: 28].
أىّ أنّ شرابه ـ كطعـامه ـ أن يتمّم مشـيئة الآب، وذلك حـتّى آخـر لحـظة من حـياته عـندما صـرخ:
{ قَدْ أُكْمِلَ } [ يوحنا 19: 30]،
أى تحقـقت مشـيئة الآب بفضـل إتّحـاد مشـيئة يسـوع الابن بمشـيئة الله الآب.

فـفى داخـل الله تبادل إذًا بين الآب والابن. ورُبّ سائل يتساءل: ومـا هـو دور الروح القـدس فى ذلك؟ إنّ الروح القـدس هـو التبادل عـينه بين الآب والابن، وهـو المحبّة التى تجمعهما، وهـو الاتّحـاد الذى يوحّـدهما. فمن شدّة حبّهما بعضهما لبعـض ينبع الـروح، ومن شدّة تلاحمهما بعضهما ببعـض ينشأ الروح. هـو قـُبلتهما وابتسامتهما، كما قـال الآباء الشرقـيّون. هـو الـذى يجعـل الآب والابن ينظـران بعـضهما إلى بعـض ويتحـرّك الواحـد حـول الآخـر ونحـوه، وقـد عـبّر الآبـاء عـن ذلك بالتعـبير اليونانىّ Perichoresis وباللاتينى Circumincessio. وقـدّ عـبّر الفـنّان الروسىّ روبليف ( توفـّى نحو 1430 ) عـن هـذه الدائرة فى أيقـونته الشهيرة عـن ” الثـالوث”، إذ صوّر كلّ أقـنوم ينظـر إلى الآخـر، فى دائرة المحبّة والشركة والتشابه.

ويـصير وجـود الروح القـدس سـؤالاً آخـر: لماذا هـناك روح؟ لمـاذا الله ثـلاثة أطـراف ولا إثـنان أو أربعـة أو أكـثر؟… الحقـيقة أنّ لا أحـد فعـلاً ـ ما عـدا الله وحـده ـ بمقـدوره أنْ يقـول لماذا الله ثـلاثة أشخاص ( أقـانيم بحسب اللفـظ السريانىّ ) ولا أكـثر ولا أقـل. فإن كان هـناك من يقـدر أنْ يقـول لمـاذا، بنـاء عـلى تفكـير عـقلىّ أو إستنتاج منطـقىّ أو غـيرهما، يصبح الله حـينذاك خاضعـًا للعـقـل الـذى يفـرض أنْ يكـون الله إثـنين أو ثـلاثة أو أكـثر. ولكـنّ الله فـوق أيّـة ضـرورة. إنّـه المتعـالى المطـلق والمتسامىّ اللانهـائىّ، ولا يحـدّه أو يُـدركه أىّ عـقـل. إنّ الله ” سـرّ” (1). إنّ جـوهـره آب وابن وروح. هـذا ما أوحى بـه يسوع. هـو هكـذا، وليس غـير هـذا. فـلا ننسَ أنّ الله فى الوحى يكشف عـن ذاتـه، فيقـول مَنْ هـو الله. ولا يستطـيع الإنسان أنْ يكتشف مَنْ هـو الله إنْ لمْ يكشف الله نفسه. فليس العـقـل من ذاتـه قـادرًا عـلى أنْ يعـرف مَنْ هـو الله (2). بلّ هـو الله وحـده الـذى يعـرف ذاتـه. وهـذا ما فعـله يسوع عـندما تحـدّث عـن الآب والابن والـروح(3).

وخـلاصة القـول فى أنّ ” الله محبّة” إنّ فى جـوهـر الله تبـادل محـبّة بين الآب والابن والـروح القـدس. هـذه هى ماهـيّة أو هـويّة الله فى حـدّ ذاتـه، وبنـاء عـلى ذلك بإسـتطـاعـتنا فهـم عـلاقـة ” الله محـبّة” بالإنسان.

فمـن فـيْض محـبّة الله، نَبَـع العـالم. فمـا هـو فى داخـل الله يخـرج إلى الخـارج فى عـمليّة الخـلق، وقـدّ خـلق الله الإنسان عـلى صـورته كمثـاله، أىّ محـبًّا مثـله لأنّـه هـو محـبّة. فمحـبّة الله الداخـليّة بين الأقـانيم الثـلاثة خـرجـت خارجـًا، إذ أراد الله أنْ يُشـرك فى محـبّته كائنـًا ممـيّزًا عـن سائر المخـلوقـات.

ومـن فـيْض محـبّته لـه، أراد أنْ يُخلـّصه من سـلطان الخطـيئة، فإخـتار فى سـبيل ذلك شعـبًا وقـطع معـه عـهـدًا وحـرّره من أرض العـبوديّة وأدخـله أرض الحـرّيّة. ومن هـذا الشعـب ظهـر ابن الله الحـبيب وقـد تجسّـد فى ” ملء الأزمنة” ليتمّم العـهـد الجـديد الأبـدىّ عـن طـريق الخـلاص بمـوته عـلى الصـليب وقـيامته من بين الأمـوات وتمجـيده عـن يمـين الآب وإرسـاله الـروح القـدس للكنيسـة، وقـد أسّـسها لتكـمّـل رسالته بين البشـر حتّى مجـيئه الثـانى حـيث يُخضِع له الآب:
{ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ الْكُلُّ فَحِينَئِذٍ الابْنُ نَفْسُهُ أَيْضاً سَيَخْـضَعُ لِلَّذِي أَخْـضَعَ لَهُ الْكُلَّ كَيْ يَكُونَ اللهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ } [1كورونثوس15: 27، 28].

فكـلّ ذلك ـ من خـلق وعـهـد وخـلاص ـ قـد فعـله الله الثـالوث بالمحـبّة وفى المحـبّة ولأجـل المحـبّة. وهـذا ما يقـودنا إلى إعـتبار الوحى لا يتعـلّق بالله فحسـب، بلّ بالإنسان أيضـًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ليس السرّ ما لا يستطيع الإنسان فهمه، كما تظنّه عـامة المـؤمنين، بلّ هـو ـ بحسب تعـبير أوغسـطينوس ـ وغـابرييل مارسيل ” ما لا ينتهى الإنسان من فهمه كلّما تعـمّق فـيه”.
(2) فمن الخطـأ ـ كل الخطأ ـ البحث عـن الثالوث فيما سبق المسيحيّة، لدى الفـراعـنة مثلاً ( إيزيس وأوزوريس وحورس ). فأقصى ما هـناك، بعـض التشابيه التى قـد تساعـد عـلى فهم الثالوث، مثل الذراع واليد والإصبع، أو الشمس والشعاع والحـرارة… غـير هـذه التشابيه ـ النقصة فى حدّ ذاتها ـ ليست برهـانًا للثالوث، فـلا برهـان عـلى الإطـلاق، إنّمـا هـناك وحى من الله بذاته.
(3) للمزيد من المعلومات عـن سرّ الثالوث، إرجع إلى : الأب هنرى بولاد اليسوعىّ:” منطق الثالوث الأقدس” ـ سلسلة ” موسوعـة المعرفة المسيحيّة” ـ العـقيدة 1 ـ دار المشرق ـ بيروت 1989، وننوى نشر كتاب بعـنوان :” سرّ الله الثالوث ـ الأحد”.

الانسان شريك في الطبيعة الالهية

ظهـر الله لنـا إله الإنسان، إلهـًا للإنسان، مـنذ أنّـه عـلى صـورته كمـثاله وقصـد أنْ يكون إلهـًا بالتبنّى. فثمّـة تطـابق بين الله فى داخـله أى فى حـدّ ذاتـه، وبين الله فى خـارجه أى الإنسان.

غـير أنّ قـصـده هـذا قـد حقّـقه الله، بسبب خطـيئة الإنسان، عـن طـريق الخـلاص، ذلك الخـلاص الـذى بـدأ بالإخـتيار والعـهـد مع شعـب إسرائيل وبتحـريره من أرض العـبوديّة فمنحـه أرض المـيعـاد، وإكتمـل نهـائيًا بابنه يسوع المسيح فى سـرّ مـوته وقـيامته ومنحـه الـروح القـدس.

لنحلّـل هـذين الوجهـين بالتتالى:

1- يؤله الانسان

يُصـرّح المحمع الفـاتيكانى الثـانى:
” إنّ الله غـير المنظـور، فى فيض محـبّته للبشـر، يكلّمهم بهـذا الوحى كأحـياء، ويتحـدّث إليهم ليدعـوهم إلى شركته ويقـبلهم فـيها” ( فى الوحى الإلهىّ رقم 2 ).

فإنْ كان الله قـد خـلق الإنسان{ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا } [تكوين1: 26، 27] وقصـد البشر { قِـدِّيسِين، بِـلا عَـيْبٍ، فِى المَحَـبّةِ } [ أفسس 1: 4]، فمـلء قـصـده من خـلق الإنسان إنّمـا هـو أنْ يُصْبح البشر{ شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ } [2بطرس1: 4].

* فمشـيئة الله الآب المطـلقـة، عـندما خـلق البشـر عـلى صـورته كمثـاله، إنّمـا هى هـذا ” التـأليه” (Divinisation ) أو “التـألّه” ( Déification ) بحسب الآبـاء الشرقـيّين إعـتمادًا منهم عـلى تعـبير بطـرس. وإنّمـا قــصـده أن ينـالوا ” التبنّى” (Adoption filiale ) بحسب الآبـاء الغـربيّين إعـمادًا عـلى تعـابير بولس:
{ إِذْ سَبَقَ فَعـَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ } [ أفسس 1: 5].

وهـو يسوع المسيح الذى أعـلن للإنسان أنّ الله آب:
{ …وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ الاِبْنُ إِلاَّ الآبُ وَلاَ مَنْ هُوَ الآبُ إِلاَّ الاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْـلِنَ لَهُ } [ لوقـا 10: 21، 22].
كما أنّ يسوع المسيح هـو الـذى إستحـقّ للإنسان أنْ ينـال البنـوّة.

وهـو الـروح القـدس الذى جعـل الإنسان يكتشـف أبّـوة الآب ويعـترف بهـا:
{ اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضاً يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اَللهِ…. بِهِ نَصْرُخُ: يَا أَبَا اَلآبُ!… لأَنَّ اَلْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضاً سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ اَلْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اَللهِ…} [ رومية 8: 16، 15، 21، غـلاطية 4: 6].

* وتتضمّن هـذه البنـوّة أنْ يكـون يسوع المسيح ـ ابن الآب المتجسّـد ـ { هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ } [ رومية 8: 29]، فهـو { اَلابْن اَلْوَحِـيد } [ يوحنا 3: 16 ]، و { اّلابْن اَلْحَـبِيب } [ مرقس 1: 11] للآب.
وقـد أشـرك البشـر فى بنـوّته الإلهـيّة، معـتبرًا إيّـاهم ” إخـوته”:
{ لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُـوَهُمْ إِخْوَةً } [عـبرانيين2: 11، 12، 17]، وداعـيًا إيّـاهم أصـدقاءه:
{ لاَ أَعُـودُ أُسَـمِّيكُمْ عَـبِيداً لأَنَّ اَلْعـَبْدَ لاَ يَعْـلَمُ مَا يَعْـمَلُ سَـيِّدُهُ لَكِنِّي قَـدْ سَـمَّيْتُكُمْ أَحِـبَّاءَ لأَنِّي أَعْـلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَـمِعـْتُهُ مِنْ أَبِي } [ يوحـنا 15: 15].
وتتّجـه البنـوّة والأخّـوة والصـداقـة نحـو سـيادة يسـوع المسيح عـلى البشـر بأجمعـهم. بلّ إنّمـا هـدف الله الآب مـنْ خـلق العـالم أنء يكـون العـالم ” بـه” و” فـيه” و” نحـوه” و” لـه” [ كولوسى 1: 16] ليجمـع ويُدمـج ويشـمـل ويـترأّس ويُلخّـص ( هــذا هـو معـنى اللفـظـة اليونـانيّة Anaké- phalaio)):
{ لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ } فهـذا هـو { سِـرِّ مَشِيئَة } الآب المطـلق، { حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ } أىّ ” منذ القـدم” [ أفسس 1: 9، 10].
ولأجـل ذلك يجـذب الآب البشـر لابنـه:
{ أَنَا أَظْهَرْتُ اِسْمَكَ لِلنَّاسِ اَلَّذِينَ أَعْـطَيْتَنِي مِنَ اَلْعَالَمِ. كَانُوا لَكَ وَأَعْـطَيْتَهُمْ لِي وَقـَدْ حَفِظُوا كلاَمَكَ } [ يوحنا 17: 6].
{ كُلُّ مَا يُعْـطِينِي اَلآبُ فَإِلَيَّ يُقْـبِلُ } [ يوحنا 6: 37].
فيمكن إعـتبار الإنسان هـديّة الآب للابن، فكمـا أنّ الآب يهـب ذاتـه للابن هـبّة أزليّة، إنـّه يهـبه البشـر هـبة تاريخـيّة، والابن يتقـبّلهم من الآب ويعـيدهم إليه:
{ َكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ } [ يوحنا 17: 10].

ويعـمل الروح القـدس فى سـبيل تحـقـيق هـذا السـرّ المخفىّ، فيشـترك البشـر فى مجـد يسـوع المسيح عـند الآب، فيصـبحـون { وَرَثَةُ اَللهِ وَوَارِثُونَ مَعَ اَلْمَسِيحِ } [ رومية 8: 17]، مـيراث ” الحـياة الأبـديّة”، بحسـب تعـبير يوحـنّا، وهـى تبـدأ من الحـياة الدنيا بمعـرفـة الآب والابن [ يوحنا 17: 3] وبالإعـتراف بأنّ { يَسُـوع رَبٌّ } [1كورونثوس 12: 3].

فالبنـوّة والأخـوّة والصـداقـة والحـياة الأبـديّة، لم يتوصّـل الإنسان إلى معـرفـتها وحـده بعـقله، بلّ إنّ الله هـو الذى كشفها لـه:
{ أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّـمَاءِ وَالأَرْضِ لأَنّـَكَ أَخْـفـَيْتَ هَـذِهِ عَـنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَـمَاءِ وَأَعْـلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَـمْ أَيُّهَا الآبُ لأَنْ هَكَـذَا صَارَتِ الْمَسَـرَّةُ أَمَامَكَ } [ لوقا10: 21] (3مكرر).

* ويتضمّـن كـذلك الوحى المسـيحىّ أنّ الروح القـدس يسكن فى الإنسان:
{ أَمَا تَعـلَمُونَ أَنَّكُمْ هَـيْكَلُ اَللهِ وَرُوحُ اَللهِ يَسْـكُنُ فِيكُمْ؟… لأَنَّ هَـيْكَلَ اَللهِ مُقَـدَّسٌ اَلَّذِي أَنْتُمْ هُـوَ } [1كورونثوس3: 16، 17 / 6: 9/ 2كورونثوس 6: 16].

فالمـؤمن بيسـوع المسـيح هـو هـيكل الـروح القـدس إذ يحـلّ فـيه الروح فيسكن فـيه ويمـلأه (4)، ويجعـل الآب والابن يسكـنان فـيه إذا أحـبّوا إخـوتهم [ يوحنا 15: 15ـ 23]، لأنّ الـروح القـدس هـو روح المحـبّة { لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ اِنْسَكَبَتْ فِي قُـلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُـدُسِ الْمُعْـطَى لَنَا } [ رومية 5:5].

وإنّ إعـتبرنا الـروح القـدس وسيلة ( إذ يقـود إلى الآب والابن والإخـوة )، فهـو غـاية أيضـًا. فنجـد يسـوع يَعـِدْ بـه خمس مـرّات فى خطـبة وداعـه:
{ إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي وَلَكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ } [ يوحنا 16: 7 ].

وكـان قـد وعـد بـه نيقـوديموس [ يوحنا 3 ] والسامريّة [ يوحنا 4 ] وفى عـيد المظـال:
{ إِنْ عَـطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْـبِلْ إِلَيَّ وَيَشْـرَبْ. مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ اَلْكِتَابُ تَجْـرِي مِنْ بَطْـنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ. قَالَ هَـذَا عَـنِ اَلرُّوحِ اَلَّذِي كَانَ اَلْمـُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعـِينَ أَنْ يَقْـبَلُوهُ } [ يوحنا 7: 37ـ 39 ].

فمـن خـلال هـذه النصوص وغـيرها، يتّضـح أنّ الـروح القـدس هـدف الحـياة المسـيحيّة.

وبنـاء عـلى ما سـبق من عـلاقـة أقـانيم الثـالوث مع الإنسان، يُعـلن الوحى أنّ البشـر فيمـا بينهم إخـوة. فما من فـوارق بين الرجـل / المـرأة، بين اليهـودىّ / الوثنىّ …. بلّ العـلاقـة بين البشـر هى أسـاسـًا وجـوهـرًا عـلاقـة محـبّة أخ / أخ فى الثـالوث وعـلى مثـاله:
{ وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هَؤُلاَءِ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً مِنْ أَجْلِ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكلاَمِهِمْ
لِيَكُونَ اَلْجَمِيعُ وَاحِداً كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا لِيُؤْمِنَ اَلْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي.
وَأَنَا قََدْ أَعْطَيْتُهُمُ اَلْمَجْدَ اَلَّذِي أَعْطَيْتَنِي لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ.
أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ وَلِيَعْلَمَ اَلْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي.
أَيُّهَا اَلآبُ أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا لِيَنْظُرُوا مَجْدِي اَلَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قََبْلَ إِِنْشَاءِ اَلْعَالَمِ.
أَيُّهَا اَلآبُ اَلْبَارُّ إِنَّ اَلْعَالَمَ لَمْ يَعْرِفْكَ أَمَّا أَنَا فَعَرَفْتُكَ وَهَؤُلاَءِ عَرَفُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي.
وَعَرَّفْتُهُمُ اِسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ لِيَكُونَ فِيهِمُ اَلْحُبُّ اَلَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ } [ يوحنا 17: 20 ـ 26].

ويعـود الفضـل فى ذلك إلى يسـوع المسيح ” الأخ البكـر” وهـو يجمع ويدمج فى شخصه البشـر أجمعـين فيجعـلهم إخـوة لـه وأبنـاء للآب، ويمنحهم الروح القـدس الذى يفـيض بالمحـبّة فيهم أجمعـين [ رومية 5:5].

ويحـيا الإنسان هـذه العـلاقة مع الثالوث ومع الإنسان فى حاضـره، بين ماضـيه ومسـتقـبله.

وأمّـا ماضـيه أو أصـله، فـيكون فى أنّ الله الآب خـلقـه عـلى صـورته كمثـاله وعـلى مـثال صـورة الابن، أى فى المحـبّة والقـداسـة [ أفسس 1: 4]. لذلك دعـا يسـوع الجمـوع إلى القـداسة [ متى 5: 48 ] والمحـبّة [ يوحنا 13: 16]. وهـذا هـو صمـيم عـمل الـروح فى الإنسان، إذ إنّه الـروح القـدّوس وروح المحـبّة.

وأمّـا مسـتقـبل الإنسان أو هـدفه، فهـو الإتّحـاد الكـلّىّ بالله، الله الآب الذى يصبح { كَيْ يَكُـونَ اللهُ الْكـُلَّ فِي الْكُـلِّ } [1كورونثوس 15: 28]، الله الابن حـيث يصبح المـؤمن به ” فى المسـيح” و ” مع المسـيح” ( بولس)، الله الروح مانح الحـياة [ رومية8: 1ـ17]. فالوحى المسـيحىّ يُقـرّ أنّ غـاية حـياة الإنسـان هـى ” الحـياة الأبـديّة” ( يوحـنّا )، لـذلك أكـثر يسـوع من أمثال ” ملكـوت الله” ( الإزائيّـات ).

إلاّ أنّ هـذا مسـتقـبل حـياة الإنسان فى حـاضـره أى فى واقـع حـياته الأرضـيّة، حـيث إنّ ملكـوت الآب هـو من الآن بـين البشـر [ لوقـا 7: 21 ] وحـيث إنّ الحـياة الأبـديّة تبـدأ عـلى الأرض بالإيمـان:
{ وَهَـذِهِ هِيَ اَلْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْـرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ اَلْحَـقِيقِيَّ وَحْـدَكَ وَيَسُـوعَ اَلْمَسِـيحَ اَلَّذِي أَرْسَـلْتَهُ } [ يوحنا 17: 3].

فـهـذه الإخـتباريّـة الإيمـانيّة، لا يتـوصّـل إليهـا الإنسـان وحـده من تـلقـاء نفسـه، بـلّ يكـشـفهـا لـه الله ولا سيّما الـروح وهـو ” باكـورة ” الحـياة الأبـديّة و” عـربون المـيراث” [ رومية 8: 18 ـ 30، أفسس 1: 14].

كشـف الله للإنسان معـنى ماضيه وحاضره ومسـتقـبله، كشـف له حـقـيقة عـلاقـته معـه ومع أخـيه. هـذا هـو موجـز الوحى المسيحىّ المتعـلّق بتـأليه الإنسان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3مكرر) للمزيد من الاستفسار عـن عـلاقة البشر مع المسيح، راجع الفصلين الأوّل والثانى من كتابنا:” سرّ مشيئة الله وحرّيّة الإنسان” ـ سلسلة ” الإيمان والحياة” رقم 12 ـ مطبوعات الآباء اليسوعـيين فى مصر ـ القاهرة ـ 1922
(4) هل يعـنى كلّ ذلك البشر أجمعـين، أم المؤمنين فحسب؟ سؤال شائك أجبنا عـنه فى محاضرات فى ” سر المعموديّة” ـ معهد الدراسات اللاهوتيّة بالسكاكينى ـ القاهرة 1988ـ 1989. وخـلاصـة ما توصّلنا إليه أنّ الروح القتدس ” يعمل” فى جميع البشر ولكنه ” يسكن” فى المؤمنين بيسوع المسيح فقط.

2- الله يخلص الانسان

كانت البنـوّة فى المحـبّة والقـداسة جلّ ما قـصـده الله عـندما خـلق الإنسان عـلى صـورته كمثـاله. إلاّ أنّ دخـول الخطـيئة إلى العـالم وإلى الإنسان قـد شـوّهـت صـورة الله هـذه فى الإنسان وجعـلته لا يتّجـه ” نحـو” يسـوع المسـيح، فأراد الله بالتـالى أن يعـيدهـا إلى أصـلها ويعـيد الإتّجـاه ” نحـو” ابنه، أى أنْ يُحـرّر الإنسان من سُـلطـان الخطـيئة والمـوت فيُخلّصـه (5).

ويقـول المجمع الفاتيكانى الثـانى فى هـذا المضمـار:
” أكمـل المسيح الوحى وتمّمـه وثبّته بشهـادة إلهـيّة، مبيّنـًا أنّ الله معـنا حقـًا ليحـرّرنا من الخطـيئة ومن ظلمـات المـوت، ويُـقيمـنا للحـياة الأبـديّة” ( فى الوحى الإلهى رقم 4 ).

فالخـلاص هـو الإنجـيل، أى البُشـرى التى أعـلنها يسـوع، لأن الإنسان كان يجهـلها، إذ كان منغـمسـًا فى الخطـيئة، التى عـتّمـت معـرفـته لله.

* ولقـد تمّ هـذا الخـلاص بأقـوال يسـوع وأفعـاله:
” هـذا ما صـنعـه المسـيح بحضـوره وإظهـار ذاته، وبأقـواله وأفعـاله، بآيـاته ومعـجـزاته، وخاصّة بمـوته وبقـيامته المجـيدة من بـين الأمـوات، وأخـيرًا بـروح الحـقّ الذى أرسـله” ( رقم 4).

هـذا وقـد قـال يسـوع لرسـل يوحـنا المعـمدان:
{ اِذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا ( = الأفعـال الخـلاصيّة ) وَسَمِعْـتُمَا( = الأقـوال الخـلاصيّة ): إِنَّ اَلْعُـمْيَ يُبْصِرُونَ وَاَلْعُرْجَ يَمْشُونَ وَاَلْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ وَاَلصُّمَّ يَسْمَعُونَ وَاَلْمَوْتَى يَقُومُونَ وَاَلْمَسَاكِينَ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ } [ لوقا 7: 22، 23].

فرسالة يسـوع من تعـاليم ومن معـجـزات، إنّمـا هى بـداية الخـلاص الذى إكـتمـل فى آلامـه ومـوته عـلى الصـليب، فـقـيامـته وتمجـيده وإرساله الـروح القـدس. فإلـه لا يتألّم إله لا يحـبّ. هكـذا أتى يسـوع ليُعـلن للإنسان ما لم يعـرفـه، وهـو أنّ هـناك أقـوالاً وأفعـالاً خـلاصيّة تخلّصـه من سـلطان الخطـيئة.

* ولم يقـتصـر إعـلان يسـوع عـلى ذلك، بلّ قـال للإنسان إنّ عـليه أن يتمّم ما قـام به هـو من خـلاص ـ كما رأينا فى { إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي. فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا. لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟ } [ متى 16: 24 ـ 26]، وإلاّ أصـبح الخـلاص عـملاً سحـريًّا. فأشـرك الله الإنسان فى خـلاص نفسـه وخـلاص البشـريّة، كما أشركه فى طـبيعـته الإلهـيّة:{ وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً } [ لوقـا 14: 27].

فعـلى مثـال يسـوع المسـيح، يثبّت الإنسان حـبّه فـينال الخـلاص بالألم، فما من حبّ إلاّ حبّ متـالّم. فليس الخـلاص عـمل الله فقط، بلّ عـمل الإنسان مع الله أيضـًا. وقـد فهـم بولس ذلك حقّ فهـم إذ إخـتبره فى حـياته:{ الَّذِي الآنَ افْرَحُ فِي الاَمِي لأَجْلِكُمْ، وَأُكَمِّلُ نَقَائِصَ شَدَائِدِ الْمَسِيحِ فِي جِسْمِي لأَجْلِ جَسَدِهِ: الَّذِي هُوَ الْكَنِيسَةُ } [ كولسى 1: 24].

فإذا خلّص يسـوع المسـيح الإنسان بمـوته وقـيامته، وآلامـه ومجـده، بإرتفـاعـه عـلى الصـليب وعـن يمـين الآب، إنّه كشـف للإنسان معـنى الألم والمـوت اللذين يثمـران ثمـر الخـلاص والحـياة، فـلا مجـد بـدون ألم ولا حـياة بـدون مـوت: { إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ اَلْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ }
وشـرح هـذا الكـلام شـرحًا واقـعـيًا فى صـميم حـياة الإنسان، فقـال: { مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا اَلْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ } [ يوحنا 12: 24، 25].

فلم يعُـد الألـم والمـوت عـبثـًا لا معـنى لهمـا، بلّ إكتسـبا بيسـوع المسـيح معـنى عـميقـًا، ألا وهـو أنّهما يقـودان إلى الخـلاص والحـياة.

وكلّ شخـص يتألّم يتّحـد بشخـص المسيح المتألّم وبآلامـه الخـلاصيّة، عـلاوة عـلى أنّ الآلام فى حـدّ ذاتها تطهّـر المتألّم من ذاته كالنار. فهـذه هى ثمـرة الألم الثـلاثيّة: تطهـير الذات، والاتّحـاد بالمسـيح، والاشتراك معـه فى خـلاص البشـر.

هكـذا كشـف يسـوع للإنسان أنّ الحـياة تمـرّ حـتمـًا بالمـوت، والمجـد بالألم، والخـلاص بالصـليب، والفـرح بالحـزن، والخـدمة بالتواضـع، والأوّل بالآخـر، والربـح بالخسارة… وكلّ وكلّ ذلك لم يعـرفـه الإنسان وحـده من تلقـاء نفسه، بلّ أوحى به يسوع، كاشفـًا لـه سنّة الحـياة المسيحيّة، بلّ سُنة الحـياة البشريّة. يريـد الإنسان أن يصـل إلى الحـياة بالحـياة، إلى الفـرح بالفـرح، امّـا يسـوع فيقـول لـه إنّما الوسيلة التى تقـود إلى الغـاية هى الصـليب دون غـيرها من الطـرق(6). هـذا هـو معـنى الخـلاص الذى أوحى به يسـوع، لا بكـلامه فقـط، بلّ بحـياته كلّها من معـاملات وتصرّفـات، من معجـزات وآيات، بمـوته وقـيامته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) أنّ فكرة الخلاص من صميم الوحى اليهودىّ ـ المسيحىّ، ولا يعـرفها الإسلام لأنّه لا يعـتقد أنّ الخطيئة تمسّ جوهر الإنسان وتشوّه أصله. فثمّة فرق شاسع بين الوحى اليهودىّ ـ المسيحىّ وبين الإسلام فى نظرتهما إلى الإنسان.
(6) بحسب دراسة عن توفيق الحكيم، اتّضح أنّ هذا الأديب المسلم يتحدّث عـن الموت / القيامة فى معـظم رواياته ومسرحيّاته. ولم ينتبه هـو بنفسه إلى ذلك ممّا يعنـى أنّ فكرة الموت / القيامة سُنّة الإنسان وجوهره، وإنْ لمّ يكن مسيحيًا. هكذا يكون يسـوع قد كشف للإنسان أعماقه، وهو يجهلها وإن كان يحياها بالفعل.

3- الانسان بين التأليه و الخلاص

إذا أردنـا أنْ نُدْرك الصـلة الوثيقـة القـائمة بين التألّـه والخـلاص، عـلينا أنْ نوقـن أنّ الهـدف هـو التألـيه وهـو قـصد الله الأوّل. وأمّـا الخـلاص فهـو الوسـيلة وهـى تقـود إلى التألّـه. ويقـول بولس فى هـذا الصـدد: { وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ اَلزَّمَانِ، أَرْسَلَ اَللهُ اِبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ اِمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ اَلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ اَلَّذِينَ تَحْتَ اَلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ اَلتَّبَنِّيَ } [ غـلاطية 4: 4، 5].

فهـناك الفـداء ( أو الخـلاص ) فى سبيل التبنّىّ ( أو التأليه ).

فما التجسّـد والفـداء إلاّ إعـادة الصـورة المشـوّهة إلى أصـلها وإعـادة الإتّجـاه ” نحـو” يسـوع المسـيح، وبتعـبير آخـر يمكن القـول بأنّ الخطـيئة أفـقـدت الإنسان قـداسـته وبنـوّته وإتّجـاهه، فلم يعـد شـريك الطـبيعة الإلهـيّة، فيسـوع المسـيح قـد إسترجعـها بتجسّـده وفـدائه، بأقـواله وأفعـاله الخـلاصيّة، بمـوته وقـيامته، وبإرسـاله الروح القـدس، روح الآب والابن.

ولقـد شـبّه إيريناوس عـمل الثـالوث الخـلاصىّ هـذا بالخـزّاف.
فالآب هـو الخـزّاف الذى يشـكّل الخـزف ـ أى الإنسان ـ بيـديه، يـد من الخـارج ـ وهى يسـوع المسـيح، وجه الآب المـرئىّ ـ ويـد من الداخـل ـ وهى الـروح القـدس غـير المـرئىّ ـ.

وهـناك تطـبيق رعـوىّ لذلك.

يجـب التشـديد عـلى التألّه ـ كغـاية ـ فى حـين أنّ التشـديد المتّـبع هـو عـلى الخـلاص ـ وهـو الوسـيلة من أجـل غـاية التألّه. وإنّ هـذا لمهـمّ كلّ الأهـمّيّة فى محـيطـنا العـربى حـيث يحـقّ للمـؤمنين أن يسـمعـوا البُشـرى عـلى حـقيقتها وبجـذريّـتها، ألا وهى أنّـنا أبنـاء الآب وإخـوة يسـوع المسـيح المخلّصـين وهـياكل الـروح القـدس وإخـوة بعـضـنا لبعـض. ومـا الخـلاص إلاّ الطـريق والوسـيلة ـ الطـريق الوحـيد والوسـيلة الوحـيدة بـدون رَيْب، ولكنّـها طـريق فحسـب ـ لإدراك الهـدف، هـدف الحـياة البشـريّة، ألا وهـو التأليه ( التبنّىّ ).

الخاتمة: بين الوحي اليهودي- المسيحي و الاسلام

يتمـيّز الوحى اليهـودىّ ـ المسيحىّ بأنّه مُعـلن من منطـلق أقـوال الله وأفعـاله ـ الإخـتيار والعـهـد والتحـرّر، التجسّـد والفـداء ـ بيـد أنّ الوحى فى الإسـلام يُعـلن أقـوال الله ( حسب إدعائهم ) فحسـب ( إذا إستثنـينا الخـلق بالطـبع ).

فإنّ أفعـال الله فى الوحى اليهـودىّ ـ المسيحىّ تُظهـر قـرب الله من البشـر وتأثـّره بهم، فليس بالإلـه البعـيد والغـير المتأثّـر بما يحـدث لهم. فى ذلك، يكمـن فى نظـرنا الفـرق الجوهـرىّ بين الإله اليهـودىّ ـ المسيحىّ من جهـة وإلـه الإسـلام من جهـة أخـرى.

وبين الوحى اليهـودىّ والوحى المسـيحىّ فـرق جـوهـرى وهـو أن قـرب الله من البشـر وتأثّـره بهم ذهـبا به إلى أنّـه: { وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا } [ يوحنا 1: 14]. فـفى العـهـد القـديم، كان تـابوت العـهـد ـ وهـو يرمـز إلى حضـور الله ـ فى وسـط الشعـب، وأمّـا فى العـهـد الجـديد فأصـبح الله إنسانـًا: { لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَـبْدٍ، صَائِراً فِي شِـبْهِ اَلنَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي اَلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى اَلْمَـوْتَ مَـوْتَ اَلصَّلِيبِ } [ فيليبى 2: 7، 8].

فالتجسّـد والفـداء هـما حـقيقة { عـِثَـارٍ لِلْيَهُـود وحَمَـاقَةً لِلأُمَـمِيِّين ( المسلمين ) } [1كورونثوس 1: 23] ( سبعينية ).

ويترتـّبْ عـلى ذلـك نظـرة الـوحى إلى الإنسـان. فـإنْ كـان مخـلوق من الله فى الأديـان الثـلاثـة، إلاّ أنّ اليهـوديّـة أظهـرت طـابـع ” الإختيار” و” العـهـد”، ممّـا يرفـع الشـعـب المخـتار إلى درجـة عـاليـة نحـو الله. وإكـتمـل هـذا ” الإخـتيار” فى ” العـهـد الجـديد” حـيث خصّ جمـيع البشـر لا شعـبـًا واحـدًا، ورفعـهم أعـظم رفـع حـيث جعـلهم ” شـركاء الطـبيعـة الإلهـيّة”. وهـذا أيضـًا ” عـثرة لليهـود وحماقـة للمسلمـين”.

الخاتمة

فى خـتام جـولتنا لتفهّـم الوحى، يمكنـنا إبـراز الحـقيقـتين التاليتين:

· إنّ الوحى مـبادرة من الله ليُعـلن ذاته للإنسـان بلّ وليُعـلن الإنسان للإنسان، وقـد تحقّـقـت هـذه المـبادرة تدريجـيًّـا فى الوحى اليهـودىّ ـ المسيحىّ، غـير أنّ بحـث الإنسان عـن الله فى ” الأديـان الطـبيعـيّة” يعـود هـو أيضـًا إلى مـبادرة من الله. وهـذه المـبادرة الإلهـيّة نابعـة من محـبّة الله.
· عـندما أوحى الله بذاتـه وبالإنسان، أشـر ك الإنسان فى الوحى ولم يُنـزّله عـليه. ويعـود ذلك إلى منطـق التجسّـد حـيث جمع يسـوع الله والإنسان فى شخـصه.

من منطـلق ما توصّـلنا إليه بشأن الوحى، بمقـدورنـا أن نصـوّب نظـرنا نحـو إيمـان الإنسان كتجـاوب منه مع وحى الله، إذ يوحى الله بنفـسه ليـؤمن الإنسان بـه. هـذا هـو موضـوع الوحـدة الثـانية.

اقوال يسوع كلمة الله

اكتمال الوحي في يسوع المسيح

شهادة بطرس بالوهية يسوع
المدخل العام